; العمالة والأصالة | مجلة المجتمع

العنوان العمالة والأصالة

الكاتب نصر الدين العديلي

تاريخ النشر الثلاثاء 16-فبراير-1971

مشاهدات 45

نشر في العدد 47

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 16-فبراير-1971

ستأتي على أمتي فتن كقطع الليل المظلم، قلنا: وما المخرج منها يا رسول الله؟
 قال: كتاب الله وسنتي.
حديث شريف

«وحينئذٍ تحترق حروف الأنشودة ويهلك المنشدون».

العلاج يبدأ بكشف المسؤولين عن إثارة البلبلة والشكوك في صفوف أمتنا ودراسة الأوضاع النفسية والاجتماعية التي ساعدت على نمو هذا النبت الفاسد.

 

 

لقد كثرت الاتهامات بالعمالة في عالمنا العربي حتى بات الفرد منا يشك في نفسه بل في غيره فلا يكاد يمر يوم أو ينقضي شهر حتى يضاف إلى قائمة العملاء أسماء جديدة، ويرفع أناس إلى الثريا وآخرون ينزل بهم إلى الحضيض، في كل صباح ومساء تعزف الأنشودة «تحيا الثورة، يحيا رواد الحرية والتقدمية، ها هم أبطال الوطنية، يسقط عملاء الاستعمار والإمبريالية، الموت والخزي والعار للرجعية»، ويزداد التشنج وترتفع أصوات المنشدين، إذا ما اعتلى المنصة هاد من ذلك الصنف الذي يتقن توجيه القذائف الكلامية، للخصوم الذين هوى بهم حظهم العاثر أو هوت بهم خيانتهم، فأصبحوا خبرًا بعد عين، وقد كانوا بالأمس حداة القافلة وأمل الجماهير الفلاحية والطبقة البرولتارية وهكذا دواليك «كلما جاءت أمة لعنت أختها» وعززت دينها، متخذة مصلحة الجماهير وقضايا العرب المصيرية وترًا تعزف عليه للمنشدين ومصعدًا ترتقي من على سدته ظهور السكارى بالوعود الخلابة والحيارى لعدم تحقق هذه الوعود! كل أسلم ظهره للركوب، هؤلاء تحت تأثير النشوة بالأمل الخادع وهؤلاء بحكم العادة فقد كانوا سكارى قبل أن يصبحوا حيارى يلفهم الضياع أذلة لا يقاومون لأنهم لا يجدون من يأخذ بأيديهم فينقذهم من ظلام التيه إلى صعيد النور واليقين، وإن وجد هذا المنقذ فهو متهم بالعمالة أيضًا!

 لقد ضاعت الحقيقة وسط هذا الضجيج والصخب، وانعدم الثبات وضعفت الثقة بين صفوف الأمة، وسادت البلبلة حتى بين أفراد الصف الواحد، وبات الإنسان العربي لا يثق بأخيه، وكيف يثق والكل متهم بالعمالة؟؟ فالزعماء كما تحكي لنا الأنشودة عملاء! والأحزاب عميلة! والحكام عملاء: وأنت عميل! وأنا عميل! ورافع الشعار عميل! والمنادي بتحكيم شريعة الله عميل!! والمنشدون لا يقفون عند حد، بل يصنفون، هذا الحزب عميل لبريطانيا وذاك لأمريكا والحزب الفلاني عميل لهاتين الدولتين معًا وهذا الحاكم يستند بحكمه إلى حراب المخابرات المركزية ويتلقى الوحي من واشنطن، وأولئك يتلقونه من لندن. والشعارات الماركسية ترفع للتمويه، وأحفاد هذا في موسكو يتفقون مع الأمريكان ضد أنجاله في الصين، ولاقتسام النفوذ في العالم وطرد بريطانيا من الشرق الأوسط،
هذه أنشودة الأحزاب ومعزوفة معظم الزعماء! آراء فيها صحيحة وأخرى أغرب من الخيال! ومطلوب منا نحن العرب أن نصدق كل ما يُقال ونكذبه في آن واحد، وهذا أيضًا أغرب من الخيــال ومستحيل.

 

المخرج من الفتنة

وكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنى عصرنا هذا حينما قال: «ستأتي على أمتي فتن كقطع الليل المظلم. قلنا: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله وسنتي». أجل كأنه عنى عصرنا هذا المنحوس، فأي فتنة أشد وأي مصيبة أعظم من أن تتحول أمة بأسرها إلى عملاء حكامها وزعماؤها أحزابها وجماهيرها أغنياؤها وفقراؤها؟ وهذا لعمر الحق وضع شاذ لم تبتلِ به أمة من قبل!
إننا نقرأ في التاريخ عن خيانات بعض الأفراد والجماعات لأممهم لكننا لم نسمع أبدًا بأن أمة تحولت بأسرها إلى خونة وعمـلاء إلا في عصرنا هذا، الذي يصر المنشدون فيه من الأحزاب والزعماء على خيانة أمتنا وعمالتها بجميع فئاتها.
إن وضعنا الكئيب هذا يدعو للأسف والحزن والرثاء لنفسياتنا المريضة وعقلياتنا المبلبلة، ويفرض على عقلاء هذه الأمة أن يبحثوا لها عن علاج شافٍ ليخرجوها به من هذه التناقضات الغريبة العجيبة التي إن دامت، فمعناها القضاء المبرم علينا وتمكين الأعداء من رقابنا ليسوموننا سوء العذاب، وحينئذٍ لا يبقى زعماء، ولا أحزاب ولا أمة ولا أوطان ولا شعارات.

 

العمالة والأصالة

وأظنكم توافقونني بأن أولى خطوات العلاج تبدأ بكشف المسؤولين عن إثارة البلبلة والشكوك بين صفوف أمتنا وتعريتهم كي يحذرهم الناس، ودراسة الأوضاع النفسية والاجتماعية التي ساعدت على نمو هذا النبت الفاسد، ومن ثم وضع حد فاصل بين العمالة والأصالة كي لا يتوه الناس في لجة الخلاف فيفرطوا في توجيه التهم على غير هدى ولا بصيرة منطلقين في ذلك كله من منهج أصيل يمنحنا تصورات ثابتة وأحكام صادقة للأوضاع التي نحياها وعلامات واضحة للطريق الذي يجب علينا أن نسلكه لننعم بالطمأنينة والثبات في مسيرتنا الإصلاحية.
واسمحوا لي أن أؤكد لكم بأن جهلنا بحقيقة دورنا نحو أنفسنا والإنسانية جمعاء والتنكر لحضارتنا وتراثنا هو السبب الرئيسي لما نعانيه. فالجهل في نظري كالأرض الوعرة لا تنبت إلا الأشواك ولا تحوي مسالكها ونجوعها إلا الصخور المدببة والكهوف المظلمة مما يجعلها مثابة للهوام والوحوش الكاسرة. وهكذا كان جهلنا الكهف المظلم الذي آوى إليه الوحش الاستعماري الشرس حينًا، حتى إذا بدأت خيوط من النور تتسلل لهذا الكهف أو أمسكت السواعد القوية المعاول وأخذت تهدمه، انطلق الوحش وولى هاربًا، خرج الاستعمار بجيوشه وأسلحته. وحاول أصحاب السواعد القوية مواصلة تدمير الكيف وتنقية عقولنا مما علق بها من الأفكار الدنسة، ولكن لم تسر الأمور في صالح أمتنا، حينما خرج من الكهف أناس يرتدون حللًا زاهية يتقدمهم ضرب على الطبول وعزف على المزامير وأناشيد «انتصرنا، تحررنا» وخدعت الجماهير وسارت خلف مروجي الشعارات وتركوا أصحاب السواعد القوية أو غفلوا عنهم!! ويا ليت الأمر انتهى عند هـذا الحد، فتمت الكارثة حينما انقض المزركشون على أصحاب هذه السواعد يمزقون لحمهم بالسياط ويشونه بالنار ويعلقونهم على أعواد المشانق لأنهم حسب زعم أصحاب الشعارات مجرمون يريدون الرجوع بهذه الأمة إلى الوراء إلى عصر الخلفاء الراشدين! وعملاء للإمبريالية والاستعمار يا للهول ويا للتفاهة والإسفاف! وارتفعت أصوات الطبول وضاعت الحقيقة وسط الضجيج.
«ستأتي على أمتي فتن كقطع الليل المظلم، قلنا وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله وسنتي»، أجل كتاب الله وسنة رسوله كفيلان بهتك حجب الظلام وتمزيق غلالات الباطل والخداع التي يستتر بها تلامذة الاستعمار ومروجو أفكاره المسمومة وأخلاقه المنحلة. كتاب الله وسنة رسوله كفيلان بإشاعة السلام والثقة بين أفراد هذه الأمة وغيرها من الأمم وإنارة الدرب لها جميعًا، كتاب إله وسنة رسوله المنطلق الوحيد الصادق الذي يُمكننا على ضوء معطياته أن نصلح ما أفسد الناس من أمور دينهم ودنياهم، فترجع لنا شخصيتنا الفريدة وأستاذيتنا الخالدة للبشرية ونكون كما أراد الله لنا أن نكون.

 ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ َۗ ، وحينئذٍ تحترق حروف الأنشودة ويهلك المنشدون، لأنه لن يكون في عالمنا العربي جهلة ولا مغفلون، فالكل يرجع إلى ميزان الله يزن به أقوال وأفعال الأفراد والهيئات ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ.

﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
صدق الله العظيم.
 

نصر الدين العديلي

الرابط المختصر :