العنوان فكر: العلامة القرضاوي ودوره الحضاري في جنوب شرق آسيا
الكاتب محمد هداية نور وحيد
تاريخ النشر السبت 18-أغسطس-2007
مشاهدات 24
نشر في العدد 1765
نشر في الصفحة 32

السبت 18-أغسطس-2007
■ طلبة العلم الدارسون بالدول العربية أول من نقلوا أفكاره إلى بلادهم
■ أفكار القرضاوي جنبت الحركات الإسلامية في جنوب شرق آسيا الوقوع بين شقي رحى التطرف والانفلات الغربي.
■ علاقات القرضاوي الطيبة بقادة وعلماء دول جنوب شرق آسيا دعمت الأفكار الإسلامية الوسطية لدى شعوب القارة.
■ الاقتصاد الماليزي ومؤسساته الإسلامية انطلق من أفكاره عن الاقتصاد الإسلامي.
الحديث عن دور الشيخ د. يوسف القرضاوي بين أبناء إندونيسيا وماليزيا وتايلاند الجنوبية وجنوب الفلبين «مينداناو» وبروناي -ودول جنوب شرق آسيا بشكل عام- حديث ذو شجون.
فكثير من مسلمي تلك المنطقة أخذوا العلم منه مباشرة، وبعضهم الآخر أخذه من خلال قراءة معظم مؤلفاته المترجمة إلى اللغات المحلية التي تعدت أكثر من ثمانين مؤلف..
وأصبحت مؤلفات الشيخ القرضاوي مرجعًا أساسيًا وحلا للكثير من قضايا الأمة مثل: «الحلال والحرام في الإسلام»، و«فتاوى معاصرة»، و «فقه الزكاة».. و «كيف نتعامل مع القرآن العظيم»؟ و«المدخل لدراسة السنة النبوية»، و«ثقافة الداعية» و «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، و «الحل الإسلامي فريضة وضرورة»، و«شمول الإسلام»...
وقد ساهم أصحاب دور النشر في دول جنوب شرق آسيا في النهضة الثقافية التي أحدثتها مؤلفات د القرضاوي، فجالوا كثيرًا من دول العالم المختلفة للحصول على مؤلفات الشيخ، وكذلك فإن عودة الطلبة الذين درسوا في الجامعات العربية في الشرق الأوسط، ساهمت في نشر أفكار الشيخ عبر المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية وترجمة معظم تلك المؤلفات إلى اللغة الإندونيسية منذ بداية السبعينيات.
ومما زاد سعة نطاق تأثير أفكار الشيخ.. زياراته المتكررة إلى هذه المنطقة. ففي زيارته الأخيرة إلى إندونيسيا في يناير ٢٠٠٧ م التقى رئيس الجمهورية ونائبه وكذا رئاسة مجلس علماء إندونيسيا، وجمعية نهضة العلماء والجمعية المحمدية ورئاسة الجامعة الإسلامية الحكومية وطلابها بجاكرتا، ورئاسة مجلس الشورى الإندونيسي ومجلس النواب -البرلمان الإندونيسي- ومعهد دار النجاح الإسلامي، ثم توج ذلك بإلقائه خطبة الجمعة بمسجد الاستقلال- أكبر مساجد إندونيسيا-.
بداية النهضة الطلابية
إن التخلف والركود الذي عاني منه الشعب الإندونيسي المسلم خلال العقدين الماضيين حث بعض الإندونيسيين- وخاصة طلبة الجامعة- على السعي الحثيث للبحث الجاد عن قواعد قوية ومبادئ راسخة تنقلهم إلى بر التقدم والقوة فوجدوا في مؤلفات الشيخ القرضاوي قاعدة بديلة تثبت وترسخ في أنفسهم، كحل بديل عن الحل الذي عرضه الغرب والشرق عبر علمنة الحياة وإلغاء الإيمان بالله وتهميش الاقتداء برسول الله ﷺ الذي ساد في تلك السنوات، وجعل الدين منعزلًا عن الحياة وتابعًا في بعض جزئيات الحياة، سواء أكانت عقدية فقط أم سلوكية تعبدية.
وقد بذلت الحضارة الغربية -التي أظهرت قوتها وعملقتها- أقصى جهدها لغرس الشك وفرض الوهن ونبذ الثقة بالحل الإسلامي بين المسلمين، حتى يضلوا ويضيعوا.
وعلى هذا الصعيد تبارت نخبة من الطلبة في العمل الدائب والدراسة الجادة لفهم الدين ووجدوا أن الإسلام دين ذو عقيدة سليمة وعبادة صالحة وأخلاق كريمة وتشريع معتدل، كما أنه دين رباني وإنساني وشامل ووسطي يجمع بين الثبات والمرونة.
وخلال مطالعتهم ومدارستهم لأفكار الشيخ القرضاوي بدا لهم ضرورة أن تتفادى الأمة أمرين:
أولًا: تجميد ما من شأنه التغير والتطور والحركة والذي من شأنه توقف الاجتهاد في الفقه والإبداع في العلم وغيرها من الأمور..
ثانيًا: الخضوع للتطور والتغيير فيما من شأنه الثبات والدوام والاستقرار.
ولم يكن هذا شأن الطلبة مع الشيخ القرضاوي في إندونيسيا فحسب، وإنما هو نفس شأن طلبة ماليزيا وتايلاند الجنوبية ومينداناو وبروناي، إلا أن الوضع السياسي الذي ساد هناك لم ينعم بحرية تامة كما في إندونيسيا، لكن ظاهرة ترجمة الكتب ومؤلفات الشيخ القرضاوي باللغات المحلية أعطت أقوى دليل على قبول الشعب المالاوي في منطقة جنوب شرق آسيا لأفكاره الوسطية...
وعلى نفس المنوال ساند كثير من العلماء الماليزيين أفكار الشيخ القرضاوي مثل: «داتوك الحاج محمد نخائي أحمد» -رئيس مؤسسة الدعوة الإسلامية بماليزيا- الذي طالب بتطوير العمل الدعوي انطلاقًا من منهج الشيخ القرضاوي كما تناول الكثير من طلبة الدراسات العليا في ماليزيا اجتهادات القرضاوي الفقهية مثل موضوع «فقه الزكاة» بالدراسة الميدانية لتطبيقها في الواقع ومما أثرى الحياة الثقافية الماليزية حركة الترجمة الواسعة لكتابات القرضاوي.
مؤلفات القرضاوي والصحوة
انتشار أفكار ومؤلفات الشيخ القرضاوي في إندونيسيا خاصة والدول المجاورة عامة يعد من العوامل المهمة في ترشيد الصحوة للمضي قدمًا نحو النهضة الفكرية والحركية المعتدلة بعيدًا عن التطرف والانغلاق.
فعلى سبيل المثال ركز كتاب الحل الإسلامي.. فريضة وضرورة على أوجه فشل الحلول الغربية الليبرالية والاشتراكية آنذاك، وأن الحل الإسلامي هو البديل الذي يملأ الفراغ عن طريق استعادة ثقة المسلمين بالمقومات المتوافرة لدى الأمة التي يمكن أن تستغل من أجل النهضة وسط الضعف الأليم لإخراج الأمة من الشراك الغربي القابض عليها.
وتعرف المسلمون من خلال هذا الكتاب على شعار الإسلام أولًا، حتى استطاعوا نبذ التبعية الفكرية والاضطراب العقائدي والقلق النفسي والحيرة العقلية، وكذلك نفسية الانغلاق والجمود والتطرف التي تعانيها الأجيال الناشئة في البلاد، وبدأوا التفكير في التغيير الجاد نحو إثبات مواقفنا ليكونوا أساتذة للبشرية: عملًا بقول الله تعالى: ﴿لتَكُونُوا شُهَدَاء على النَاسِ﴾، ولا يرضوا لأنفسهم بمقام التلمذة والتبعية.
كما بادر نشطاء الحركة الطلابية بالتعاون مع الدعاة البارزين في البلاد لإنشاء المؤسسات الخيرية والتعليمية وما شابه ذلك من الهيئات الخاصة التي تساهم في يقظة الأمة في سائر مجالات الحياة العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، انطلاقًا من أفكار الشيخ القرضاوي الداعية للأخذ بشمولية الإسلام.
علاوة على ذلك حظيت أفكار وكتابات الشيخ القرضاوي بقبول واسع لدى كبار الشخصيات من جمعية نهضة العلماء.. كما تدرس بعض كتب الشيخ القرضاوي في أكبر معاهد تلك الجمعية في «كربياك يوكياكرتا» منذ سنوات طويلة. وكذلك الجمعية المحمدية، وهي الجمعية الثانية من حيث عدد منتسبيها، معروفة باحتكاكها المكثف بأفكار الشيخ القرضاوي التي اقتبست منها أفكارها وكتاباتها العلمية.
في ماليزيا
وعلى صعيد آخر، فإن للشيخ القرضاوي دورًا مهمًا في حركة الحزب الإسلامي الماليزي «PAS»، فكبار شخصيات الحزب مثل الأستاذ نصر الدين من بين تلاميذ الشيخ القرضاوي، كما أن فتاوى الشيخ المعاصرة يرجع إليها الكثير من الناس في الحركة، بل إن مفتي مملكة بيرليس الماليزية الدكتور محمد أسري زين العابدين، كان يشرح مدى التمدن الذي نعتزم بناءه حاليًا وفقًا لتصور القرضاوي.
كما أن الوضع نفسه موجود في بروناي دار السلام حيث تحظى أفكار الشيخ القرضاوي بقبول واسع ونكتفي هنا باقتباس ما استدل عليه الأستاذ الحاج أوانج عبد العزيز بن جنيد، مفتي مملكة بروناي بأحكام الفن لكتاب الشيخ القرضاوي «الإسلام والفن».
الحركة الفكرية
أما عن دور أفكار الشيخ القرضاوي في الحركات الفكرية بمفهوم المدرسة الخاصة لهذه الفكرة فيمكننا العثور عليها من خلال وجهة نظر مؤسسي معهد دراسة الأفكار والحضارة الإسلامية «INSISTS» بجاكرتا، الذي أنشأته مجموعة من خريجي المعهد العالمي للأفكار والحضارة الإسلامية بكوالالمبور ماليزيا لمواجهة أفكار المستشرقين والتيار التغريبي المنتشر في الجامعات الإسلامية الحكومية هذه الأيام.
وقد كتب أحد مؤسسي هذه المدرسة الدكتور أوجي سوهارتو، أستاذ الجامعة الإسلامية العالمية بكوالالمبور ماليزيا دراسة مقارنة عن تصور العلمنة بين الدكتور نجيب العطاس والدكتور القرضاوي، مشيرًا إلى مدى عمق دور الشيخ القرضاوي بين الأوساط الفكرية في المنطقة. كما أن تأصيل أفكار القرضاوي وعرضها وشمولها شجع الدكتور إدريس عبد الصمد وآخرين على إنشاء ملتقى القرضاوي، بجاكرتا رغبة في إرساء وترسيخ علم الشيخ القرضاوي وأفاقه، وتوسيع أثاره لدى الشعب الإندونيسي بشكل عام. كما أسس بعض الماليزبين معهد أفكار القرضاوي «IPAQ»، وتم عقد مؤتمره الثاني في ٧ أبريل ٢٠٠٦ م في مدينة دمانسارا رغبة في البحث عن قواعد لنشر منهج فقه التيسير للشيخ القرضاوي بين الماليزيين.
أما تأثير الشيخ في الحركة الفكرية العامة، فيمكننا الاطلاع عليه من خلال الندوات والمناقشات العلمية التي عقدت في الجامعات والمؤسسات التعليمية المنتشرة في البلاد، إضافة إلى الخطب والإرشادات الإسلامية التي ألقيت عند المجالس التعليمية والدعوية في المساجد...
والجدير بالذكر أن مؤلفات الشيخ القرضاوي أصبحت موضوعًا رائجًا للدراسات العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، كما أن معظم مؤلفات الشيخ مترجمة إلى اللغة الإندونيسية.
الاقتصاد الإسلامي
وأرى أن الشيخ القرضاوي قدم مساهمة علمية وعملية مهمة من خلال كتابه فقه الزكاة في تحقيق نهضة الأمة. وفي بناء الاقتصاد الإسلامي العالمي، وعلى مستوى إندونيسيا.. فكم كان تأسيس المؤسسة الخيرية وبيت الزكاة صعبًا وعسيرًا، وكم كان تأسيس البنك الإسلامي مستحيلًا في تلك الأيام التي خلت لكن ظهور كتاب «فقه الزكاة» -الذي أصبح من الكتب الأكثر مبيعًا في إندونيسيا-، وربما تمت طباعته بكميات كبيرة تجاوزت مئات الآلاف- صنع وعيًا شعبيًا عامًا بضرورة ظهور بيوت الزكاة والبنوك الإسلامية حتى تمكنت تلك المؤسسات من المساهمة البناءة التي تتوافق مع أجندة الحكومة للقضاء على الفقر والبطالة وتمكين الضعفاء والفقراء من للعمل والكسب، ووافقت الحكومة على إنشاء الهيئة المنسقة لبيوت الزكاة على المستوى الوطني.
كما كان لذلك الكتاب وكتابي فوائد البنوك هي الريا الحرام، ودور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، دور فعال في تنشيط الفعاليات الجادة في إندونيسيا لعملية أسلمة الاقتصاد.
ويعترف المراقبون والمطلعون على نمو الاقتصاد الإسلامي في ماليزيا، أن لكتب الشيخ القرضاوي دورًا مهمًا في عملية أسلمة الاقتصاد الناجحة في تلك الدولة المجاورة لإندونيسيا، وقد تقدمت ماليزيا خطوات إلى الأمام في تطبيق مبادئ الأسلمة بقوة ونرى فيها اليوم معالم الرفاهية والتقدم والعمران.
الفكرة الوسطية المعتدلة
وقد اعتزمت الرابطة الإندونيسية للدعاة في الفترة الأخيرة تقديم الفكرة البديلة عن أفكار مستغربة سائدة حينًا وأفكار متطرفة حينًا آخر. وتم التدارس حولها، لإيجاد فكرة شاملة معتدلة ووسطية، فلجأوا إلى مؤلفات الشيخ القرضاوي استدلالًا بها واعتمادًا عليها.
ومن أفكار الشيخ المهمة.. دعوته إلى «وحدة الأمة»، وضرورة تحقيق الأخوة والتعاون فيما بينهم، ففي إندونيسيا حرصت كل من «جمعية نهضة العلماء» و «الجمعية المحمدية» على تطبيق تلك الأفكار والرؤى.
القدس وفلسطين
ومن أفكار الشيخ المؤثرة في المنطقة إحياء مناصرة المسجد الأقصى والشعب الفلسطيني، وبالتالي عالمية الإسلام وقد تناغمت تلك الأفكار مع مواقف رئاسة الجمهورية الإندونيسية، متحدة مع الشعب من أجل الدفاع عن قدسية المسجد الأقصى المبارك وتحرير فلسطين ورفض كل أنواع الظلم والاستعمار على فلسطين حكومة وشعبًا.
إن السعي لتوفير المناخ الملائم لنشر الفكرة الوسطية بين الإندونيسيين قائم حتى هذه اللحظة بديلًا لأفكار متطرفة ومتشددة حينًا، وأفكار غربية متساهلة، بل متحررة حينًا آخر، وإن مؤلفات الشيخ القرضاوي ليست إلا تربة خصبة ومرجعًا قويا وكنزًا ثريًا يلهمنا ويساهم بالكثير في وضع المبادئ الوسطية والقواعد المعتدلة في التعامل الإسلامي بين الإندونيسيين حتى يقتدي بها المسلمون في حياتهم اليومية للخروج من تبعية تلك الأفكار المستوردة والمستغربة، ويعيشون في أمن وسلام واستقرار.
العدد القادم إن شاء الله د. عصام العريان يكتب عن الشيخ القرضاوي وأثره في الشباب.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الزيـادة في البيـع والزيـادة فـي الربا.. رؤيــة اقتصاديــة تحليليــة
نشر في العدد 2181
31
السبت 01-يوليو-2023

