العنوان الشريعة الاسلامية بين النظرية والتطبيق
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 07-أكتوبر-1980
مشاهدات 10
نشر في العدد 500
نشر في الصفحة 42
الثلاثاء 07-أكتوبر-1980
يظن بعض الجهلة والمغرضين أن الشريعة الإسلامية غير صالحة للتطبيق في هذا العصر على الأقل.
وطالما اتخذ أذناب- الاستعمار وأعوانه تلك الظنون الظالمة ذريعة للوقوف في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية ولإبعادهاعن الساحة العملية في الحياة، وذلك بحصر الدين في المظاهر والأشكال وأعمال البر وجمع الصدقات واحتفالات الزواج والولادة والموت والختان كما هو الحال عند النصارى واليهود وغيرهم: ولقد حاول أعداء الإسلام أن يبثوا في أذهان جهلة المسلمين اليأس من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجالات الحكم والسياسة والاقتصاد والرعاية الاجتماعية ومختلف شؤون الحياة، وبادروا لتوكيد ذلك بفتح معاهد الحقوق التي تدرس النظريات الأجنبية وأدخلوا في دساتير الدول الإسلامية وقوانينها مبادئهم وأعرافهم وتشريعاتهم ومن هنا ابتدأ الاستعمار الحقيقي يشوه الحضارة ويخرب المدنية ويجزىء البلاد الإسلامية ويصطنع فيها العملاء والموالين.
أوهام باطلة:
ولكن ضجيج هذه الدعايات الباطلة ونقيقها لم يكن ليؤثر على الحقائق شيئًا. فالمستشرقون قبل غيرهم يعرفون مقدار أهمية الشريعة الإسلامية وقابليتها للتطبيق ومعالجة الأمور بحكمة سامية، ولكنهم يحرفون ما يعرفون لأغراض التعصب والاستعمار وخشية من نهضة المسلمين واستقرارهم بالحكم بما أنزل الله.
وفي البلاد الإسلامية التي نكبت بحصيلة منحرفة من الأبناء الذين رباهم الاستعمار على يده فخرجوا ملاحدة أو تابعين للغرب أو الشرق أو من أتباع الأحزاب الكفرية أو ممن يعتقد أو ينادي بعدم إمكان الحكم بالأسلام و بوجوب إبعاده عن الساحة لأجل التقدم والتمدن.. حتى إن بعض المحسوبين على الدين اعتقدوا بذلك ورضوا من الحكام بالأقل من رعاية الشؤون الدينية كالحفاظ على مناصبهم وحضور صلاة العيد ليحكموا بأنه مسلم كامل ولا يسأل عما يفعل أكثر من ذلك. وساهم في نشر هذه الأوهام الباطلة بعض جهلة الوعاظ والمتعصبين ممن رزىء بهم العمل الإسلامي الذين قصروا مجال الدين إما على جانب «العقيدة» فقط وأجلوا غيره أو أهملوه، وإما على جانب «تزكية النفس» فقط وقضوا حياتهم دون أن تتزكى تلك النفس، ودون أن يثمروا أثرًا فعالًا في الحياة اليومية، وظن بعضهم أن تطبيق الإسلام لا يكون إلا بهدم كل شيء قائم، باعتبار أن كل التنظيمات والقوانين والمؤسسات باطلة وأصحابها كفار، فكانوا أقرب إلى الخوارج الذين استطاعوا الهدم وما بنوا شيئًا، وجاء بعض الحكام والأنظمة بتحركات وقوانين وادعاءات ظاهرها الإسلام ولاسيما في بداية أمرهم، ثم ظهر منها بعد ذلك حرصهم على مناصبهم أو امتصاص قبول الناس لهم أو التمهيد لتغيير أحكام الإسلام الحقيقية بادعاء «منزلة تشريعية» لأنفسهم قريبة من منزلة النبوة، أو لتشويه صورالإسلام لدى الناس وتكريههم بها.
- إن مما يجلب المرارة ويحزن القلب ويضيق الصدر أن تخلو ساحة المناصحة من فرسانها!!
ومما يساهم في نشر هذا الوهم أنه لا تكاد توجد دولة واحدة تطبق الإسلام كاملًا، وإنما توجد دول دين رئيسها الإسلام وفي قوانينها وتشريعاتها أشياء تتفق مع الإسلام وأخرى تخالفه، ولذلك فإن الناشيء الحدث وغير العالم الفقيه لا يرى صورة التطبيق الإسلامي، ولا سيما إذا نشأ في بيئة منحرفة، ولا سيما بعد دخول السموم الاستعمارية إلى الثقافة ومنها ادعاء صعوبة كتب الفقه وبعدها عن الواقع وأنها قديمة غير مناسبة للوقت الحاضر وكذلك إضعاف اللغة الفصحى وفهمها وإبعادها عن ساحة التعليم فلا يكاد الطالب يستطيع قراءة القرآن فضلًا عن قراءة كتب السنة والفقه والأصول وغيرها. وهكذا ترسخ في أذهان البعض- عن جهل أو سوء نية أو عن كليهما معًا- أن مجال الإسلام هو العبادات فقط أو المسجد فقط ولا دخل له في الحياة بشكل عام...
ومما زاد طين الجهل توحلًا هو ذلك الجدل البيزنطي العقيم الذي قام بين بعض «منظري»الإسلام: هل تجب البداية بالحكم أم بالقاعدة الشعبية أم بالقوانين والفقه، ولا زال الجدل محتدمًا دون أن يستفيد هؤلاء من نشأة الإسلام وتعاليم رسوله «صلى الله عليه وسلم» وسياسته الحكيمة في البناء والتطبيق والحكم- ولو أنهم فعلوا لكانوا اهتدوا...
ضرورة تحكيم الشريعة:
والناظر المدقق وأي دارس للفقه الإسلامي من مراجعه الثرة- وأي مطلع على العلوم الإسلامية يستطيع التأكد من بطلان أوهام المشككين في تطبيق الشريعة وتردداتهم الجبانة، وعلى كل مسلم أن يكون في مستوى فهم عقيدته وشريعته وفهمها وتطبيقها، لأن الدين الإسلامي لا ينفصل فيه الإيمان عن العمل أبدًا. وما وردت كلمة «الإيمان» في القرآن الكريم في أكثر المواضع إلا ومقترنة بالعمل الصالح، ولا يوجد في الإسلام فصل للدين عن الدولة أو الحياة ولا يمكن حصر الإسلام في المسجد أو دار الإفتاء أو الاحتفالات وغيرها، ونحن إما أن نكون مسلمين فنحكم في كل شؤوننا بما أنزل الله- تعالى-، وإما أن لا نحكم الشريعة- والعياذ بالله تعالى- في أمورنا فلا نكون مسلمين، ومثل عدم التحكيم الاعتقاد باستحالة تطبيق الشريعة أو التحرج منه, والركون إلى الظالمين وتبرير مخالفاتهم للدين أو السكوت على تحكيم الباطل والكفر في بلاد الإسلام. يقول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65). ويقول أيضًا: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44) وفي آية أخرى: «هم الظالمون» وفي آية ثالثة: «هم الفاسقون»..
ولو أننا نظرنا في نزول القرآن الكريم لرأينا أن من حكمة نزوله منجمًا «مفرقًا» المساعدة على تطبيقه، ولذلك كانت السنة شرحًا للقرآن الكريم وتوضيحًا لتعاليمه وتطبيقًا لها، وكذلك كانت أعمال الرسول «صلى الله عليه وسلم» مصدرًا غنيًا للتشريع والتطبيق في كل مجال سواء في العبادات أو الآداب أو الحرب أو السلم أو السياسة أو الاجتهاد وطلب العلم أو تقرير المسؤولية والفصل في الخصومات.. وكل ما هو لازم من أقسام الحقوق وشعبها. ولقد أقام الرسول «صلى الله عليه وسلم» دولة- بكل ما في هذه الكلمة من معنى ومؤسسات ولوازم- ونظمها أروع تنظيم، لم يكن ملكًا ولا حاكمًا مستبدًا، بل كان نبيًا رسولًا إمامًا للمسلمين وأسوة حسنة لهم. وجاء الخلفاء الراشدون من بعده فرسخوا بنيان الدولة الإسلامية وحاربوا الحركات المرتدة الهدامة وفتحوا البلدان وأعلوا كلمة الله ونظموا الدواوين وأرسلوا الولاة والقضاة والجيوش ونظموا النقد والعقود وطرق المواصلات، وكان ذلك ثورة حقوقية لم يعرف العالم لها مثيلًا.
غنى الفقه الإسلامي:
ولذلك نجد كتب الفقه الإسلامي و«الحسبة» تزخر بأحكام السوق وواجبات العمال والصناع ومسؤولياتهم والحراسة وقمع الغش ومراقبة المكاييل والموازين والبضائع وجودتها وكذلك نجد كتب «الإمامة والسياسة والخراج» تمتلىء بأحكام الأموال وتداولها والوجائب المالية وأصول جبايتها وبأحكام القضاء والولاية وإمامة المسلمين وما إلى ذلك من «المعاملات».
ومن ذلك ما كتبه «الماوردي» في «الأحكام السلطانية» وأبو يوسف في كتابه الفذ: «الخراج» وكتاب الأموال: لابن سلام، وكتب الحسبة لابن الأخوة وابن بسام وغيرهم، وكتاب «السياسة الشرعية» لابن تيمية، وغيرها كثير جدًا من الكتب والدراسات التطبيقية للشريعة وأحكامها وتنظيماتها، وكلها قائمة على فهم كتاب الله- تعالى- والعمل بسنة رسوله «صلى الله عليه وسلم» وسنة خلفائه الراشدين الذين كانوا أئمة للحق رعوا تنظيم الدولة الإسلامية وبناءها منذ البداية..
وهذا هو الخليفة العادل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يوجه عماله و يرشدهم فيقول لهم: «إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة، فلا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم فتظلموهم». قال أبو وهم المتوهمين بأن الشريعة الإسلامية نظرية أكثر منها تطبيقية، ومن هذه الكتب «التشريع الجنائي» للمرحوم عبد القادر عودة وكتاب «المدخل الفقهي للحقوق المدنية» للأستاذ مصطفى الزرقا، ولقد وضع أخيرًا «مشروع قانون مدني إسلامي» لحكومة الأردن، وحبذا لو عممت الاستفادة منه في الأقطار الإسلامية، وكتاب «الأحوال الشخصية» للمرحوم الأستاذ مصطفى السباعي، وهنالك كتب كثيرة في مجالات الاقتصاد والسياسة وغيرها تصلح لأن تكون لبنة في بناء «الفقه الإسلامي الحديث» والذي ندعو إليه هو «الاجتهاد الجماعي» واستمرار حركة العلم والدراسة واستيعاب التراث وتطبيقه على المستجدات الحاضرة- هذا من ناحية- ومن ناحية أخرى، لا بد من الإشارة إلى أن الإسلام لا يحرم الأستفادة من تجارب الأمم الأخرى والأخذ من تنظيماتها وتدابيرها الإدارية فيما لا يتعارض مع الدين، فإننا إذا طبقنا الإسلام لا يعني ذلك أبدًا- كما يتصور المتزمتون وأعداء الإسلام- أننا سنلغي كل- المؤسسات ونبطل جميع- التنظيمات ونلغي جميع القوانين، فإن الإسلام بمبادئه الأصولية المحكمة لا يعارض استصلاح ما يراه المسلمون حسنًا ولا يحرم الاستفادة منه، وهكذا فإنه في الدولة الإسلامية لا تلغى الشوارع والجرائد والمحاكم والمخافر والإذاعة وما إلى ذلك وإنما تنظم وتزال المحرمات منها.
التطبيق الإسلامي ضرورة ملحة:
وهنالك ناحية ثالثة لا تقل أهمية عن هذا الجانب الفقهي التنظيمي وهي الجانب الحركي العملي في تطبيق الإسلام عن طريق الجهاد ومقارعة الظلم والاستعمار والسعي لتحكيم شريعة الله في جوانب الحياة المختلفة ولنا حاليًا في هذا المجال مثلان رائدان نقف أمامهما بكل تقدير ونرجولهما التوفيق وهما:
۱- حركة المجاهدين الأفغان في مقاومة حكومة الانقلاب الشيوعي العميل ومقاومة الاحتلال السوفياتي المساند له، ولقد ضرب هؤلاء المجاهدون أروع الأمثلة في هذا العصر في السعي الجاد لتطبيق الإسلام وإزالة معالم الكفر وأهله..
٢- حركة المجاهدين في سورية التي أعلنت منذ البداية أنها تسعى لإزالة جنور الباطل ولتقيم أركان حكم إسلامي صحيح، وبذلت في سبيل ذلك ولا زالت تبنل أرواحًا طاهرة ومهجًا صادقة تقاوم أعتى أشكال الاضطهادو الإرهاب..
كل هذه الحركات والجهود العلمية والجهادية إنما هي دلائل واضحة على أن التطبيق الاسلامي ضرورة ملحة وواجب شرعي يتحدى جميع الأوهام والدعايات و يزهقها...
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الزيـادة في البيـع والزيـادة فـي الربا.. رؤيــة اقتصاديــة تحليليــة
نشر في العدد 2181
37
السبت 01-يوليو-2023