; العدالة وأفانين الهمج | مجلة المجتمع

العنوان العدالة وأفانين الهمج

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 24-أغسطس-1993

مشاهدات 18

نشر في العدد 1063

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 24-أغسطس-1993

كانت دائمًا تحدثني نفسي كيف لا ترى العدالة النور في منطقتنا الثكلى، أو تستبين الحقيقة الطريق في أيامنا النحسات، وهي تبصر وتسمع وتعايش آهات المعذبين، وأنين الجرحى، وصرخات المكبوتين، وحشرجة الموتى التي قد اختلطت بدماء القلوب وفلذات الأكباد؟ وكيف لا يدرك رجال تصدوا للفصل في المظالم، والقضاء في الكوارث أن العدالة تذبح كل يوم ألف مرة، وأن الحقوق تداس كل لحظة مائة مرة، وأن روائح الظلم الكريهة قد زكمت الأنوف ولوثت الأجواء، حتى بلغت القلوب الحناجر، وظن الناس بالقضاء الظنونا؟ والحقيقة أن تشخيص هذه الظواهر القمعية، ووصف هذه الأعمال الوحشية يحتاج إلى وقفات، بعدما صار تعذيب الضحايا إبداعًا وطنيًا، وقتل القيم البشرية إنتاجًا قوميًا، ونسف الكرامة الإنسانية صناعة محلية تقوم عليها رموز دول المفروض أنهم سند للعدالة، وحماة للأمن وحفظة للكرامة، فإذا بهم أسود على أممهم، نعاج لكل بقاع الأرض، ذئاب على إخوانهم، أرانب على أعدائهم، والراصد المنصف لهذه الظاهرة الخطيرة يجد أنها بدأت بشكل حديث زمن الاحتلال الأجنبي ضد بعض الرموز الوطنية، ثم هدأت أو تلاشت في عهد ما قبل الثورات المحلية، ثم حميت وصارت جحيمًا في عصر الأنظمة الثورية والسلطوية، وشملت كل الوطنيين وخاصة الإسلاميين الذين صب عليهم العذاب صبًا، وتواصل ذلك وبغير هوادة أو انقطاع وبشتى الأنواع والطرق حتى تحول الاضطهاد إلى إعصار أشعل لهيبًا قويًا، تراءت ألسنته لكل ذي عينين، وألفت في ذلك كتب ودوريات، وأذاعته محطات وتلفازات، وروته شهود عيان، وتواترته ألسنة الحدثان، يروى أحد المحللين الغربيين مشهدًا لأحد المعذبين من الإسلاميين وكان ذلك في سنة (٥٤) في عصر الثورة المباركة بعد أن تحطمت جمجمته بالطوق الحديدي، وتكسرت أسنانه من الضرب، وشوهت رأسه وخده، وارتسم فى نظراته الشاردة العمياء معنى العدم، وقد جمد العذاب في عينيه بريق الضياء، بعد كل هذا وما خفى عن نظري كان أكثر اعترف بما أملاه عليه المحققون.

إنه المدعو صلاح خليفة مهندس الفيزياء الذرية، والباحث في مؤسسة الطاقة الذرية، «ولو كان في غير هذه الأمة لنال أرفع الأوسمة»، ورجل آخر تحمل ما لا يتحمله بشر من العذاب والهوان حتى صار كومة من لحم ودم وقيح، وما تكلم إلا بذكر الله، إنه القاضي الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة مؤلف كتاب التشريع الجنائي الإسلامي»، «وآخر كان قائد المجاهدين في منطقة القتال أقض مضاجع المحتلين، وأذاقهم الصاب والعلقم، وأحيا الرجولة الإسلامية، ورصد المحتل الألوف من الأموال لمن يأتي به حيًا أو ميتًا، نال من العذاب ما تئن منه الشم الرواسي حتى مزق جسده، وكسرت عظامه، وما أعطى الدنية، إنه البطل الشهيد «يوسف طلعت» وهذا علم من أعلام الأزهر بشهادة الجميع، صاحب الفضل والدين والعزم، المجاهد المحتسب والعالم العامل الذي مات تحت المقصلة مبتسمًا بعد عذاب طويل، وتحطيم جسدي، وتقطيع لأوصاله الغضة بالسياط والآلآت الحادة، ولكنه كان نعم المحتسب الصابر العالم، إنه الشهيد الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب فلسطين، ورجل آخر والرجال قليل، أكبر مفكر إسلامي أنجبته مصر في هذا الجيل، وأعظم عبقري معاصر أبرز وجه الإسلام الحقيقي في الحضارة المعاصرة، وتكلم فى القرآن كأفضل مبدع، وأعمق متأمل، وأجود ناظم لدرره مظهر لآلئه كأنه يخرج من مشكاة نبوة، أو ينساب من أروقة الجنة، إنه الشهيد سيد قطب، الذى تعرض لألوان وألوان وصنوف وأشكال من التعذيب عجزت عن مثله آلة النازية، وأساليب الهمجية، ولكنه مات عملاقًا، وأبى أن يمالئ الظلم ولو بوريقة مثل عقلة الإصبع ليفلت من حبل المشنقة.

هذا وأصبحت قوافل التعذيب وأرتال الموتى تحت السياط حديث الركبان، وأهاجت الكثيرين حتى من غير المسلمين والناظر في كتاب، «أقسمت أن أروى» «لروكس معكرون» الذي شاهد ذلك في سجن طره والسجن الحربي يرى العجب العجاب، ويشاهد من الأهوال ما تتقطع له نياط القلوب من أفانين الهمج وألوان آلآت السحق الوحشي الوطني. 
مصر الحديثة قد علت وتقدمت                            في صنعة التعذيب والتقرين
وتفننت كي لا يمل معذب                              في العرض والإخراج والتلوين
أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه                                  حتى يرى في هيئة البالون
أسمعت بالإنسان يشعل جسمه                               نارًا وقد صبغوه بالفزلين
أسمعت ما يلقى البريء ويصطلى                     حتى يقول: أنا المسيء خذوني
أسمعت بالآهات تخترق الدجى                            كم من شهيد في التلال دفين

أتری معي كم كانت العدالة فى بلادنا مغيبة بالطوارئ، بالمحاكم العسكرية، بشتى الأفانين؟ وما زالت فإذا أفلتت قضية من القضايا كقضية المحجوب؛ ظهر الهول، وسطع الجرم، وخاف القتلة الحقيقيون والفعلة الأصليون من افتضاح المستور، وليس المحجوب أعز من بو ضياف أو حريق القاهرة أو...، أو...: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة يوسف: ٢١).

الرابط المختصر :