; الدولار على سطح القمر | مجلة المجتمع

العنوان الدولار على سطح القمر

الكاتب يوسف موسى نصار

تاريخ النشر الثلاثاء 29-يونيو-1971

مشاهدات 20

نشر في العدد 66

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 29-يونيو-1971

الدولار على سطح القمر

شرع حمد في ارتداء ملابسه جذلًا فرحًا، كان يصفر بفمه لحنًا مرحًا ولم لا.

ولم لا يفرح وها هو قد وصل أخيرًا إلى عاصمة النور باريس التي طالما اشتاق إليها وإلى الحضور للدراسة فيها، باريس -يا له من اسم جميل يداعب خياله في اليقظة والمنام-، لقد سئم حياة الشرق ببلده الكويت وها هو الآن ينطلق في باريس عاصمة الحضارة، ومركز الثقافة الإنسانية، والعاصمة التي منها انطلقت شعارات الحرية والإخاء والمساواة.

أكمل ارتداء ملابسه على عجل، ونزل يهرول إلى الشارع، كان يشعر بروحه خفيفة منطلقة حتى خيل إليه أنه يقفز قفزًا ولا يسير كالمعتاد، أخذ ينتقل من شارع إلى آخر، ولم يشعر بطول المسافة التي قطعها، وقد بهرته واجهات المحلات التجارية -التي تشتهر بها باريس- بما تحوي من معروضات «وديكورات» وزاغت عيناه مع إعلانات «النيون» والأضواء المتراقصة ولكنه مع ذلك أحس بشيء من الضيق والفتور، لقد سار في شوارع كثيرة وكل ما رأى لا يختلف عما في بلده الكويت، ولا تختلف عن الكويت إلا في الوجوه والسحن الأوروبية التي تذرع الشوارع جيئة وذهابًا، وتتزاحم أمام المحال التجارية، وأخيرًا قادته قدماه إلى ساحة كبيرة مفروشة بالحشائش والأزهار تتوسطها نافورة مياه جميلة تنفث المياه بشكل جميل رائع، بعث في نفسه الهدوء والارتياح، فاندفع إليها يذرع طرقاتها النظيفة المرصوفة، واقترب من النافورة، ومد يده يتلقى رذاذ المياه المتناثر، ثم استدار ليجلس على مقعد من تلك المقاعد الموزعة حول النافورة ولكنه صدم بمنظر غريب لم يكن يتوقع أن يراه، بل لأول مرة يراه، فهو غير مألوف في الكويت، لقد رأى فتى يجلس على مقعد من تلك المقاعد وقد احتضن فتاة بشكل منفر مقزز.

أحس بالاشمئزاز يسري إلى نفسه، فانطلق لا يلوي على شيء، حتى صادف مقهى صغيرًا، دلف إليه، وجلس إلى إحدى الموائد.

اقترب منه النادل وقد ألصق على شفتيه ابتسامة لا معنى لها وقال بكل أدب:

أي شيء يطلب السيد؟

ـ عصير برتقال من فضلك!

ـ عصير برتقال!!!؟ قالها بدهشة واستغراب استرعت انتباه حمد فقال بضيق:

نعم عصير برتقال، أهذا شيء غريب؟!

ـ معذرة يا سيدي، إننا لا نقدم العصير فهو للمرضى والأطفال، لقد تعودنا على تلبية رواد مقهانا بتقديم أفخر أنواع الخمور!

ـ خمر!!!؟ ماذا تقول؟!

نهض مسرعًا ليندفع إلى الشارع وكأنه يفر من شيء رهيب وسط دهشة الحاضرين وعجب النادل الذي مط شفتيه وهز كتفيه ثم تحرك ليلبي نداء من طاولة أخرى.

سار في الشارع يحدث نفسه، خمر، أمن بدايتها، ليس له في باريس سوی ساعات قليلة ويبدأ حياته فيها بتناول الخمور؟!

تذكر أمه وقد حرصت أن توصيه في آخر لحظة قبل أن تقلع الطائرة به من مطار الكويت بتقوى الله واجتناب الخمر، والبعد عن النساء قبل أن تطبع على خده قبلة الوداع التي أودعت فيها كل مشاعر الحنان واللوعة التي تعتمل في نفسها على فراقه، إنه سيكون أمينًا على الوعد الذي قطعه على نفسه أمام أمه، ولن يخلف وعده بإذن الله.

ليدخل هذا المحل فإن أمعاءه تتلوى من الجوع، فمنذ الصباح لم يصب من الطعام شيئًا يذكر.

تفضل يا سيدي، قالها النادل وهو يمسك بالكرسي ليجلس عليه حمد ثم انحنى بأدب وتكلف ظاهر أثار غيظ حمد، عشاء يا سيدي؟؟ إن العرض سيبدأ بعد قليل!

ـ عرض؟! أي عرض هذا؟! سأل حمد مستفهمًا:  

ـ العرض الراقص يا سيدي! أشهر راقصة «تعري» في باريس تقدم «فنها» هنا كل ليلة ومنذ شهر.

قالها النادل بفخر وقد نفخ صدره اعتزازًا وكأنه منقذ فرنسا من براثن الاحتلال.

ـ أعوذ بالله!! انطلقت من حمد عفويًا، راقصة عارية!!. أجلس لأشاهدها،

شكرا يا سيد، ونهض خارجا تاركا النادل في ذهوله الذي سرعان ما تحرك ليؤدي عملا آخر وهو يتمتم، يا لهؤلاء الشرقيين إنهم حقا قوم متعبون.

وقف حمد ينتظر الحافلة العامة بعد أن قرر عدم الدخول إلى أي مكان آخر وفضل أن يعود أدراجه إلى الفندق، وبينما هو غارق في تفكيره لم يلاحظ تلك الفتاة التي تقترب منه وكأنها قطة مشردة تتمسح في عابر سبيل.

ـ سيدي؟!! رفع رأسه لتقع عيناه على وجهها كانت جميلة لولا طبقات المساحيق الكثيفة التي سلبت جمالها الطبيعي وجعلتها تبدو أكبر سنا.

ـ نعم!؟ هل من خدمة أؤديها لك؟!

ـ عفوًا سيدي، هل ترغب في قضاء ليلة جميلة ممتعة؟!

ـ أين؟! سألها بدهشة.

ـ معي في منزلك، أو منزلي إذا شئت، هز رأسه وقد عرف حقيقتها وقال: -

سيدتي، أرجوك أن تذهبي عني فلا رغبة لي في ذلك!!

ـ أرجوك يا سيدي أن تفعل، أدهشته نبرة التوسل والاستجداء التي تشوب كلماتها، ولكنه قال بلهجة حاسمة:

لقد قلت إنني لا أرغب، فاغربي عن وجهي من فضلك.

قالت وعلامات الذل بادية على وجهها مما حز في نفسه وجعل قلبه ينفطر ألما: -

سيدي إنك لا تعرف أنني أعيش بهذه الطريقة، وإنك برفضك تحرمني من فرنكات أمي المريضة بأمس الحاجة إليها لشراء الدواء.

نظر إليها وعلامات الألم والغثيان بادية على وجهه، ثم مد يده وأخرج بعض الأوراق المالية وهو يقول: -

هذه هي الفرنكات، اذهبي إلى حال سبيلك!!

تراجعت المسكينة ذليلة منكسة الرأس، وهي تتمتم بكلمات الشكر والثناء.

كان صدره يضيق ببخار الألم والغضب يتصاعد رويدًا رويدًا، ورأسه يتصدع بطنين مزعج مخيف حتى خيل إليه أنه سينفجر بعد قليل، لم يشعر إلا وقدماه تجراه على الطريق، تاركا وراءه الحافلة التي وصلت في تلك اللحظة، واندفع يسير على غير هدى حتى انتهى به المطاف إلى شاطئ نهر «السين» فوقف هناك وارتكز بذراعيه على الحائط المنخفض المشرف على مياه النهر، وأخذ يحملق في الماء،

أهذه بلاد الحضارة؟!! أين الحرية؟! والتقدم؟! ولمن الإخاء والمساواة والإنسان مسحوق الإنسانية، يحاول أن ينسى واقعه التعيس بين كؤوس الخمر واللذة المحرمة خمر، نساء عاريات، ممارسة لغرائز الحيوان على قارعة الطريق بلا خجل، أو مراعاة للذوق، وفتاة تبيع جسدها لكل من يرغب لتحصل على ثمن الدواء لأمها المريضة.

أهذا هو إنسان التقدم والحضارة؟! إنسان ضائع مهدور الكرامة، ميت الإحساس، خامل الفكر.

كم كان جاهلًا عندما تحدى أهله وأصدقاءه حين أصر على رأيه في الحضور إلى باريس، ليتخلص من الشرق وتخلفه وجموده كما كان يحلو له أن يسميه ويتشدق به.

رفع بصره إلى السماء ليجد القمر يصارع طبقات السحب الكثيفة، وليجد لنوره منفذًا إلى الأرض وكأنه الحقيقة تصارع الستر والحجب المفروضة عليها لتظهر إلى الناس وتنكشف.

تمتم بخشوع المعتذر التائب، أيها الشرق إنك كالقمر تنير بمبادئك وعقيدتك وتراثك، ومهما حاول أنصار الظلام أن يحجبوا وجهك المضيء ويشوهوا حقيقتك الناصعة فإنهم لن ينجحوا، وستبقى أبدا مصباح نور يشع ليضيء النفوس المظلمة.

أيها الشرق، لقد ظلمك أبناؤك فاستعبدك أعداؤك، ليت كل منكر لفضلك يرى ما رأيته أنا، لعرف عظمتك وسمو مبادئك وعاداتك وتقاليدك ولمس حاجة الإنسان إليها ليحيا كإنسان.

ـ هل أنت من عبدة القمر!!؟

أفاق من شروده على صوت مخمور يفرض نفسه عليه وقد ظن أنه وحيد في مكانه هذا، أجاب بسرعة وقد أدهشته المفاجأة: -

وهل القمر يعبد يا هذا؟!!

ـ يبدو أنك متأخر عن العالم، قالها الشاب المخمور وهو يترنح، يمنعه من السقوط تشبثه برقبة فتاة ليست أحسن منه حالًا، ثم أردف: -

هناك من يعبد القمر، وآخرون يعبدون الشمس، وغيرهم يعبد أي شيء، أي شيء، ولكنني أعبد قطتي هذه المخمورة المتوحشة، ثم راح في قهقهة هستيرية عالية، قطعها مستدركا ليقول: -

ولكن أبي «لعنه الله»، أتعرف أبي، من في باريس لا يعرف أبي! إنه يعبد فقط الدولارات والفرنكات، إنه يتمنى لو أنه رزق بحفنة من الفرنكات بدلا مني، هكذا كان يقول لي، انظر!! انظر یا صديقي ما أجمل الدولار على وجه القمر، إنه ليس إله أبي فقط، بل إله الناس في أوروبا كلها، ثم استغرق في ضحكة مجنونة مهووسة، شعر – حمد- بالغثيان والاشمئزاز تطفح بهما نفسه فأدار ظهره وأسرع الخطى مبتعدا بينما صوت الشاب المخمور يلاحقه، بالمناسبة، بما أننا أصبحنا أصدقاء، هل تستطيع أن تمنحني عشرة فرنكات احتسي بها قليلا من الخمر أنا وقطتي هذه؟!!

آه «اللعنة على أبي»، لو أنه رزق بحفنة دولارات لكان ذلك خيرًا مني.

                                                                            یوسف موسی نصار

 

«... أيها الشرق لقد ظلمك أبناؤك فاستعبدك أعداؤك، ليت كل منكر لفضلك يرى ما رأيته أنا، لعرف عظمتك وسمو مبادئك وعاداتك وتقاليدك، ولمس حاجة الإنسان إليها ليحيا كإنسان».

 

الرابط المختصر :