; الطاهر مكي.. عالم من طراز فريد (1 - 3) | مجلة المجتمع

العنوان الطاهر مكي.. عالم من طراز فريد (1 - 3)

الكاتب أ.د. حلمي محمد القاعود

تاريخ النشر الاثنين 01-مايو-2017

مشاهدات 740

نشر في العدد 2107

نشر في الصفحة 64

الاثنين 01-مايو-2017

الوجه الآخر للطاهر مكي دوره العملي في الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية واستقلال الوطن

ساهم ثقافياً في مواجهة الواقع المتردي للأمة ومقاومة عوامل التحلل والاندثار والفساد

مشاركاته في الحياة العامة خارج أسوار الجامعة كانت سعياً لتحقيق ما يعتقده من مُثل وقيم

آراؤه الجريئة في الحقل الثقافي كانت وراء تجاهله وعدم مشاركته في الأنشطة الثقافية الرسمية

بعد حياة حافلة بالعطاء، انتقل إلى رحمة الله تعالى في الخامس من أبريل 2017م (التاسع من رجب 1438هـ) العالم الجليل الطاهر أحمد مكي، بعد عمر جاوز التسعين بسنوات، كان فيها مثالاً نادراً للأستاذ والباحث وصاحب الرأي والخلق، ولا نزكيه على الله، يعرف الراحل بأنه صاحب أجمل مقال عن الإمام الشهيد حسن البنا، وأول من سمح بدراسة سيد قطب في الجامعة بعد طول إغفال.

لا أذكر في أي سنة من الستينيات في القرن الماضي عرفت أستاذي د. الطاهر أحمد مكي (ولد عام 1924م)، ولكني رأيته لأول مرة بعيداً عن المحاضرات ومدرجات الدراسة في حديقة دار العلوم بالمنيرة (المبتديان)، وحوله مجموعة من الطلاب والطالبات، وكان يتكلم في الشأن العام بجرأة غير معهودة في عصر كان شعاره «الحيطة لها ودان!».

كان يتكلم عن الحرية وحق المواطن في التعبير عن رأيه وأشياء أخرى تصب في هذا السياق لا أذكر عباراتها بدقة، كنت في ذلك الحين أكتب بعض المقالات والموضوعات وأنشرها في بيروت، وأحاول بطريقة ما أن أعبر عن أشواق الإنسان المصري الذي سحقته الثورة «المباركة»، وأذلته أمام العدو النازي اليهودي في فلسطين، وجاء لقاء الطاهر مكي في حديقة دار العلوم ليعطيني مدداً غير مسبوق في الجرأة عند الحديث عن قضايا الأمة المكلومة.

لم يكن الرجل مثل الآخرين الذين ينكفئون على موادهم وكتبهم العلمية لا يخرجون عنها ولو بكلمة، ويحترسون في كل لفظ يفوهون به، أو يضعون بينهم وبين طلابهم متاريس من الفوقية والجهامة كي لا يقترب منهم أحد، وربما عوّضوا ذلك باستعراض مفتعل في مناقشات الماجستير والدكتوراه يقهر الطالب ويؤذيه، كان الرجل قريباً من كل طلابه، بسيطاً في ملبسه وكلامه الذي ما زالت تسيطر عليه آثار من اللهجة الصعيدية المحبّبة، ويجيب عن كل سؤال يوجه إليه من أي سائل، ويبدو في كل الأحوال ابن الناس الذي يمشي على الأرض دون مرح أو خيلاء.

اقتربت منه كثيراً في المناقشات العلمية والسفر الطويل إلى بعضها في أسيوط والمنيا، وتداولت معه كثيراً من القضايا والحكايات والأسرار، واستمتعت بروحه الإنسانية البسيطة، وتشربت منه حب المعرفة والرحلة، ولا أظنني مللت سماعه، ولا سئمت لقاءه، ولولا ظروفي الصحية التي أقعدتني عن الحركة إلا لضرورة ملحّة ما انقطعت عن التواصل معه والنهل من معينه العذب.

وحين طلب مني الكتابة عنه لتكريمه كانت سعادتي كبيرة لأقدم إليه بعض السطور عرفاناً بفضله، وحباً لشخصه، واعتذاراً عن تقصير السلطة في تقديره، مع أنها تقدر من أهم أقل منه قامة وقيمة وما أكثرهم، فنحن طلابه وتلاميذه نعرف قيمته الحقيقية ونقدره حق قدره أفضل من أي سلطة لا تلتفت إلا إلى نوعية معينة وفصائل خاصة.

أقدم الوجه الآخر لأستاذ الجامعة الذي لا يكتفي بأضابيره وبحوثه، أو الأستاذ الذي يقود أمته للنجاة من قيود الرق، وسطوة الطغاة، والمثقفين الذين يخدمونهم ويضللون الشعوب ويدلسون عليها.

يمكن لغيري أن يقدم جهد الرجل في المجال العلمي باستفاضة باحثاً في الأندلسيات أو محققاً لكتب التراث أو مترجماً لبعض الأعمال الأجنبية المهمة، أو أستاذاً في مجال التخصص مع طلابه في مرحلة الليسانس أو الدراسات العليا وهو مجال تفوق فيه وأثبت أستاذية يدين بالفضل من خلالها عدد كبير من ألوف الطلاب والباحثين في مشارق الوطن العربي ومغاربه، فضلاً عن بلاد إسلامية عديدة.

يمكن القول: إن الوجه الآخر للطاهر مكي في هذا المجال هو التضحية بتكوين أسرة لينجب أبناء أعزاء يعرفهم العالم العربي والإسلامي، وهو مواجهة الأوضاع الفاسدة في التعليم والثقافة والسياسة والمجتمع، وهو التنبيه إلى الأخطار التي تحدق بالأمة والوطن والناس.

في مجال البحث هناك أبناؤه:

- امرؤ القيس.. حياته وشعره (1968م).

- دراسة في مصادر الأدب (1968م).

- بابلو نيرودا شاعر الحب والنضال (1974م).

- دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة (1976م).

- القصة القصيرة.. دراسة ومختارات (1977م).

- مع شعراء الأندلس والمتنبي (1978م).

- الشعر العربي المعاصر.. روائعه ومدخل لقراءته (1980م).

- دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة (1980م).

- الفن العربي في إسبانيا وصقلية (1980م).

- الشعر الأندلسي في مصر (1990م).

- الأدب الأندلسي من منظور إسباني (1991م).

- الشعر العربي في إسبانيا وصقلية (1991م).

- مناهج النقد الأدبي (1991م).

- الشعر العربي المعاصر.. روائعه ومدخل لقراءته (1996م).

- في الأدب المقارن.. دراسات نظرية وتطبيقية (1988م).

- الأدب المقارن.. أصوله وتطوره ومناهجه (1989م).

- مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن (2002م).

- أصداء عربية وإسلامية في الفكر الأوروبي الوسيط (2005م).

وفي مجال التحقيق هناك أبناؤه بالتبني:

- طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي (1977م).

- «الأخلاق والسير في مداواة النفوس» لابن حزم الأندلسي (1985م).

وفي ميدان الترجمة هناك أبناء روحيون:

- ملحمة السّيد (1970م).

- الحضارة العربية في إسبانيا - ليفي بروفنسال - عن الفرنسية (1980م).

- الشعر الأندلسي في عصر الطوائف - عن الفرنسية (1990م).

- التربية الإسلامية في الأندلس: أصولها المشرقية وتأثيراتها الغربية - خوليان ريبيرا (1980م).

الوجه الآخر للطاهر مكي هو دوره العملي في الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية وحق الوطن في الاستقلال والانضمام إلى قافلة بناة الحضارة والمنتجين للثقافة الأصيلة.

ما أردت أن أشير إليه هنا هو دوره الثقافي في توجيه النخبة إلى مواجهة الواقع المتردي للأمة العربية، ومقاومة عوامل التحلل والاندثار والفساد، وخاصة الفساد السياسي والثقافي الذي تسرب في خلايا الأمة بتقديم الفكر الزائف والأدب الرخيص والفن الهابط.

لقد بدأ دوره في الشأن العام مذ كان طالباً صغيراً في ربعه الريفي بكيمان المطاعنة التي كانت تابعة يومئذ لمديرية قنا، وصارت الآن تابعة لمحافظة الأقصر، بقراءة الصحف اليومية لأهل قريته وإن لم يفهم معظم ما يقرأ، ولكنه يؤدي دوراً مهماً يعني الناس ويشغلهم، ويسعون إلى فهم أبعاده، ثم مشاركته وهو طالب في المعهد الديني بقنا في النشاط المعادي لدولة الاحتلال الإنجليزي بالخروج في المظاهرات والهتاف ضد المحتل المتوحش، وتتاح له الفرصة في قريته ليقابل شخصية من أهم شخصيات زمانه وهو الإمام الشهيد - بإذن الله - حسن البنا، فيصاحبه ويتعرف عليه وهو في مقتبل حياته، ويعجب بمنهجه وسلوكه ودقته ونظامه، وحين ينتقل إلى القاهرة للدراسة في المعهد الديني الثانوي يزداد معرفة به، وهو ما أهّله ليكتب عنه أجمل مقال يترجم له في مجلة «الدوحة» القطرية، وسنعرض له في الحلقة القادمة إن شاء الله، ثم يتابع نشاطه في الانخراط ضمن المظاهرات الرافضة للاحتلال والاستبداد، وتشغله الدراسة والتخرج في دار العلوم والانبعاث إلى الخارج (إسبانيا خاصة)، ويعود ليؤدي دوره معلماً في الجامعة، ولكنه ليس أي معلم، إنه رائد في توجيه الشباب نحو المعاني الكبيرة والمُثل العليا وبناء الأوطان على أسس الحرية والديمقراطية والعدل.

كانت مشاركاته في الحياة العامة خارج أسوار الجامعة سعياً لتحقيق هذه المُثل وتلك المعاني، لدرجة أنه انضم لحزب التجمع الذي يضم خليطاً من اليسار واليمين والقوميين، ولكنه غادره قبل أن تصل به الحال (أي الحزب) إلى تحكم القيادة الشيوعية فيه وهروب آلاف المنتسبين إليه حين اكتشفوا ولاءه الحميم للنظام المستبد الفاشي نظير مكاسب تافهة مثل تعيين بعض قياداته في مجلس الشورى أو مجلس الشعب.

كانت رغبة أستاذي الطاهر مكي في الإصلاح والتغيير وبناء نظام ديمقراطي حقيقي وراء هذه التجربة الحزبية التي لم تستمر، فقد جرّب أن يترشح لمجلس الشعب، ولكنه اكتشف طبيعة النظام الذي لم يكن مخلصاً في حديثه عن الديمقراطية، وكان محترفاً في تزوير الانتخابات وتمرير من يريدهم من النواب المصفقين والهتيفة حتى لو لم يحصلوا إلا على أصواتهم وأصوات المحيطين بهم دون أن يحصلوا على الأغلبية. 

شارك د. الطاهر في نشاط الحزب الثقافي، وكانت هذه نقطة إيجابية إلى حد ما، وتولى تأسيس مجلة الحزب الأدبية واسمها «أدب ونقد»، وأخذت المجلة تمضي قدماً في ظل تسامحه ورحابة صدره، وإيمانه بتعدد الآراء والاتجاهات، ولكن القوم - وكانوا يتولون إدارة التحرير والتنفيذ - غلب عليهم طبعهم الإقصائي، فحوّلوها إلى مجلة ذات اتجاه واحد، وانغلقت على دائرة معينة، وما كان من الرجل إلا أن ترك الجمل بما حمل، وأعتقد أن هذا كان آخر عهده بحزب التجمع الذي انهار بعدئذ انهياراً غير مسبوق!

واكتفى الرجل بعدئذ بكتاباته في بعض المجلات والصحف، يعبر عن آرائه في الشأن العام والشأن الثقافي، ويطرح أمنياته لتحسين الأوضاع هنا وهناك، وكانت السن المتقدمة تفرض نوعاً من تقليل النشاط خارج الجامعة ليتركز حول التدريس ومناقشة بحوث الماجستير والدكتوراه والمشاركة في بعض اللجان الثقافية النوعية، فضلاً عن المشاركة – بحكم العضوية - في نشاط المجمع اللغوي بالقاهرة.

ولاحظت أن آراءه التي تظهر في أحاديثه الصحفية ومقالاته التي ينشرها في العقدين الأخيرين تواجه ما يجري في الحقل الثقافي بوضوح قاطع؛ مما ترك أثراً أو رد فعل تمثل في تجاهله وعدم مشاركته في الأنشطة الثقافية الرسمية، وعدم منحه الجائزة الكبرى التي كانت تسمى «جائزة مبارك» وصارت تسمى «جائزة النيل»، بينما حصل عليها من هم أقل منه قامة وقيمة، صحيح أنه نال «جائزة الدولة التقديرية»، ولكن حين ينال الجائزة من هم أقل منه بكثير؛ فمعنى ذلك أن الأمور مقلوبة، وليست سوية على صراط مستقيم.

الرجل في كل الأحوال لم يكن يعبأ بمثل هذه الأمور، فقد نذر نفسه للعلم، ويرى فيه لذة لا تعادلها لذة أخرى.>

الرابط المختصر :