; الــدًين.. وحياة المجتمع | مجلة المجتمع

العنوان الــدًين.. وحياة المجتمع

الكاتب أحمد عثمان مكي

تاريخ النشر الثلاثاء 14-سبتمبر-1971

مشاهدات 19

نشر في العدد 77

نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 14-سبتمبر-1971

 

الــدًين.. وحياة المجتمع

«ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» 

                                                       «حدیث شریف»

من الشائع عن تصورات الناس الخاطئة عن الدين هو: عدم وضوح مهمته ودوره في الحياة الخاصة والعامة، وتبعًا لذلك اختلط تصورهم للدين والتدين بتصورات دخيلة على العقيدة الإسلامية وأصولها، وبعيدة عن أهدافها ومبادئها.. وواحد من هذه التصورات الدخيلة التي شكلت تبعًا يستقى منه منحرفو التصور آراءهم وأفكارهم، هو تصور الغربيين المسيحيين بمختلف مذاهبهم و «أديانهم» من أرثوذکس وبروتستانت وكاثوليك لدياناتهم.. إذ إن مدلول العقيدة الدينية عندهم يعني أنها تنظم فقط الصلة بين العبد وربه «سواء أكان الرب الأب أو الرب الابن!» وأنها ذات حدود بعينها ليس لها أن تتحداها أو تتعداها!!! وقد نشأت هذه الحدود من أحداث تاريخية ذات علاقة «بدينهم»؛ فمثلًا نجد أن هذه الديانة قد نشأت وترعرعت تحت ظل الإمبراطورية الرومانية التي بلغت شأوا بعيدًا في إبداعها المادي والثقافي، الذي كانت أبرز سماته نشوء القوانين التي لا تزال أصلًا، ومصدرًا من مصادر التشريع الأوروبية الحديثة.. فآنذاك لم تكن الكنيسة بعقيدتها الدينية تستطيع فرض قوانين وتشريعات على المجتمع الروماني القوى القائم.. لذا ما كان لها الا إلانصراف إلى تنظیم علاقات الإنسان بالرب من سمو روحي وتهذیب أخلاقي، وتطهير النفوس من الأرواح والشرور! دون المساس بواقع المجتمع السياسي والاجتماعي، أو غاضة الطرف عن ذلك.. ومن يومها نشأ مبدأ «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر!» 

الزحف الاستعماري

ولما بدأ الزحف الاستعماري الغربي على الشرق الإسلامي، لم يحمل معه أفكاره السياسية وآراءه الاجتماعية ونظمه الاقتصادية فقط؛ وإنما نشر وبأوسع نطاق استطاعة تصوراته الصليبية الخاطئة المنحرفة عن مفهوم التدين والدين، علمًا منهم بأن الذي يزلزل سيطرتهم على الشرق ويزعزع وجودهم ويهدده فيه، ليس قوة الشرقيين المادية ولا تنظيماتهم العسكرية؛ وإنما الفهم السليم لدينهم الإسلامي، والإدراك الواعي لمتطلباته وأهدافه في الحياة، ودوره في واقع الناس.. ولیس ثمة دليل أوضح لذلك من قولة "اللورد جلادستون" الشهيرة في مجلس العموم البريطاني، وما تطفح به مقالات المستشرقين وكتاباتهم كولفرید کانتویل سمث.. وجولد تسيهر.. وبوزورث سمث، ممن لم يجمع بينهم إلا العقل الواعي الذي يدرك مكامن الخطورة.. والقلب الجاحد الذي يقف مجردًا من كل حجة ودليل، وهو يرفض استقبال الهداية والإيمان الحق.. وقد نجح المد الاستعماري في زعزعة عقائد المسلمين، ومسخ تصوراتهم السليمة؛ فانحرف مفهوم الدين عندهم، واضطربت مبادؤه في أذهانهم؛ حتى انحصرت كما حدث للمسيحية في حدود بعينها.. ليس له أن يتعداها!! وبلغ الانحراف درجة حتى لو أن أحدًا قام يبين خطأ ذلك تصدى له القوم، يستنكرون تدخل الدين في السياسة، وجندت له الأقلام تهاجم «استغلال» الدين وإقحامه في النظم الاقتصادية والاجتماعية الموروثة!

نظام شامل

ويجدر بنا ونحن بصدد الحديث عن الإسلام خاصة، أن نقر أولًا أنه ليس أفكارًا مبعثرة، كما أنه ليس مجرد مجموعة من العقيدة الكلامية، أو جملة من المناسك والشعائر كما يفهم الكثيرون من الناس من معنى الدين اليوم، يؤيدهم في ذلك واقعهم الذي يعيشونه، والذي كان للاستعمار الغربي الضلع الأكبر في بلورته وصياغته وترسيخه في مجتمعهم... بل هو ـأي الاسلام- نظام جامع شامل منزل من لدن حكيم خبير

﴿الر ۚ كِتابٌ أُحْكِمتْ آياتُهُ ثُمّ فُصِّلتْ مِن لّدُنْ حكِيمٍ خبِيرٍ (سورة هود:1)

وأن هذه الرسالة رحمة منه للناس أجمعين

﴿حم. والْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنّا أنزلْناهُ فِي ليْلةٍ مُّباركةٍ ۚ إِنّا كُنّا مُنذِرِين. فِيها يُفْرقُ كُلُّ أمْرٍ حكِيمٍ. أمْرًا مِّنْ عِندِنا ۚ إِنّا كُنّا مُرْسِلِين. رحْمةً مِّن رّبِّك ۚ إِنّهُ هُو السّمِيعُ الْعلِيمُ﴾. 

فالإسلام في جملته عقيدة دافعة مستقلية... أساسها الشهادة والإيمان بأنه «لا إله إلا الله» وذلك يعني أن القلوب والنفوس يجب أن تتجه لهذا الإله الواحد بالعبادة والطاعة والدينونة والاستسلام.. فلذلك خلقت

﴿وما خلقْتُ الْجِنّ والْإِنس إِلّا لِيعْبُدُونِ﴾ ثم بعد استقرار هذه الحقيقة في النفوس، وإيقان القلوب بها يكون دفعها إلى الحركة قويًا، لتحقق مدلولها العملي في واقع الحياة، وإلا لحدث التناقض ووقع الاختلاف بين الواقع والاعتقاد.. وتكون دعوی الإيمان تمنيًا وتحليًا؛ كما يقول الرسول «ص» «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل»

ولما كان الإسلام يرتكز على هذه القاعدة العقدية في بدئه، فقد جاءت تعاليمه ونظمه وأحكامه بتنظيم شمولي أبان ودقق في تفاصيل، هي أساس إنشاء المجتمع المسلم وإقامته من تنظيم اجتماعی يبین علاقات الأفراد ويحمي حقوقهم.. وتخطيط اقتصادي ينظم حياة الأفراد المالية، ويوضح التزام كل فرد نحو مجتمعه.. وقواعد سياسية تكيف الوضع الدستوري وتبين علاقة الحاكم بالمحكوم... وأهداف أخلاقية تلزم المجتمع بسلوك رباني يحفظ للمجتمع كيانه كما يحفظ للفرد مكانه... ويفصل للتربية طريقها وأسلوبها لبناء الجيل المسلم السليم، وإعداد الجندي الصالح القويم.. كل ذلك جاء به القرآن..

رسالة القرآن

لقد جاء القرآن عندما تنزل لينشئ أمة بأسرها.. وليعالج بناء شخصيتها.. ويصقل عقلها ويقوم تفكيرها.. كما جاء ليعالج بناء مجتمعها، وفق تصوراعتقادي سليم لطبيعة الوجود الكوني، وارتباط ذلك كله بإله واحد لا إله إلا هو.. وهو إله رب كل شيء ومالكه

﴿سبّح لِلّهِ ما فِي السّماواتِ والْأرْضِ ۖ وهُو الْعزِيزُ الْحكِيمُ.  لهُ مُلْكُ السّماواتِ والْأرْضِ ۖ يُحْيِي ويُمِيتُ ۖ وهُو علىٰ كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ. هُو الْأوّلُ والْآخِرُ والظّاهِرُ والْباطِنُ ۖ وهُو بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ. هُو الّذِي خلق السّماواتِ والْأرْض فِي سِتّةِ أيّامٍ ثُمّ اسْتوىٰ على الْعرْشِ ۚ يعْلمُ ما يلِجُ فِي الْأرْضِ وما يخْرُجُ مِنْها وما ينزِلُ مِن السّماءِ وما يعْرُجُ فِيها ۖ وهُو معكُمْ أيْن ما كُنتُمْ ۚ واللّهُ بِما تعْملُون بصِيرٌ﴾

 

ويتحدث القرآن مبينًا هذا الدورالعظيم:

﴿هُو الّذِي يُنزِّلُ علىٰ عبْدِهِ آياتٍ بيِّناتٍ لِّيُخْرِجكُم مِّن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ ۚ وإِنّ اللّه بِكُمْ لرءُوفٌ رّحِيمٌ﴾ (سورة الحديد: 9)

 

تلك كانت وظيفة القرآن ورسالة الإسلام كما فهمت يوم كان النبع صافيًا، وكان المصدر واحدًا..

وقبل التدخل الصليبي وتدسسه الناعم في أركان عقيده المسلمين وأصولها.. وقبل استجابة «المسلمين» للتصورات الدخيلة العارضة وتهافتهم على التقليد الأعمى وتقلبهم مع تقلبات الزمان واضطراباته؛ حتى غشت فطرتهم غواش من الدخان وفقدت قلوبهم التي في الصدور القدرة على التمييز... فانحرفت عن الخط الثابت المستقيم.. العاصم من الأهواء.. وانزاحت مع الدعاوي التي لا ترتكن إلى منطق، ولا إلى عقل سليم.. إنه الهوى... إنه الهوى...

﴿بلِ اتّبع الّذِين ظلمُوا أهْواءهُم بِغيْرِ عِلْمٍ ۖ فمن يهْدِي منْ أضلّ اللّهُ ۖ وما لهُم مِّن نّاصِرِين﴾

      

                                                                   أحمد عثمان مكي

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

قضية الحرب والسلام!

نشر في العدد 11

31

الثلاثاء 26-مايو-1970

أنا شعب مسلم

نشر في العدد 17

21

الثلاثاء 07-يوليو-1970