; الحياة بالعقيدة: يا من أتعبكم الصعود.. تطلعوا إلى هذه القمة | مجلة المجتمع

العنوان الحياة بالعقيدة: يا من أتعبكم الصعود.. تطلعوا إلى هذه القمة

الكاتب أحمد عثمان مكي

تاريخ النشر الثلاثاء 25-مايو-1971

مشاهدات 16

نشر في العدد 61

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 25-مايو-1971

الحياة بالعقيدة:

يا من أتعبكم الصعود.. تطلعوا إلى هذه القمة

نشأة جديدة للإنسان.. يصنعها الإيمان.. ويصوغها

بقلم: أحمد عثمان مكي

 

العقيدة تبني النفوس بناء قويًا محكمًا، حتى إذا انطلقت كان لانطلاقها دوي وأزيز مثل قوة العقيدة نفسها؛ وهي قوة دافعة في النفس وفى القلب؛ وإن هي التحمت بالنفس وسمت عن أن تكون مجرد فكرة نظرية أسلست الجوارح لها وطوعت الأهواء والرغبات الفانية لخير النفس وسعادتها، وما تربى قوم بالعقيدة ثم انطلقوا؛ يجوبون البقاع والأصقاع ويعتلون الشواهق والقمم بين السهول والوديان والفلوات؛ جهادًا لتمكين هذه العقيدة ونصرها، إلا وكان النصر المؤزر حليفهم، وذلك لأن النفوس قد تطهرت من كل مقصد ومطلب من وراء خروجها هذا، ولأنها إنما تفعل هذا مدفوعة بإيمان لا يتزعزع ويقين لا يتضعضع، مسنودة بقوة لا تحدها حدود ولا يقف أمامها حائل، فيحلو لها بذل النفس والدم والمال طاعة لله، بل تقربًا إليه إيمانًا منها بأنها إنما تؤدي حقًا عليها، وترد دينًا عنها، فهي تستعذب القتل والطعن وتزهد في الحياة وزينتها في سبيل أن تبقى على عقيدتها طاهرة نقية، وصاحب العقيدة الإيمانية لا يقبل بدلًا عن عقيدته وإن ارتفع الثمن، وكثر الربح للظاهري الدنيوي وهو لا يبيعها بمال لعدم التكافؤ بين الاثنين، ولأنه إذا جازت المساومة في شيء فإنها لا يمكن أن تجوز في الحق وفي عقيدة الحق، خاصة إن نزلت بمنزلة اليقين في القلب، وقد كان الرعيل الأول؛ رضي الله عنهم أجمعين، خير سلف في هذا المجال وعلى هذا الدرب، ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة- أحد الصحابة رضي الله عنهم- أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي فقال له عبد الله: «لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت» فقال: «إذن أقتلك» فقال: «أنت وذاك»، فأمر به فصلب وأمر بالرماة فرموا قريبًا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه- وعبد الله ينظر- فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقي فيها فبكى، فطمع فيه- أي الملك- ودعاه، فقال عبد الله- ملقمًا إياه حجرًا: «إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله»، هكذا تصنع العقائد الرجال وتخلق منهم أبطالاً لا تلين لهم قناة ولا يساومون على مبادئهم، الموت عندهم أفضل من حياة بلا عقيدة، ولأن العقيدة هي حياتهم؛ فإذا انتفت ذهبت حياتهم، وذلك لأن الإنسان الذي يعيش ويحيا في هذه الدنيا بلا عقيدة مثله مثل المسافر بلا زاد يحمله، ولا يزال الدرب أمامه طويلًا شاقًا، والفرد الذي يحرم نفسه من عقيدة سليمة يهتدي بها لا شك سيبقى طوال حياته سقيم التفكير مزعزع النفس، ولنأخذ أمثلة لهذه الطلائع النادرة، التي آمنت بربها واستمسكت بعقيدتها رغم تصدي الجاهلية وتنكيل الطغاة.

 

أنا أصم لا أسمع

إذا كان ابن حذافة، رضي الله عنه، يبكي لأن نفسه واحدة ولأنها قليلة بجانب ضخامة العقيدة وقداستها، ولأنه إنما يلقى العذاب في الله لينال رضاه وجنته، إن كان عبد الله فعل الذي فعل؛ فقد ضرب الصحابي الجليل حبيب بن زيد بن عاصم صورة رائعة من البطولة والفداء؛ ونبذ الدنيا شهيدًا عزيزًا كريمًا بدلًا من أن يحيا فيها كافرًا بربه مشركًا به، اختار النبي صلى الله عليه وسلم حبيبا ليكون مبعوثه برسالة إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، ولما أن وصل المبعوث غدر به مسيلمة- لعنه الله- وقبض عليه وصار يهدده محاولًا إضلاله، وقد أغاظه أن يكون هذا الفتى الذي يقف أمامه من خيرة أصحاب الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن أكثرهم بلاءً ودفاعًا عن عقيدة الإسلام،. وأكثر من ذلك أنه من أسرة عرفت بالجهاد واتخذته شغلًا لها وحياة، فهو من أسرة زيد بن عاصم؛ التي شاركت كلها في غزوة أحد، إذ اشترك فيها حبيب هذا وأبوه زيد بن عاصم وأمه نسيبة بنت كعب وأخوه عبد الله بن زيد، ولنستمع للحوار الذي دار بين الرجلين مسيلمة- بين أنصاره- وحبيب بمفرده.

مسيلمة: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟

حبيب: نعم أشهد أن محمدًا رسول الله.

مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟

حبيب: أنا أصم لا أسمع.

فيقوم مسيلمة ببتر عضو من أعضائه ويعيد عليه السؤال مرة أخرى فيجيبه حبيب بإجابته الثابتة «أنا أصم لا أسمع» وكل مرة يقطع منه عضوًا، فقطع يديه ورجليه وهو لا يزال عند موقفه من أن رسول الله هو محمد بن عبد الله وليس هذا الكذاب، ويعلن هذا حتى آخر لحظة من حياته، حتى سقط شهيدًا يردد «لا إله إلا الله» ولسانه يلهج بحمد الله وتوحيده، وليس هذا بمستغرب من مثل حبيب، فهو ابن امرأة قال عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ما التفت يمينًا ولا شمالًا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني»

 

يحرص على قتل أخيه

لقد فهم المسلمون الأوائل من أمر هذه العقيدة ما جعلهم يقيمون بها كل غال ومرتخص، ويَزِنون بها كل وقع وحدث، فقد كانت هي حياتهم واقعًا وسلوكًا وتصورًا وعملًا، حتى أن أحدهم يتمنى أن لو قتل أخاه شر قتلة لأنه رمى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد فكسر رباعيته اليمنى وجرح شفته السفلى، ذلك هو سعد بن أبي وقاص، إذ كان يقول «والله ما حرصت على قتل رجل قط كحرصي على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمت لسيئ الخلق، مبغضًا في قومه ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» وكان الذي قتل عتبة هو الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة. 

وهذا مصعب بن عمير، رضي الله عنه، يضرب مثلا آخر يبين صدق العقيدة ووضوح منهاج المؤمن ومعاملته الناس وفق مقتضيات عقيدته، فهو ينكر أخاه شقيقه لأبيه وأمه نكرانًا تامًا؛ لأنه مشرك لا يؤمن بالله وحده، ولا يريد أن يرتفع عن ضلالات قومه وجهالاتهم، حدث ذلك في أعقاب غزوة بدر الكبرى، ولندع ابن إسحق يقص علينا هذه الحادثة، يقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه وقال: «استوصوا بالأسارى خيرًا» قال وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى. 

قال: فقال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال- أي مصعب: شد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فبادره أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك «هكذا تربي العقيدة شبابها، فقد كان أبو عزيز هو حامل لواء المشركين في بدر بعد النضر بن الحارث «وكان مصعب هو حامل لواء المسلمين في أحد من العام القابل» فهما على طرفي نقيض، لا تقرب بينهما قرابة ولا يجمع بينهما رابط سوى رباط الدم!! ولكن هذا المؤمن المتجرد الخالص، مصعب بن عمير يرى أن ذلك وحده لا يكفي، إذ إن قيمه ونهجه في الحياة أرفع من ذلك وأعظم، إن أخاه الحقيقي هو أبو اليسر الصحابي المسلم الذي كان يوثق أبا عزيز المشرك ويتولى عملية قبضه، ذلك لأن العقيدة فوق القرابة، وإخوة العقيدة فوق إخوة الدم كما يفهمها مصعب رضي الله عنه؛ وهو يقول قولته تلك، لقد كان القرآن يتنزل من السماء ليربي أمثال هؤلاء ويتحدث عن عنصر إيمانهم: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (المجادلة:22) 

 

الإسلام مهر زواج!

كانت العقيدة تمثل عند أولئك السلف رأسمالهم في كل أمورهم حتى الشخصي منها، فهي كل شيء وهم دونها لا شيء، ولو مع وفرة المال وكثرة المبهجات، تقدم زيد بن سهل «أبو طلحة الأنصاري» وكان مشركًا يطلب يد مليكة بنت ملحان «الرميصاء أم سليم» وكانت امرأة مسلمة، فلما جاءها قالت له: يا أبا طلحة ما مثلك يرد ولكنك امرؤ كافر وأنا امرأة مسلمة لا تصلح لي أن أتزوجك! فقال لها: ما ذاك مهرك، قالت: وما مهري؟ قال: الصفراء والبيضاء!! فقالت له: إني لا أريد صفراء ولا بيضاء أريد منك الإسلام؛ وكان مما قالت له: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد خشبة نبتت من الأرض يخرها فلان؟ قال: بلى !! قالت: أفلا تستحي أن تعبد خشبة من نبات الأرض يخرها فلان؟ إن أنت أسلمت لم أرد منك على صداق غيره.

 هذه هي العقيدة وكم كانت غالية ثمينة عند من عرفوا قدرها وعلموا أنها هي منة من الله قد أكرمهم بها واصطفاهم لها، هذه هي العقيدة التي يحاول البعض ممن ينتسبون إليها اليوم تنحيتها عن الحياة وإبعادها عن السلوك الفردي، بل ويسخرون ممن يدعو إليها وينادي بها، وقد رأينا كيف تعمل في النفوس ما عجزت عنه صلات القرابة والدم والقبيلة والأرض، وكيف أن النفوس والأموال قد بيعت لله وحده ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة:111)

 

في لحظة احتضار، ولم ينس مهمته

لقد كان الجنود يخرجون إلى ميادين القتال وقد تزودوا من هذه العقيدة وأيقنوا إنما هو «الله» ولا شيء سواه، فكان الذي يَضرب فلله وبه، والذي يُضرب فلله ومنه، لا يبالي أحدهما بما يصيبه في الله ولا يتخلى عن عقيدته حتى وإن تحول إلى فرق وأشلاء، وكان في نزعات الروح الأخيرة، وليس أدل على ذلك من قصة سعد بن الربيع- أحد قادة الأنصار- رضي الله عنه، «إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد بن مسلمة ليتفقده وينظر «أهو في الأحياء أم في الأموات»، وكان ذلك عقب انتهاء معركة أُحد، فانطلق محمد بن مسلمة إلى حيث احتدمت المعركة وبينما هو يتجول في أنحاء المعركة إذا به يجد البطل سعدًا مضرجًا بدمائه تنزف جراحه بغزارة «وعلى آخر رمق» فانحنى عليه وأخبره بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه خصيصًا لتفقد حاله ومعرفة مصيره، فأبلغه سعد بصوت لا يكاد يسمع بأنه لم يعد من أهل الدنيا للجراح المميتة التي أصيب بها- وكان في لحظة احتضار- ولكنه مع ذلك وهو في تلك الحالة من الآلام لم ينس الاهتمام برسول الله صلى الله عليه وسلم والتفكير فيما قد يتعرض له من مكروه، إذ بادر ابن مسلمة قائلا: «أنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وأبلغ قومك- أي الأنصار- عني السلام، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله أن خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم ومنكم عين تطرف، «قال محمد بن مسلمة ثم لم أبرح حتى مات».

هؤلاء هم الجنود الذين تربيهم العقيدة، ويبنيهم الإيمان، وهم أشرف وأنبل وأشجع من عرفت ميادين القتال والطعن، صبر في الحرب وصدق في اللقاء، فمن لنا أن يحدثنا عن جنود القومية الذين يملأون الأرض ضجيجًا وصياحًا ونعيقًا، ومن يصف لنا ثباتهم عند اللقاء وضربهم ساعة الالتحام وحالهم لحظة الموت والاحتضار، إن الذين يتخلون عن عقيدتهم إنما يتخلون عن حياتهم، بل ينسلخون منها وهم بذلك لا يضرون الله شيئًا لأنهم هم الفقراء والله هو الغني الحميد: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. (فاطر: 15).

﴿إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. (فاطر: 16)

أحمد عثمان مكي

جامعة الخرطوم  السودان

 

 

 

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل