العنوان الصرب والكروات وجهان لعملة واحدة في أزمة البوسنة
الكاتب د. محمد البقري
تاريخ النشر الثلاثاء 11-فبراير-1997
مشاهدات 8
نشر في العدد 1238
نشر في الصفحة 44
الثلاثاء 11-فبراير-1997
البوسنة والهرسك
- منذ توقيع اتفاقيات دايتون يرفض الصرب والكروات معًا عودة اللاجئين المسلمين إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم
منذ أن وقعت اتفاقيات دايتون للسلام في البوسنة والهرسك في أواخر عام ١٩٩٥م، وبعد أن حقق الطرف الصربي من خلالها ما عجز عن تحقيقه باستخدام الآلة العسكرية، كما سبق وأن أشرنا في حديث سابق عن الأزمة البوسنية، منذ ذلك الحين وقد بات واضحًا أن العقبة القادمة في طريق إحلال وإقرار السلام في الجمهورية اليوغوسلافية السابقة تتمثل في الطرف الكرواتي الذي كان يسعى منذ بداية الأزمة وبطرق ملتوية أحيانًا ومتخفية أحيانًا أخرى إلى تحقيق نفس الأهداف التي يسعى إليها الطرف الصربي، وقبل أن نقف عما يفعله الآن الطرف الكرواتي على الأرض البوسنية، لابد وأن نعود بالذاكرة قليلاً إلى الخلف لنتذكر معًا بعض الأمثلة على المواقف الكرواتية حتى تكون الصورة واضحة أمام قراء «المجتمع» الأعزاء.
عندما بدأت الحرب الأهلية في البوسنة كان الطرف المسلم يواجه اعتداءات عسكرية صربية وأيضًا كرواتية، ومدينة موستار أبرز شاهد على الجرم الذي ارتكبه الجانب الكرواتي ضد المسلمين، حيث مورست في المدينة المجزأة بين الجانبين عمليات التطهير العرقي وخروج المسلمين المقيمين في الجزء الكرواتي الغربي من موستار وقامت القوات الكرواتية بتدمير أعرق وأقدم جسر في المدينة حتى تفصل شطري المدينة.
في الوقت الذي أعلن فيه الطرف الصربي عن تشكيل وإنشاء جمهورية صربية من طرف واحد في البوسنة، قام الكروات من جانبهم بالإعلان أيضًا عن جمهورية مستقلة «هرسك بوسنة»، واختيار مدينة موستار عاصمة لها، بل إن الطرف الكرواتي قد سبق الطرف الصربي في الإعلان عن تشكيل هياكل دولته المستقلة من مجلس وزراء وبرلمان ورئاسة.
مازال العالم يتذكر منطقة بيهادج التي شهدت طوال حرب الأربعة أعوام أشد المعارك ضراوة وقسوة والتي تعرض فيها الطرف المسلم للقذف المدفعي والصاروخي من الجانبين الصربي والكرواتي حيث تقع المدينة على الحدود مع جمهورية كرواتيا، وتمثل نقطة إستراتيجية للطرف الكرواتي في حالة إعلانه الانضمام جغرافيًّا إلى جمهورية كرواتيا، وبالتالي لا يرغب في التواجد المسلم بهذه المنطقة، حتى لا يعرقل هذا الانضمام، ولذا فقد شهدت المدينة على مدى عامين حصارًا عنيفًا من الصرب والكروات، ثم تم الإعلان عن انشقاق مجموعة مسلمة عن الحكومة البوسنية بزعامة فكرت عابديتش أعلنت عن تشكيل جمهورية مستقلة لها في منطقة بيهادج وكان فكرت عابديتش ومجموعاته المنشقة يحصلون على الدعم العسكري من الطرف الصربي والدعم السياسي من حكومة كرواتيا لما له من أعمال تجارية واسعة بوصفه من رجال أعمال على الساحة الكرواتية، ولم يكن غريبًا عندما تم تحرير منطقة بيهادج أن يلجأ عابديتش للاحتماء في العاصمة زغرب، وكان الجانب الكرواتي وراء عودته إلى البوسنة وقبول ترشيحه في الانتخابات البرلمانية عن نفس المنطقة لتوفير الضمانات السياسية المستقبلية بأن «رجلهم» في هذه المنطقة الاستراتيجية.
وثيقة سرية
في نهاية عام ١٩٩٤ م كشفت المعارضة الصربية في بلجراد عن الوثيقة السرية التي وقعت بين الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش والكرواتي فرانيو تودجمان والتي تضمنت الاتفاق على تقسيم البوسنة والهرسك بين صربيا وكرواتيا، وقد تأكدت هذه المعلومات عندما نشرت صحيفة «الصنداي تايمز» الخارطة التي رسمها أو اقترحها الرئيس الكرواتي فرانيو تودجمان على وزير الخارجية البريطاني أثناء زيارته إلى لندن لحضور إحدى المؤتمرات الدولية للبوسنة، تلك الخارطة التي حدد فيها تودجمان رؤيته المستقبلية لحل الأزمة البوسنية بأن وضع خطًا بقلمه على الخارطة يقسم البوسنة بين صربيا وكرواتي.
بعد الضغوط الأمريكية لفرض الحل الأمريكي للأزمة البوسنية، كان على الكروات ضرورة القبول بفكرة إنشاء الفيدرالية الكرواتية المسلمة التي هدد الرئيس الأمريكي وقتها بفرض العقوبات الاقتصادية على زغرب إذا لم تدعم إنشاء هذه الفيدرالية على الأرض البوسنية، ولذا فقد اصطلح على الفيدرالية «زواج الإكراه» أو زواج المصلحة والحسابات وكان الطرف الكرواتي يدرك منذ البداية أن الفيدرالية ستكون فترة مرحلية في مواجهة الصرب من جانب والمحاولة من خلالها احتواء ما يمكن الاستيلاء عليه من مساحات جغرافية إضافة إلى التمكن من الحصول على امتيازات سياسية تمكنهم فيما بعد من الوصول إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية، ولذلك كانوا من جانب يعلنون عن مشاركتهم في الفيدرالية وعلى الجانب الآخر يضعون العقبات والعراقيل أمام إنشاء الأجهزة والمؤسسات الفيدرالية، وكانت المحصلة أنه منذ إعلان هذا الشكل الفيدرالي وحتى الآن لم يصدر قرارًا موحدًا يلتزم الجانب الكرواتي بتنفيذه.
رفض الجانب الكرواتي للخطة الأوروبية الرامية إلى دعم وإنجاح الشكل الفيدرالي بتوحيد مدينة موستار وإنشاء مجلس محلي مشترك من الجانبين في المدينة، إضافة إلى رفض الكروات السماح للمسلمين بالعودة إلى الجزء الغربي من المدينة والواقع تحت سيطرتهم بعد أن نزحوا عنه أثناء فترة الحرب إضافة إلى الرفض الكرواتي حتى الآن في إنشاء مقار للشرطة المحلية من عناصر مختلطة كرواتية ومسلمة.
منذ توقيع اتفاقيات دايتون ويرفض الجانب الكرواتي عودة اللاجئين المسلمين إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرته تمامًا كما يفعل الجانب الصربي وذلك بهدف ترسيخ المناطق العرقية.
رغم ما تنص عليه اتفاقيات دايتون بضرورة الإعلان رسميًّا عن حل الجمهورية الكرواتية في البوسنة «هرسك بوسنة» وانضمام هياكلها إلى الفيدرالية الكرواتية المسلمة قبل إجراء الانتخابات البرلمانية التي تمت في الرابع عشر من سبتمبر من العام الماضي ١٩٩٦م، إلا أن الطرف الكرواتي قد ماطل ومازال يرفض الإعلان عن حل جمهوريته المستقلة منتهكًا بذلك اتفاقيات دايتون واتفاقيات الفيدرالية.
نظرة عامة على الساحة
بعد هذه الأمثلة التي توضح النوايا المبيَّتة للجانب الكرواتي.. وبنظرة على ما يحدث الآن على الساحة البوسنية نجد أن الطرف الكرواتي يلعب الدور الصربي في إعاقة المسيرة السلمية، فعلى مستوى مجلس الرئاسة البوسني الذي يترأسه الرئيس علي عزت بيغوفيتش لم يصدر حتى الآن أي قرار يتم اقتراحه من الرئيس البوسني المسلم، حيث يعترض عليه العضوان الصربي والكرواتي، ووفق الدستور الجديد واتفاقيات دايتون، فإن قرارات المجلس الرئاسي لابد وأن تصدر بالإجماع.
وفي البرلمان الفيدرالي انسحب نواب الطرف الكرواتي اعتراضًا على قبول البرلمان لعدد من القوانين التي تلزم الجانبين بالعمل الوحدوي وعدم التعامل بشكل مستقل في علاقات خارجية مع الدول المجاورة، وجاء اعتراض الكروات الواضح ليثبت النوايا في رغبتهم التعامل مع جمهورية كرواتيا بشكل مستقل ولحد وصل إلى السماح في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم بالتعامل تجاريًا بالعملة الكرواتية وليس البوسنية، وقد أعلنت قيادات حزب التجمع الديمقراطي الكرواتي – أكبر الأحزاب الكرواتية في البوسنة – عن أن القوانين التي قبلت من البرلمان الفيدرالي لن تكون سارية ولن يتم الأخذ بها في أراضي جمهورية «هرسك بوسنة» الكرواتية.
هذا في الوقت الذي اكتشف فيه رئيس وزراء الفيدرالية الكرواتية المسلمة «أدهم تبشاك شيلش» عملية اختلاس أموال مالية من ميزانية الفيدرالية يقوم بها نائبه الكرواتي «دراجو بلانجيه» ووصلت قيمة الاختلاسات إلى ثلاثة وعشرين مليون مارك ألماني، وبعد التحقيق تبين أن الاختلاسات تتم بعلم قيادات الأحزاب الكرواتية، فطالب رئيس الوزراء المسلم بإقالة نائبه الكرواتي.
وكانت المفاجأة أن يعلق عضو الرئاسة البوسنية الكرواتي كراسير زوبك على هذه الاختلاسات بالدفاع عن الجانب الكرواتي وإلقاء المسؤولية على الطرف المسلم الذي لا يلتزم باتفاقيات دايتون على حد قوله، مما يزيد من نسبة الخلاف وعدم التفاهم بين الجانبين.
وكان من الطبيعي أن يعلن الطرف الصربي عن سعادته بالأزمة المتصاعدة بين الكروات والمسلمين ليعلن العضو الصربي في الرئاسة «لومشيلو كراتشيك»، أن الفيدرالية الكرواتية المسلمة سوف تنهار، لأن أساسها قد شيد على رمال إحدى الشواطئ التي سرعان ما سيجرفها أي موج بحري.
وقد تزامنت هذه التصريحات بلقاء كشفت عنه قيادات القوات الدولية في البوسنة عقد سرًّا بين بعض القيادات الصربية والكرواتية للتنسيق في مواجهة الطرف المسلم، وقد أعلن الكروات بعد هذا اللقاء أن مشاركتهم في الانتخابات المحلية التي ستجرى على الأرض البوسنية ستكون في قوائم خاصة باسم جمهورية «هرسك بوسنة»، ولن تكون في قوائم الفيدرالية، مما يؤكد أن الجانبين قد اتفقا على تعميق وتعزيز التقسيم العرقي بخلق مناطق عرقية بحتة مدعومة بالشكل السياسي العرقي الممثل في المجالس المحلية، الأمر الذي يعطي بداية وفق الأمر الواقع الانطباع بالتقسيم العرقي، ومن ثم الإعلان عن الانفصال الصربي والكرواتي عن جمهورية البوسنة وانضمام كل منهما لصربيا وكرواتيا، وترك المسلمين يحددون مصيرهم في السعي إلى إنشاء منطقة ذات حكم ذاتي حول منطقة سراييفو، مجبرين على قبول ما سيفرض عليهم من حكومتي بلجراد وزغرب، حيث إن منطقة سراييفو محاصرة من الجانبين ولا تتمتع بأي معابر تجارية أو بحرية مستقلة وما عليها إلا قبول الأمر الواقع الذي فرض الصرب والكروات بدعم من المجتمع الدولي الذي يتعمد إغماض عينيه عما يحدث فقط في سبيل إضاعة الفرصة أو أي إمكانية في وجود دولة مسلمة في قلب أوروبا..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلتوني بلير يحضر حفلًا للجالية الإسلامية ويؤكد تفهمه مطالبها
نشر في العدد 1350
17
الثلاثاء 18-مايو-1999
في أكبر مؤتمر عالمي يعقد عن الشرق الأوسط: حضور علماني بارز وغياب إسلامي ملحوظ مؤتمر "ميسا"
نشر في العدد 1080
13
الثلاثاء 21-ديسمبر-1993