; العلماء يطبقون قواعد الإنكار | مجلة المجتمع

العنوان العلماء يطبقون قواعد الإنكار

الكاتب د.عبدالحميد البلالي

تاريخ النشر الثلاثاء 15-أكتوبر-1985

مشاهدات 22

نشر في العدد 737

نشر في الصفحة 38

الثلاثاء 15-أكتوبر-1985

القاعدة الرابعة: ضرورة إظهار الزهد بالرئاسة

 

الكثير من الولاة يظن خطأ هو بنفسه، أو يتم إقناعه من قبل بطانة السوء، أو أعداء الأمة عن طريق الصحافة المضللة أو الكتب المكذوبة، بأن هدف الحركة الإسلامية هو السيطرة على مقاليد الحكم، فيتخذ بسبب هذا الظن الخاطئ إجراءات احتياطية كالتضييق على أفراد الحركة الإسلامية والسجن والاضطهاد والتشريد والاستئصال في بعض الأحيان، حين يبلغ به الظن إلى درجة اليقين، وفي لحظات الغضب الشديد، والتعلق العنيف بالعرش تختلط عليه الأمور بين ادعاءات أعداء الأمة وافتراءاتهم، وتشويههم لمطالب الحركة الإسلامية، وبين مطالب الحركة الإسلامية الحقيقية، والتي هي «الحكم بما أنزل الله» دون الالتفات إلى شخصية الحاكم أو الطريقة التي أتى بها إلى سدة الحكم ما دام يحكم بما أنزل الله ويهيئ المجتمع لذلك، وأنهم ليسوا حريصين على أن يكونوا هم الحكام، وإنما حرصهم الأول أن يعود حق الله المسلوب من البشر، وتعود خاصية الإله التي أسندها الإنسان لنفسه دون وجه حق، فانتشر بسبب ذلك الظلم، وعم أرجاء العالم، واختل النظام، وأصبحت الفوضى هي القانون الذي يحكم البشر بعد أن غاب قانون الله وحكمه.

 

ولا بد للدعاة وللحركة الإسلامية بمجموعها من إعلام الولاة بهذه الحقيقة، فلعل ذلك يكون سببًا لإزالة بعض العوائق عن طريقهم في تبليغ دعوة ربهم.

 

ابن دينار يقوم بهذه المهمة:

 

وليس غريبًا أن يفطن لهذه القاعدة عالم في القرون الأولى، وهو الإمام مالك بن دينار عندما استطاع أن يقنع بسلوكه وكلامه الولاة في عهده بأنه ليس بحريص على ما هم عليه من الملك والرئاسة مما دعاهم أن يستمعوا إليه ويصغوا إلى إنكاره دون ملالة أو غضب، حتى نراه يدخل على أمير البصرة وينكر عليه بعض الأمور بأسلوب ذكي غير مباشر، إذ قال له:

 

«قرأت في بعض الكتب: من أحمق من السلطان، ومن أجهل ممن عصاني، ومن أعز ممن اعتز بي، أيها الراعي السوء، دفعت إليك غنمًا سمانًا صحاحًا، فأكلت اللحم ولبست الصوف، وتركتها عظامًا تقعقع»(٢١٠).

 

عندما انتهى مالك من كلامه أحس الأمير أنه هو المقصود، ولكنه لم يغضب، ولم يمنعه من الكلام، بل بين له سبب عدم غضبه عندما قال له: «أتدري ما الذي يجرؤك علينا، ويجنبنا عنك؟ قال: لا، قال: قلة الطمع إلينا، وترك الإمساك لما في أيدينا»(٢١١).

 

إذن هذا هو كل ما يخافه أصحاب السلطان من المعارضة وخاصة الإسلامية، وهذا ما نجح فيه مالك بإبعاد شبح هذا الهاجس عن ولاة زمانه، فاخترقت كلماته مجالسهم، وردعتهم عن سوء كثير.

 

أما من تبدلت بزينة الدنيا نيته، وأصبح همه طلب الدنيا من السلطان، فلن تؤثر كلماته في نفوس أصحاب النفوذ مهما بلغ علمه؛ ذلك لأنهم يعلمون أنه ما يريد نصيحتهم، إنما يريد ما عندهم، وهذا الأمر يحير الإمام ابن الجوزي لتناقضه فيقول: «والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم -إذ لا تطلبه إلا نفس شريفة- كيف يذل لنذل ما عزه إلا بالدنيا، ولا فخره إلا بالمسكنة»(٢١٢).

 

ابن تيمية وعشاق العروش:

 

عندما غزا التتار الشام عام ٦٦٩هـ وهزموا عساكر الناصر بن قلاوون، فر الكثير من الجند والأعيان والعلماء والأمراء، وساد السلب والنهب، وخرج المحبوسون من السجون، وثبت الإمام ابن تيمية وهو يرى أسراب الفارين دون أن تحدثه نفسه بالهرب؛ لأن قلبه لا يطاوعه على ترك الأمانة، وإن تركها عشاق العروش.

 

وذهب للسلطان وأمرائه يستحثهم على إعداد العدة وجمع الجند، وقال لهم في حدة وغلظة والألم يعتلج في قلبه لشدة ما يرى من تضييع الأمانة والحرص على الحياة: «إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، لو قدر أنكم لستم حكامه ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم سلاطينه وهم رعاياكم، وأنتم مسئولون عنهم. ثم قوي جأش الأمراء، وما زال بهم حتى خرج السلطان بجنده الى الشام»(٢١٣).

 

وفي الفترة التي فر حكام الشام منها، أصبح ابن تيمية رجل دمشق وحاكمها غير المتوج؛ فأنكر المناكر، وأقام الحدود، وطبق النظام هو وأتباعه، وعاد الأمن إلى الشام بسببه، مما أثار جماعة من حساده «فأرادوا أن يكيدوا له من هذه الناحية، فقد جاء إلى نائب السلطنة كتاب فيه: أن ابن تيمية ومعه غيره من العلماء والأفراد والخواص يناصحون التتار ويكاتبونهم، ويؤيدون من يمالئهم»(٢١٤).

 

ونفس البلاء والفتنة يعود بثوب جديد لرواد الحركة الإسلامية في العصر الحديث، فيتهموا باتصالهم بالإنجليز ومحاولة قلب النظام، وهي التهمة التي لم تمل الأنظمة الطاغوتية ترديدها كلما أرادت أن تضرب فئة من الحركة الإسلامية. «فأحضره السلطان الناصر لدين الله بين يديه وقال له: إنني أخبرت أنك أطاعك الناس، وإن في نفسك أخذ الملك»(۲١٥) فعندما انتهى السلطان من قراءة نص الاتهام الموجه من عشاق العروش لم يكترث به، بل أراد أن يحفر في نفس كل متعلق بالعرش حروفًا من التعالي على المتاع الدنيوي الزائل، وأراد أن يفهمهم بأن الدعاة أعلى من أن يحرصوا على شيء يزهدون الناس فيه، فصاح بصوت عال سمعه كثير ممن حضر المجلس، وكأنه يستشعر بأن أذن السلطان تمثل آذان كل عشاق العروش الذين يزهقون الأنفس الطاهرة الزكية في سبيل عروشهم ألا تهتز قائلًا: «أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسًا، فتبسم السلطان لذلك وأجابه في مقابلته بما أوقع الله في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك لكاذب»(٢١٦).

 

بهلول والرشيد:

 

«قال بهلول للرشيد: من رزقه الله مالًا وجمالًا فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الأبرار. فظن أنه يريد شيئًا فقال: إنا أمرنا بقضاء دينك. فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يقضى دين بدین، أردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك. قال: إنا أمرنا أن يجرى عليك رزق تقتات به. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني، وها أنا قد عشت عمرًا لم تجر علي رزقًا، انصرف لا حاجة لي في جرايتك. قال: هذه ألف دينار خذها. فقال: أرددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها؟! انصرف عني فقد آذيتني. فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا»(٢١٧).

 

القاعدة الخامسة- ترك النصيحة في الملأ:

 

وهو أصل عظيم، وقاعدة جليلة في الإنكار على أصحاب النفوذ، وقد مر معنا في حديثنا في بعض قواعد الإنكار كلام العلماء في ذلك وكراهيتهم لهذا الأمر، وإذا كانت النصيحة أو الإنكار في الملأ من الأمور المكروهة عند عامة الناس، فهي أشد كراهة في حق أصحاب النفوذ، وهي أكثر شدة عليهم من عداهم، حتى جعلت الرشيد والذي يعتبر من خيرة خلفاء بني العباس يذكر للأصمعي بعض مبادئ النصح لأصحاب السلطان كان أولها عدم النصح في الملأ؛ إذ يقول:

 

«يا عبد الملك، أنت أعلم منا ونحن أعقل منك، فلا تعلمنا في ملأ، ولا تسرع إلى تذكيرنا في خلا، واتركنا حتى نبتدئك بالسؤال، فإذا بلغت من الجواب قدر الاستحقاق فلا تزد؛ إلا أن نستدعي ذلك منك. وانظر إلى ما هو ألطف في التأديب، وأنصف في التعليم، وأبلغ بأوجز لفظ غاية التقويم»(۲۱۸).

 

القاعدة السادسة- عدم إظهار الأستاذية:

 

يقول الماوردي: «وليخرج تعليمه مخرج المذاكرة والمحاضرة، لا مخرج التعليم والإفادة؛ لأن لتأخير التعلم خجلة تقصير، يجل السلطان عنها، فإن ظهر منه خطأ أو زلل في قول أو عمل، لم يجاهر بالرد، وعرض باستدراك زللـه، وإصلاح خلله، وحكي أن عبد الملك بن مروان قال للشعبي: كم عطاءك؟ قال: ألفين. قال: لحنت. قال: لما ترك أمير المؤمنين الإعراب كرهت أن أعرب كلامي عليه»(۲۱۹). انظر إلى أدبه مع أمير المؤمنين، وفقهه بالإنكار.

 

كيف أنه لم يبد له أنه أخطأ بالنحو، بل التمس له العذر، وجعله في موضع التارك للإعراب مع معرفته له فقال: «لما ترك أمير المؤمنين الإعراب» مراعاة منه لما يراود النفس من الغضب إذا تبوأت مثل هذا المنصب.

 

القاعدة السابعة- ترك التخشين في الموعظة:

 

ونلتقي مرة ثانية مع الرشيد الذي علم الأصمعي مبادئ الإنكار على السلطان، يتصدى له ناسك لا يعرف شيئًا من هذه المبادئ وأغراه حب الرشيد للعلماء واستماعه لمواعظهم فأغلظ له بالموعظة بينما كان في صيده، فقال له الرشيد: «يا هذا أنصفني في المخاطبة والمسألة». قال الناسك: ذلك أقل ما يجب لك. قال: أخبرني، أأنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون. قال: فأخبرني أأنت خير أم موسى بن عمران؟ قال: بل موسى صفي الله وكليمه. قال الرشيد: أفما علمت أنه لما بعثه الله وأخاه هارون إلى فرعون قال لهما: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾(طه: 44). قال: نعم. قال: هذا فرعون في عتوه وجبروته، أنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم أؤدي فرائض الله علي، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده، وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًّا.

 

قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك.

 

قال: قد غفر لك الله، وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها»(۲۲۰).

 

وقد يكون الداعية متمنيًا أن يموت خير ميتة، وأن يحوز على أعظم الجهاد بكلمة حق يقولها في وجه سلطان جائر، فيها من الغلظة والخشونة ما يناسب مناكر ذلك السلطان الجائر، ولكن لا بد أن يزن الوضع الذي هو فيه، فإن كان الضرر الذي يعقب هذه الكلمة الخشنة منحصرًا فيه هو فلا بأس بقولها إذا كان هذا هو الأسلوب الرادع لمثل هؤلاء الطواغيت، أما إذا علم أن الضرر سيتعداه لباقي أفراد الحركة الإسلامية فلا يجوز، ويبين هذا الأمر الإمام ابن الجوزي إذ يقول: «الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء»(۲۲۱).

 

القاعدة الثامنة- اختصار الموعظة:

 

نقل ابن مفلح عن كتابه «الآداب الشرعية» قول علي بن سليمان: «إنه يستحسن مع الرؤساء الإيجاز والاختصار؛ لأن الإكثار يضجرهم حتى ربما يصيرهم إلى استقباح الحسن مما يكاتبون به والرد عما يسألون»(٢٢٢) ذلك لأن كثرة انشغالهم بأمور الرعية، وما يتهددهم من مخاطر داخلية وخارجية ومتابعتهم للمسئولين على مرافق البلد لا يجعل لهم متسعًا من الوقت للإصغاء للمواعظ المطولة والتي يغلب عليها الطابع الإنشائي أكثر من أي شيء آخر.

 

نماذج من المواعظ المختصرة:

 

١- «قال معاوية رضي الله عنه لابن الكواء: ترى الزمان؟ قال: أنت الزمان؛ إن تصلح يصلح»(۲٢٣).

 

٢- وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري: عظني وأوجز. فكتب إليه: «أما بعد؛ فإن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك: الزهد في الدنيا، وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار، فإذا أنت فكرت في الدنيا، لم تجدها أهلًا أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلًا أن تكرمها بهوان الدنيا، فإنما الدنيا دار بلاء، ومنزل غفلة» (٢٢٤).

 

٣- وعن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: عظني. قلت: «اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة، فخذ فيه الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن»(٢٢٥).

 

٤- ووعظ شبيب بن شيبة المنصور فقال: «إن الله عز وجل لم يجعل فوقك أحدًا، فلا تجعل فوق شكرك شكرًا»(٢٢٦).

 

٥- وعظ ابن السماك أمير المؤمنين هارون الرشيد، فقال: «يا أمير المؤمنين، إن لك بين يدي الله مقامًا، وإن لك من مقامك منصرفًا، فانظر إلى أين منصرفك: إلى الجنة أم إلى النار؟ فبكى هارون حتى كاد أن يموت»(٢٢٧).

 

٦- وجاء في ترجمة عبد الله بن عبد العزيز العمري الزاهد قوله لأمير المؤمنين هارون الرشيد وهو واقف على الصفا: «أتنظر كم حولها -يعني الكعبة- من الناس؟ فقال: كثير، فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم. فبكى الرشيد بكاء كثيرًا، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه»(٢٢٨).

 

٧- وعظ الإمام ابن الجوزي الخليفة المستضيء بأمر الله، فقال له: «لو أني مثلت بين يدي السدة الشريفة لقلت: يا أمير المؤمنين، كن لله سبحانه مع حاجتك إليه، كما كان لك مع غناه عنك، إنه لم يجعل أحدًا فوقك، فلا ترض أن يكون أحد أشكر له منك»(٢٢٩).

 

انتهى

 

الهوامش:

 

(٢١٠) تنبيه الغافلين للنحاس ص٤٩- ط الرياض.

 

(۲۱۱) تنبيه الغافلين: ص٤٩.

 

(٢١٢) الآداب الشرعية ١/ ٢٤٦.

 

(۲۱۳) البداية والنهاية ١٤/ ١٥.

 

(٢١٤، ٢١٥، ٢١٦) الكواكب الدراري.

 

(۲۱۷) البداية والنهاية ١٠/ ٢٠٠.

 

(۲۱۸) أدب الدنيا والدين: ۹۱.

 

(۲۱۹) أدب الدنيا والدين: ۹۱.

 

(۲۲۰) تاريخ الطبري، ج ٨، ص.

 

(۲۲۱) الآداب الشرعية ١/ ١٩٧.

 

(۲۲۲) الآداب الشرعية ١/ ٣٩٣.

 

(223) المصباح المضيء ٢/ ٤٢.

 

(٢٢٤) المصباح المضيء ٢/ ٦٧.

 

(٢٢٥) المصباح المضيء ٢/ ٨١.

 

(٢٢٦) الآداب الشرعية ١/ ١٩٨.

 

(۲۲۷) المصباح المضيء ٢/ ١٧٣.

 

(۲۲۸) البداية والنهاية ١٠/ ١٨٥.

 

(۲۲۹* الآداب الشرعية ١/ ١٩٧.

الرابط المختصر :