; الخطاب الأدبي في القرآن الكريم والسؤال الغائب | مجلة المجتمع

العنوان الخطاب الأدبي في القرآن الكريم والسؤال الغائب

الكاتب مبارك عبد الله

تاريخ النشر السبت 03-مايو-2008

مشاهدات 18

نشر في العدد 1800

نشر في الصفحة 46

السبت 03-مايو-2008

جاءت معجزة الإسلام «القرآن الكريم» تتحدى العقل البشري بالإعجاز العلمي والثقافي واللغوي والفكري والتشريعي والمنهجي قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت: 53) ولكن هذا الإعجاز بمختلف أنواعه وفروعه ورد بصورة واحدة من أساليب الخطاب هي صورة الخطاب الأدبي، وهنا تقفز إلى الذهن مجموعة من التساؤلات المتصلة بهذا الخطاب، فمن هذه الأسئلة:

-ما الحكمة من اعتماد القرآن -في خطابه للعرب وللبشرية بجميع أجيالها وبيئاتها- الخطاب الأدبي؟

-ولماذا لم يعتمد أساليب أخرى من الخطاب، كالخطاب العلمي، أو الخطاب

الفلسفي، أو الجدلي، أو خطاب الحقائق والأرقام؟

الخطاب الأدبي والرسالة الخاتمة

لماذا اختار الله سبحانه وتعالى أن تكون رسالته الخاتمة على صورة الخطاب الأدبي؟ 

هل هو التحدي والإعجاز للعرب البلغاء الذين خوطبوا به في زمانهم؟ مع العلم أن الخطاب القرآني دائم للبشر في جميع الأجيال، والإعجاز دائم ومستمر إلى يوم الدين لا بد أن هناك حكمًا أخرى، غير تحدي العرب البلغاء في ذلك الزمان، وإن كان ذلك التحدي هو جزء من الإعجاز، ولكن إعجاز القرآن أكبر من ذلك: لأنه إعجاز ممتد في تحدي البشرية إلى نهاية أجيالها على وجه الأرض.

الآن، وفي هذا العصر بالذات أصبح بإمكاننا أن نتعرف حكمًا أخرى مكنونة وراء هذا الاختيار الرباني لذلك الخطاب الأدبي، وخاصة بعد أن ارتقت الأمم بفنونها الأدبية، وتعمقت في تحليل هذا الخطاب وأدركت عظمته وخطره على أذواق الأمم والرقي بها نحو أهدافها المنشودة، وسوف يتأكد لنا ذلك أكثر عندما نتعرف على السمات التي يمتاز بها الخطاب الأدبي عن غيره من أنواع الخطاب:

1-قدرة الخطاب الأدبي على التأثير في أذواق المخاطبين والرقي بها نحو الأهداف المرغوبة.

2- هو أقرب أنواع الخطاب للتربية وتعديل السلوك وتعليم الناس، حيث إنه يرقى بالتفكير والقلب والسلوك من خلال أساليبه المختلفة، كالأساليب النوعية «القصة والحوار، والشعر، والخطابة، والمثل» أو الأساليب البيانية «كالتشبيه والاستعارة، والمجاز، والمشهد، والرمز» أو الأساليب التي تخص علم المعنى «كالدعاء والاستفهام والتسوية والنداء والتمني والمقارنة والأمر والنهي» أو الأساليب البديعية: «المحسنات المطابقة، التورية، المقابلة، المبالغة»، وهي أساليب تنبه الحس الجمالي والمتعة في النفوس وتحمل الفائدة المرجوة في ثنايا الخطاب الممتع فتوصلها بطريقة محببة، بعيدًا عن أساليب الجدل الجاف الذي لا تصبر له النفوس ولا ترغب فيه.

3- الخطاب الأدبي لا يؤثر عليه تقلب الزمان ولا تغير المكان، ولذلك هو أدوم تأثيرًا وخلودًا من أساليب «العلم، والجدل، والخبر» المتقلبة لتطورها وتغيرها المستمر وجفافها فربما تقرأ الخبر مرة واحدة ولا ترغب في العودة إليه، بينما يبقى الخطاب الأدبي متميزًا بالجمال والمتعة والحيوية والفائدة، وكذلك بالبقاء والثبات والخلود ولا يؤثر على قيمته أو دلالته أو جاذبيته تقادم الزمان والمكان وتقلب الأجيال.

٤- يمتاز الخطاب الأدبي بقدرته على إيصال محتواه إلى طبقات المجتمع على اختلاف شرائحها، ليسر أداته «اللغة» التي يملكها الغني والفقير والبدوي والمتحضر.

5- وأخيرًا، أليس في اختيار الله سبحانه وتعالى للخطاب الأدبي تعليم للبشر، وشهادة منه على أنه أفضل الأساليب لخطابهم والتأثير فيهم؟

السؤال الغائب: وهنا نسأل أنفسنا: لماذا أهملت الأمة بحث قضايا الأدب في منجزها الفقهي الضخم، ولم تفرد له أبوابًا خاصة، مع أن الله خاطبها بأدواته وأساليبه؟

في ظني أن سبب هذا الإهمال، يرجع إلى غياب السؤال عن حكمة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم عند فقهائنا، مما أدى إلى إهمال قضية الأدب في فقههم، فأوجد ذلك فراغًا فقهيًا استغله تلاميذ الفلسفة اليونانية في العهد العباسي، عندما ملأوا هذا الفراغ بترجمتهم نظريات الشعر عند أفلاطون وأرسطو وهوراس، مما أوجد نقدًا عربيًا على قواعد الذوق الإغريقي، ينحرف بذوق الأمة عن الاستقلال والتميز، فكان هذا السبب في إجهاض الميلاد الحقيقي لنقد عربي إسلامي، يخرج من مرجعية الأمة ومن إنتاجها الإبداعي.

أليس في طرح هذا السؤال الغائب إثارة جديدة لموضوع مهم ينبه دعاة الأدب الإسلامي إلى أهمية دراسة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم من جديد: لأنهم سوف يجدون فيه خيرًا كثيرًا لنظرية الأدب الإسلامي، بعيدًا عن النظريات الأدبية العلمانية، التي لم تقدم شيئًا سوى الحيرة والشتات؟، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38)

ما فرطنا في الكتاب من شيء

ليعلموا أن كتاب الله ما فرط في حاجة نحتاجها في دنيانا، ومنها حاجتنا إلى نظرية الأدب، وسوف يجدون التفاصيل في أحاديث الرسول ﷺ وفي أدب أصحابه والنتاج الإبداعي للأمة، شريطة أن تتصل العقول بمرجعيتها وهي واثقة بها وتبذل الجهود الكافية لذلك.

جهد رائد

ولا يسعني في هذا المجال إلا أن أذكر بجهد رائد قدمه لنا الناقد الإسلامي الكبير محمد الحسناوي في كتابه الرائع «الفاصلة في القرآن» حيث كشف أمورًا كثيرة تخص تطور الشعر والنثر، وكيف تغلغل التأثير القرآني في أساليب الأدباء، كما أنه ناقش فرضيات كثيرة حول تطور الشعر الحديث والموشحات وربط ذلك بتأثير لغة النبأ العظيم عليها، ولذلك نحن بحاجة إلى استمرار جهد الحسناوي، وجهد غيره في هذا المجال لاستخراج نظريتنا الأدبية من داخل مرجعياتناوذاتنا الحضارية المستقلة عن حضارة «العقل الشرقي الصوفي» و «العقل الغربي الفلسفي.»

الرابط المختصر :