; الفاتيكان.. والإسلام «4» - العقلانية الإسلامية | مجلة المجتمع

العنوان الفاتيكان.. والإسلام «4» - العقلانية الإسلامية

الكاتب د. محمد عمارة

تاريخ النشر السبت 07-أبريل-2007

مشاهدات 12

نشر في العدد 1746

نشر في الصفحة 38

السبت 07-أبريل-2007

  • ألم يقرأ بابا الفاتيكان شيئًا مما كتبه فلاسفة المسلمين أمثال الأفغاني ومحمد عبده عن تفرد الإسلام بالعقلانية؟!

  • الإمام محمد عبده: القرآن يدعو الناس إلى النظر فيه بعقولهم.. فالإسلام لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي

إن الدين الإسلامي يكاد يكون متفردًا بين الأديان  بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون، وتبكيت الخالطين في عشواء العماية، والقدح في سيرتهم.

 هذا الدين يطالب المتدينين بأن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة.. وقلما يوجد من الأديان ما يساويه أو يقاربه في هذه المزية. وأظن غير المسلمين يعترفون لهذا الدين بهذه الخاصة الجليلة.

إن العقل مشرق الإيمان، فمن تحول عنه فقد دابر الإيمان.

وإن فرقًا بين ما لا يصل العقل إلى كنهه، فيعرفه بأثره، وبين ما يحكم العقل باستحالته، فالأول معروف عند العقل، يقر بوجوده، ويقف دون سرادقات عزته، أما الثاني فمطروح من نظره، ساقط من اعتباره، لا يتعلق به عقد من عقوده، فكيف يصدق به وهو قاطع بعدمه؟!

 لقد بدأ الإنسان بداية لا تميزه عن غيره من الحيوانات!... لكن نقطة الافتراق كانت قوته العاقلة.. والله قد جعل قوة العقل للإنسان محور صلاحه وفلاحه.. والحكمة، والتها العقل هي مقننة القوانين، وموضحة السبل وواضعة جميع النظامات، ومعينة جميع الحدود، وشارحة حدود الفضائل والرذائل، وبالجملة، فهي قوام الكمالات العقلية والخلقية.. فهي أشرف الصناعات.

إن الإنسان من أكبر أسرار هذا الكون، ولسوف يستجلي بعقله ما غمض وخفي من أسرار الطبيعة، وسوف يصل بالعلم وإطلاق سراح العقل إلى تصديق تصوراته، فيرى ما كان من التصورات مستحيلًا قد صار ممكنًا، وما صوره جموده بأنه خيال قد أصبح حقيقة «1».

إن أول ركن بني عليه الدين الإسلامي: صقل العقول بصقال التوحيد، وتطهيرها من لوث الأوهام وسعادة الأمم لا تتم إلا بصفاء العقول من كدرات الخرافات وصدأ الأوهام، فإن عقيدة وهمية لو تدنس بها العقل لقامت حجابًا كثيفًا يحول بينه وبين حقيقة الواقع ويمنعه من كشف نفس الأمر، بل إن خرافة قد تقف بالعقل عن الحركة الفكرية، وتدعوه بعد ذلك أن يحمل المثل على مثله، فيسهل عليه قبول كل وهم، وتصديق كل ظن، وهذا مما يوجب بعده عن الكمال، ويضرب له دون الحقائق ستارًا لا يخرق، وفوق ذلك ما تجلبه الأوهام على النفوس من الوحشة وقرب الدهشة والخوف مما لا يخيف، والفزع مما لا يفزع.

إذا كان عظيم الفاتيكان- وأستاذ الفلسفة- قد جهل التراث الفلسفي الإسلامي القديم.. فكيف جهل تراث الإسلام الفلسفي الحديث- في العقلانية الإسلامية- والذي قال فيه جمال الدين الأفغاني «١٢٥٤- ١٣١٤هـ - ۱۸۳۸- ۱۸۹۷م».

إن دين الإسلام قد فتح أبواب الشرف في وجوه الأنفس.. وقرر المزايا على قاعدة الكمال العقلي والنفسي لا غير، فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة.. وعقائد الأمة، وهي أول رقم ينقش في ألواح نفوسها، يجب أن تكون مبنية على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة، وأن تتحامى مطالعة الظنون في عقائدها، وتترفع عن الاكتفاء بتقليد الآباء فيها، فإن معتقدًا لاحت العقيدة في مخيلته بلا دليل ولا حجة قد لا يكون موقنًا، فلا يكون مؤمنًا.. وأولئك المتبعون للظن القانعون بالتقليد تقف بهم عقولهم عند ما تعودت إدراكه، فلا يذهبون مذاهب الفكر، ولا يسلكون طرائق النظر، وإذا استمر بهم ذلك تغشتهم الغباوة بالتدريج، ثم تكاتفت عليهم البلادة حتى تعطل عقولهم عن أداء وظائفها العقلية بالمرة، فيدركها العجز عن تمييز الخير من الشر، فيحيط بهم الشقاء، ويتعثر بهم البخت، وبئس المآل مآلهم.

هذا هو الإسلام.. «2».

 • ألم يقرأ عظيم الفاتيكان- وأستاذ الفلسفة- شيئًا من هذا الذي كتبه فيلسوف الشرق جمال الدين الأفغاني.. عن تفرد الإسلام- دون غيره من الأديان.. بالعقلانية.. وشهادة خصومه له بهذا التفرد؟!

وهل يجوز لمثله- ممن يتصدى للحديث عن موقف الإيمان الإسلامي من العقل والعقلانية أن يجهل هذه «المقالات» الشهيرة- حتى في اللغات الغربية- عن العقلانية الإسلامية؟!

ثم.. ألم يسمع بابا الفاتيكان عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده «١٣٦٦ - ١٣٢٣هـ-١٨٤٨ - ١٩٠٥م». وهو الذي وضعت حول فكره وإبداعاته العديد من الرسائل الجامعية التي كتبها لاهوتيون غربيون.. والذي راسل وحاور العديد من فلاسفة الغرب ومفكريه.. من «تولستوي» «١٨٢٨- ١٩٤٠م» إلى سبنسر «۱۸۲۰- ۱۹۰۳م» إلى هانوتو «١٨٥٣- ١٩٤٤م».. وغيرهم.. وهو الذي صاغ في العقلانية الإسلامية المتفردة مقالًا نفيسًا، قارن فيه بين عقلانية الإسلام ولا عقلانية عقيدة بابا الفاتيكان!!

 ألم يسمع البابا بنديكتوس السادس عشر بما كتبه محمد عبده عن:

«أن الإنسان: كون عقلي، سلطان وجوده العقل، فإن صلح السلطان، ونفذ حكمه، صلح ذلك الكون وتم أمره.. والعقل من أجل القوى، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون صحيفته التي ينظر فيها، وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل للوصول إليه.

والعقل هو جوهر إنسانية الإنسان وهو أفضل القوى الإنسانية على الحقيقة..

ولقد تآخى العقل والدين «في الإسلام» لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل،  بتصريح لا يقبل التأويل، وتقرر بين المسلمين كافة- إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه-: أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحي إليهم، وإرادته لاختصاصهم برسالته، وما يتبع ذلك مما يتوقف عليه فهم معنى الرسالة كالتصديق بالرسالة نفسها..

كما أجمعوا على أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو على الفهم، فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل.. وأول أساس وضع عليه الإسلام: هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟

بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه، ومات طالبًا غير واقف عند الظن، فهو ناج، فأي سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟

ولقد اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه والطريق الثانية تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.

وإنه لا يقين مع التحرج من الظن وإنما يكون اليقين بإطلاق النظر في الأكوان، طولها وعرضها، حتى يصل إلى الغاية التي يطلبها بدون تقييد.

فالله يخاطب، في كتابه الفكر والعقل والعلم بدون قيد ولا حد والوقوف عند حد فهم العبارة مضر بنا، ومناف لما كتبه أسلافنا من جواهر المعقولات.. والقرآن قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، فهو معجزة عرضت على العقل، وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها، ونشر ما انطوى في أثنائها..

فالإسلام لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري، فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس السائل بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرية بصيحة إلهية..

والمرء لا يكون مؤمنًا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن ربي على التسليم بغير عقل، والعمل، ولو صالحًا، بغير فقه فهو غير مؤمن، لأنه ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه بالعلم بالله والعرفان في دينه فيعمل الخير لأنه يفقه أن الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته في دينه ودنياه، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده... فالعاقل لا يقلد عاقلًا مثله، فأجدر به ألا يقلد جاهلًا هو دونه!

وإن القول بنفي الرابطة بين الأسباب والمسببات جدير بأهل دين ورد في كتابه أن الإيمان وحده كاف في أن يكون للمؤمن أن يقول للجبل تحول عن مكانك فيتحول الجبل يليق بأهل دين تعد الصلاة وحدها، إذا أخلص المصلي فيها كافية في إقداره على تغيير سير الكواكب وقلب نظام العالم العنصري!

وليس هذا الدين هو دين الإسلام!

دين الإسلام هو الذي جاء في كتابه: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة : ١٠٥) ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾  ومن(الأنفال : ٦٠) ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب:62) وأمثالها.

وليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببة إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله!

الهوامش

«1» جمال الدين الأفغاني الأعمال الكاملة، ص ۱۷۷، ٢٥٦ ، ٢٥٧، ٢٦٠، ٢٦٥، دراسة وتحقيق د. محمد عمارة طبعة القاهرة سنة ٩٦٨م.

«2» الأفغاني الآثار الكاملة، ج ١، ص ٤٢، ٤٣ جمع وإعداد: هادي خسرو شاهي تقديم: د.محمد عمارة طبعة القاهرة، سنة ٢٠٠٢م.

 

الرابط المختصر :