العنوان الشيشان .. ثلاثة قرون من الحروب ضد الروس
الكاتب مصطفي عثمان
تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
مشاهدات 15
نشر في العدد 1171
نشر في الصفحة 43
الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
حملت هذا السؤال في ذهني وأنا في طريقي إلى جروزني للمرة الثانية من الجهة الغربية عبر الأنجوش، حيث كانت زيارتي الأولى بعد شهر تقريبا من اندلاع الحرب، وكانت من الجهة الشرقية عبر جمهورية الداغستان المسلمة، وحملت معي كذلك تاريخ الصراع الطويل بين روسيا والشعوب القوقازية، وخاصة الشيشانيين منهم.
وكانت أولى ملاحظاتي أن جميع نقاط التفتيش التي مررنا بها روسية خالصة ولا تكاد توجد نقطة تفتيش واحدة للشيشانيين بعكس زيارتي الأولى التي كانت في يناير الماضي فتحركاتنا كلها تقريبا كانت عبر النقاط الشيشانية، وهذا يعني للوهلة الأولى أن الأمر قد استتب للروس فعلا وتمت السيطرة على كافة أنحاء البلاد، خاصة وأن مظاهر الحياة في النهار تكاد تكون طبيعية؛ فالناس يروحون ويجيئون، والبضائع منتشرة في الأسواق وحركة البيع والشراء تسير سيرها المعتاد، ولم يغير من شكل الحياة الطبيعي سوى كم الدمار الهائل الذي يلف كافة أنحاء المدينة، ونظرات القلق والتوتر التي تراها في أعين الجميع وكأنهم ينتظرون شيئًا ما سيحدث.
كان دخولنا للمدينة في النهار وأمام القصر الجمهوري ومن حوله، كان كل شيء مدمر تماما عبارة عن أطلال، وكأننا في مدينة أشباح، كما وجدت بعض البنايات أحيطت بالسقالات والستائر في محاولة للترميم توقفت بعد أيام من بدايتها ورحلت الشركات التركية والروسية التي بدأت العمل بعد فقدانها الأمن في مدينة اللا أمن وقتل بعض عمالهم نتيجة هجمات الشيشانيين الليلية.
وعندما جاء المساء تغير كل شيء؛ فالأمر في الشيشان يختلف تماما باختلاف الليل والنهار، فما أن يأتي الليل حتى تبدأ هجمات المقاومة الشيشانية في شكل حرب عصابات من كل مكان حول جروزني فتثير الرعب في نفوس الجنود الروس وقادتهم، فيطلقون النار عشوائيًّا في كل مكان يوميًّا، ولا يكاد يمضي يوم واحد بغیر قتلى وجرحى من الجانبين، وإذا ما جاء الصباح رد الروس عليهم بالمثل، وقد شاهدنا الطائرات الهليكوبتر الروسية تحوم فوق الجبال المحيطة بجروزني بحثًا عن مواقع المجاهدين.
وكأن الروس والشيشان قد اقتسموا ساعات اليوم نصفين؛ فالنهار للجيش الروسي الذي ما زال يماطل في تنفيذ اتفاق 30 يوليو الماضي الذي يقضي بوقف العمليات وسحب قواته إلى خارج الحدود الشيشانية، أما الليل فللمقاومة الشيشانية التي لا زالت ترفض تسليم أسلحتها مهما كانت الأسباب، وصممت على خروج الروس من بلادهم وتوعدت الخونة من المعارضين الخارجين عن الصف بالتأديب وتصفية الحساب بعد فراغ أيديهم من الروس.
ففقدان الثقة المتبادلة بين الطرفين جعل من اتفاق يوليو حبرًا على ورق، وإن تظاهر الشيشانيون بتسليم بعض قطع السلاح الخفيفة أمام عدسات المصورين فلا تزال لديهم كميات كبيرة من الأسلحة تزيد عن السبعين ألف قطعة يدخرونها ليوم قريب، وإن بادر الروس كذلك بإطلاق التصريحات هنا وهناك بسحب قواتهم، فلا تزال لا توجد أية علامات جدية تبين صدق نواياهم.
وبالرجوع إلى تاريخ الصراع الروسي الشيشاني نتبين طبيعة هذا الشعب العنيد؛ فأول محاولة لاحتلال الشيشان من قبل روسيا القيصرية كانت عام 1722، وظل الشعب الشيشاني في حالة مقاومة بطولية عنيدة ومستمرة لمدة 142 سنة حتى تمكن الروس من احتلال شمال القوقاز في عام 1864م، وخلال تلك الفترة سجل الشعب الشيشاني ملاحم أسطورية في مقاومة القيصر الروسي.
يروي الجنرال تورنا والذي أرخ للصراع الروسي الشيشاني كيفية احتلال قرية (غيرمنتشيك) الشيشانية والتي كانت تتكون من 600 بيت يقول الجنرال إن القوات الروسية أحاطت بالمنازل عن بعد وأخذت تقصفها بالمدفعية دون نتيجة تذكر فقام قائد الحملة بإصدار أوامره بحرق ما تبقى من البيوت ولو من جانب واحد، ولما بدأت النيران بالاشتعال في البيوت عرض على المحاصرين فيها الاستسلام مقابل البقاد على حياتهم ومعاملتهم كأسرى حرب إلا أنهم رفضوا وخرج أحدهم ليقول: نحن لا نريد منكم أن تبقوا على حياتنا والمكرمة الوحيدة التي نريدها من الروس هي أن يخبروا عائلاتنا أننا متنا كما عشنا رافضين الخضوع لأي نير أجنبي، وانتهت العملية بخروج اثنين منهم شاهرين سيوفهم من وسط لهيب النيران واندفعوا نحو الروس ليسقطوا برصاص القناصة، ومات الباقون وعددهم اثنان وسبعون بعد أن فضّلوا الموت حرقًا على الاستسلام للروس.
ولم تنته المقاومة خلال تلك الفترة ولم يرض الشيشانيون باحتلال بلادهم بل استمرت مقاومتهم حتى عام 1917م، بقيام الثورة الشيوعية وإعلان الاتحاد السوفييتي، وخلال الفترة لم يبق من الشعب الشيشاني إلا ربعه فقط نتيجة عملية التقتيل والنفي الجماعي التي مارسها المحتلون.
واستمرت المقاومة مرة أخرى عندما عاود لينين احتلاله لجمهوريات شمال القوقاز المستقلة سنة 1922م، والتي كانت أعلنت استقلالها في 5/11/1918م واعترفت بها كل من ألمانيا والنمسا، وبلغاريا، والدولة العثمانية وروسيا نفسها بقيادة لينين.
حتى جاء السفاح ستالين وقام بعمليات النفي الجماعي للشعب الشيشاني بأكمله في الثالث والعشرين من فبراير 1944م، إلى أصقاع سيبريا وصحراء كازاخستان في عملية تهجير وحشية لم يشهد التاريخ مثلها، حيث كان يسمح لأهل القرية بخمس عشرة دقيقة فقط حتى يركبوا القطار يحملون خلالها ما يقدرون عليه من المؤنة والزاد والأولاد، ثم تغلق عليهم عربات القطار بالجنازير من الخارج ولا تفتح إلا في محطة الوصول النهائية في رحلة تستغرق من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع متواصلة، فإذا فتحت العربات خرج نصف الركاب موتى والنصف الآخر أشباه أحياء، ولم يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم إلا في عام 1957م.
ومما يذكره التاريخ في ذلك أن الشعب الشيشاني يكاد يكون الشعب الوحيد في العالم الذي هلك ثلاثة أرباعه مرة، وهلك نصفه مرة أخرى خلال قرنين من الزمان.
إذن فالحرب الروسية الشيشانية لم تبدأ في ديسمبر 1944م ولم تستغرق تسعة أشهر، بل بدأت عام 1722م واستمرت ما يقرب من ثلاثة قرون من الزمان، ولا أظنها تنتهي قبل قيام كيان حر اسمه جمهورية الشيشان المستقلة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل