العنوان الصبر.. ضرورة لحياة الدعاة
الكاتب خليل محمد أبو بلال
تاريخ النشر الثلاثاء 29-يناير-1974
مشاهدات 27
نشر في العدد 185
نشر في الصفحة 28
الثلاثاء 29-يناير-1974
فالصبر لغة كما يقول صاحب لسان العرب «هو الحبس، وصبره عن الشيء بمعنى حبسه، ويمين الصبر: أن يحبسه السلطان على اليمين حتى يحلف بها، والصبر نقيض الجزع. والصبر الثبات على ما أنتم عليه من الإيمان، والصوم صبر لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح. والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام ومعناه قريب من معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم».
ولقد عني القرآن كثيرا بفضيلة الصبر ولفت انتباه المسلمين إليها وحث الدعاة وغيرهم على أن يتجملوا بها، حتى أصبح المسلم إذا لقم أخاه المسلم وصافحه ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. (العصر: ٣)
والمتتبع لآيات القرآن التي ذكر الصبر فيها يرى أنها انتظمت جوانب عدة من حياة الإنسان وأوجه متشعبة للصبر، ومن هذه: الصبر على مجاهدة النفس، فالنفس تتعبدها الشهوات، من حب للحياة يبعث على الجبن والفزع وحب للمال يبعث على الشح والاكتناز، وضعف اليقين، ومن حب للنساء يدعو إلى الاستغراق والابتذال، ومن هوى في النفس يدفعها إلى البطر والخيلاء وحب التظاهر والكبر مما يفضي إلى فساد في السيرة والسريرة ويعمل على انبتات الوشائج الاجتماعية وتفسخ المجتمع وتدهوره. ولذلك أرشدنا الله إلى جوهر فضيلة الصبر وجعلها بمثابة المجن الذي يقينا سر الأدواء والبلاء، فما الحياة الدنيا إلا دار ابتلاء للمرء ففيها نقص الأموال وزيادتها، وفيها الجوع والشبع، وفيها الأمن والفزع، فمن صبر ولم يجزع وجد وعمل ﴿أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. (البقرة: ١٥٧) صدق الله العظيم.
والصبر صفة ملازمة لعباد الله المجاهدين، فهم يصبرون على العبادة ويثابرون عليها ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ ﴾. (مريم: ٦٥) وما أحوجنا لذلك!! وهم يعرفون أن الله تعالى قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾. (محمد: ٣١) ولقد ذكر الله في آية البر من سورة البقرة ثلاثة مواطن للصبر هي الصبر عند البأساء، والصبر في الضراء، والصبر حين البأس، فقال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. (البقرة: ١٧٧)
ولما كان الصبر حين البأس يقلب المعايير ويكذب الحسابات ويحول الهزيمة إلى نصر والنصر إلى هزيمة شدد الله على التزامه والمصابرة عند اللقاء، وتمثل هذا في سلوك المسلمين في بدر، في أحد، في الخندق وفي حنين ولقد كان الصبر عند اللقاء مما يفتخر به فهذا سعد يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أنا والله صبر عند اللقاء» والشاعر قطري بن الفجاءة يقول:
فصبرًا في مجال الموت صبرًا
فما نيل الخلود بمستطاع
وما يروى أن عنترة بن شداد جاءه رجل ليبارزه، فاشترطا أن يعض كل منهما على أصبع الآخر، فمن جزع اعتبر مهزومًا، وكان ما كان، واشتد الأمر فجزع الرجل فقال آخ. فقال له عنترة: لو لم تقلها لقلتها، لحظة من الصبر كان فيها الفوز والخسران.
ومن مواطن الصبر العظيمة تحمل المشقة والأذى في سبيل تحقيق الأهداف التي يصبو إليها المرء ويرجو من ورائها الخير لأمته وللبشرية جمعاء، فصاحب الدعوة لن يجد الطريق مفروشة بالورود، ولا ممهدة الجوانب مما يجعل الصبر خير سلاح يتمنطق به، فلعله يتعرض لفتنة أو إغراء، أو یهوی به إلى قعر مظلمة، أو يتعرض لحربه في لقمة العيش ومضايقته وربما تعدى الأمر ذلك للتصفية الجسدية من خصومه، الذين يبهرهم منطق الحق، ويخطف أبصارهم نور الحقيقة، والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ففي سيرة رسولنا عليه السلام نموذج لتلك الأساليب وفي سحرة فرعون نموذج آخر، وكذلك آسية زوجة فرعون، وفي أيامنا هذه نماذج من فنون القهر والعسف بأصحاب الدعوة، وهذا كله يتطلب الصبر والعمل الجاد، أن أمة يتحلى أفرادها وقادتها بفضيلة الصبر لن تهزم من قلة، فهم في ساعة الحرب صبر عند اللقاء، وهم في صبر، فأين نحن من هذه الفضيلة؟! فلتتفتح القلوب للغلف على نبع الإسلام ففيه دواؤها وشفاؤها.
قد يتبادر إلى الذهن ويجول في النفس سؤال عن حدود الصبر المستحب، فأقول إن الصبر المستحب هو الذي تجني من ورائه الخير لدينك ولأمتك ولنفسك دون أن يعتريك ذل أو خنوع. وما سواه إلا استرواح الكسالى لطعم الذل والانسحاق.
قد ترى يا أخي الباطل يتبجح وليس في مقدورك زحزحته فإن لم تصبر وتترو وتقس الأمور بمقاييسها انتحرت بيديك وأيدي عدوك، فضبط النفس ورباطة الجأش تستوجب التريث وعدم التسرع والارتجال فلقد أضاعا الكثير وسببا الفشل الذريع لهذه الأمة الحيرى.
إن الحق يستوجب الثبات والصبر على التكاليف فليس هناك شيء بلا ثمن، فطالب الفوز الرباني لابد أن يصبر على الجراح، ويواصل الكفاح وصدق الله تعالى إذ يقول ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا أن نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: ٢١٤) ، إن الوصول إلى الغايات يحتم علينا أن نصبر ونتجشم العناء، «فلن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر».
الصبر على طول الطريق ووعثاء المسير لا مفر منه، فعملية البناء متعددة المراحل والمشعل يحتاج إلى سواعد صابرة وقلوب عامرة ترفع الراية التي مالت منذ زمن بعيد ولا تعرف النكوص إن اعترضتها عقبة ولا تهوى السكون والخلود إلى الراحة الملفعة بأثواب الهوان إن لم تجن الثمار عاجلًا.
مثال تطبيقي
وما يجدر أن نضرب به المثل في هذا المقام هــــو الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة فقصة أسره مع الروم في خلافة عمر -رضى الله عنه- هي قصة المسلم الصابر المحتسب، تعرض للإغراء المادي، الملك والمال والنساء على أن يترك دينه فأبى، وتعرض للحرب النفسية فلم تلن له قناة، وتعرض للتعذيب الجسدي المريع، فكان صابرًا لا يعرف الجزع، فكان كما قال تعالى ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ﴾ (ص: ٤٤) فأنجاه الله، فأين أولئك الذين وقفوا يتوعدون العدو وهم في أوكار الرذيلة يسبحون؟ أين سقوطهم من صبر أولئك الرجال الأفذاذ الذين باعوا أنفسهم لله، ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. (الأحزاب: ٢٣)
«هذا هو الصبر الذي ذكره القرآن ففيه العزاء للقلوب المكلومة وفيه الشفاء للنفوس الحزينة والنجاح في هذه الحياة» وخلق إن كان للمسلم العادي فرض كفاية فللداعية فرض عين، وصدق الله العظيم إذ يقول ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ أن الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. (الأعراف: ١٢٨)
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
حتى يضحك الله لنا (3): المؤمن حقا لا يفقد نور الإيمان ولا بريق الأمل
نشر في العدد 1600
26
السبت 08-مايو-2004