; العدل في الإسلام | مجلة المجتمع

العنوان العدل في الإسلام

الكاتب عبد الستار الصابونجي

تاريخ النشر الثلاثاء 08-ديسمبر-1970

مشاهدات 16

نشر في العدد 38

نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 08-ديسمبر-1970

العدل في الإسلام

كيف نختار من يتولون أمر الناس؟

للصيدلي الكيميائي عبد الستار الصابونجي

العدل أساس الملك، هكذا بقي هذا القول المأثور خالدًا، له رنينه المستمر عبر القرون، والحكم المقترن بالعدل هو أسمى ظاهرة إنسانية، تطمئن إليه نفوس الأفراد في كل مجتمع، ولقد قال أرسطو «بالعدل قوام العالم، وإن لم يتم عدل فلا سبيل إلى بناء الأمم».

عند بزوغ فجر الدين الإسلامي الحنيف، وصار الإيمان يترسخ في صدور المسلمين ويملأ شغاف قلوبهم بالغًا الذروة في مرتبته، استحال الأمر في المجتمع العربي الإسلامي وتطور وتبلور وأصبح أمًرا ذا شكل ولون وطابع آخر تهفو إليه القلوب الضعيفة والمستضعفة عربية وأعجمية لتكتسب الصحة والنشاط وتتهافت عليه الأرواح الظامئة لترتوي من فيض ينابيعه الزاخرة الهادرة، تستقي من غيرها نورًا وعلمًا ومعرفة تزيل صدى جهلها وتقضي على ظلمات لغتها قرونًا عديدة.

أجل هكذا تغيرت النظرة العابرة الضحلة الضيقة الأفق وصارت إلى نظرة غيرها، نظرة فاحصة عميقة واقعية بعيدة المدى، فلا ثأر ولا ربا ولا وأد وإنما سلام وإخوة، وتعاون على البر والتقوى وحفاظ على النفس وحماية ومساواة لا فرق ولا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى.

وهكذا، دبت الحياة مجددًا في أرض تناحر أبناؤها أجيالًا بعد ركود فك عرى اتصالهم قرونًا وسادها الجهل والفقر دهورًا وبفضل هدي تعاليم الإسلام سرت الروح مجدًدا في جسم أمة كانت مطمعًا لكل غاز طموح وهدفًا لكل مغامر طامع، فوقفت على قدميها معتدلة القامة تنفض عن جسمها غبار الذل والفاقة والجهل بكل قوة وإصرار ثم صارت تمشي بخطى واسعة ثابتة في موكب الحضارة الزاحف على دروب الخير نحو ذرى المجد والعظمة لتحتل لها المكان اللائق المناسب الذي اختاره الله تبارك وتعالى للمؤمنين الذين صبروا وصابروا ولم تأخذهم في الحق لومة لائم.

نعم لقد استحال شقاق أبناء هذه الأمة المجيدة إلى وئام وإخاء وسلام وانقلب الظلم والبطش والغدر الذي كانت تمليه عليها عقليات سخيفة، عاشت حول مستنقعات الجهل فقدست الأوثان التي زادتها مرضًا على مرضها انقلب إلى عدل وتسامح وإرشاد وإحسان أزال الضغائن والأحقاد واقتلع جذور التعصب الأعمى المقيت الذي كان يأخذ بمبدأ انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا وجرف بتياره الهادر رواسب ذلك الجهل المطبق واكتسح أوضاره وخرافاته.

إن المجال لا يسعني في هذا المقام أن أذكر وجوه الفرق العديدة التي بانت بعد بزوغ شمس الديانة التي بشر بها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ومن ثم أعد مآثر دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك دونه المجلدات الضخمة، وأنا لست بقادر على إعداد مثل هذا.

لهذا وددت مخلصًا أن أذكر ظاهرة بارزة من مظاهر تعاليم هذا الدين الحنيف -وأنا لست من ذوي الاختصاص - وأنوه عنها باقتضاب لعلي بهذا الجهد البسيط أنبه السادة الكرام ذوي الاختصاص من المسلمين وأثير اهتمامهم لينيروا للكتابة في هذه الناحية التي أصبح أغلب أبناء الأمة الإسلامية يتعرفون على طرف ويطلعون على جزء يسير منها من قراءتهم لكتب ألفها رجال غير مسلمين أشادوا في عظمة روح العدل التي أتصف بها الإسلام.

أقول هذا وكلي أمل في ألا تذهب صرختي الهادئة هذه مع الريح أو تكون كصرخة، في واد وأدعوه تبارك وتعالى مخلصًا أن يقيض لأبناء هذه الأمة المجيدة من يبحث ويدون وينشر ما طوته أيدي خصوم الإسلام اللئام من صحائف نيرة توقظ النيام وتشحذ الهمم التي كادت لجهلها تخور.

الإسلام دين العدل لهذا فقد بات مقررًا اختيار كل من كان، تقيًا ورعًا عالمًا بأمور الدنيا فقيها بعلوم الدين صادقًا نزيهًا عفيفًا وصبورًا وقورًا لا تأخذه في الحق لومة لائم.

فقد روي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب أنه أوصى عامله على مصر مالك الأشتر النخعي في اختيار الصالحين من الناس للقضاء بقوله:

«ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه[1] الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه».

وروي عن الفاروق عمر أنه لقي رجلًا فقال له ماذا صنعت قال قضى علي وزيد بكذا فقال له عمر لو كنت أنا لقضيت بكذا فقال له الرجل وما يمنعك؟

فقال رضي الله تعالى عنه، لو كنت أردك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكن أردك إلى رأي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد.

وروي عن رفيق رسول الله أبي بكر الصديق قوله «لو رأيت رجلًا على حد من حدود الله تعالى لم آخذه حتى يكون معي شاهد غيري ليصدق عليه حكمي».

وذكر عن أحمد بن طولون صاحب مصر أنه كان يبالغ في إکرام القاضي بكار الثقفي لدرجة أنه كان يدفع له مبلغًا يزيد ألف دينار، عما هو مقرر له ولما دعاه إلى خلع الواثق بن المتوكل وهو والد المعتضد امتنع بيكار الثقفي عن تلبية هذا الطلب، فاعتقله ابن طولون ثم طالبه بإعادة جملة المبالغ المدفوعة إليه زيادة، فما كان من القاضي المذكور إلا أن يرد إلى أحمد بن طولون ثمانية عشر كيسًا مملوءًا بالنقود فورًا وبهذا العمل أخجل القاضي بكار ابن طولون الذي كان يظن بعجز القاضي عن إعادة هذه الكمية الكبيرة من النقود.

ما كان منصب القضاء أمنية الرجال المؤمنين ولا وسيلة للتعالي على الناس أو استغلاله للكسب فقد روى لنا التاريخ عن كثير من الفقهاء الذين طلب منهم أن يتولوا هذا المنصب فأبوا وأصروا على امتناعهـم إصرارًا شديدًا أدى إلى غضب السلطان عليهم وإصدار أوامره باعتقالهم وضربهم ضربًا مبرحًا كما حدث للإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت.

تعرضت لهذه الناحية دون أن أكون من ذوي الاختصاص وذكرت نماذج قليلة آملًا أن يتحفنا ذوو الاختصاص الكرام بما يثلج الصدور ويروي ظمأ القلوب ويغذي الروح ويملأ النفس عزة ويمكن بقية المسلمين من معرفة حقائق روح الدين الإسلامي الحنيف والله أسأله التوفيق وهو من وراء القصد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عبد الستار الصابونجي

 

[1] -  أمحكه جعله محكان؛ أي عسر الخلق، أو أغضبه؛ أي لا تحمله مخاصمة الخصوم على اللجاج والاصرار على رأيه. والزلة بالفتح: السقطة في الخطأ.

الرابط المختصر :