العنوان الفتوى في البلقان.. ومعركة الدفاع عن الهوية
الكاتب عبد الباقي خليفة
تاريخ النشر السبت 21-يونيو-2008
مشاهدات 14
نشر في العدد 1807
نشر في الصفحة 30
السبت 21-يونيو-2008
«الفتوى» و«المشيخة» لعبا دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية الإسلامية لمسلمي البلقان
الفتاوى الإسلامية تحرم على مسلمي البلقان بيع الخمر ولحم الخنزير
مشيخة البوسنة تعتبر ضحايا الاغتصاب بريئات وتمنحهن حق الإجهاض
البوشناق يدركون أهمية القيادة الإسلامية العالمية بعد خضوعهم لاحتلال غير إسلامي
مثلت الفتوى في تاريخ منطقة البلقان الإسلامية دورًا كبيرًا في الحفاظ على الهوية الإسلامية وفي تقديم الأجوبة الشرعية على الأسئلة التي تستجد في حياة الناس، ولاسيما الأسئلة الكبرى التي تثيرها حوادث الزمان وتعاقبه والمكان بأبعاده وخصوصياته، فلقد لعبت دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية الإسلامية ووجود المسلمين في المنطقة إسلاميا وديمغرافيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، منذ العهد العثماني ١٤٦٣ / ۱۸۷۸م مرورًا بفترة الاحتلال النمساوي الهنغاري ۱۸۷۸ / ۱۹۱۹م. ثم المملكة اليوغسلافية ١٩١٩ / ١٩٤٥م، ثم يوغسلافيا الاتحادية ١٩٤٥/ ۱۹۹۰م، وانتهاء بدولة البوسنة المستقلة السائرة في طريق الانضمام للاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
وكانت الفتوى في البلقان طوق النجاة للمسلمين الذين كانت تتقاذفهم الأمواج، وتحيط بهم الأخطار من كل جانب بعد انحسار ظل الخلافة العثمانية فساهمت في حقن دماء المسلمين، عندما دب الخلاف بين الناس، وبين السلطات والمعارضة، خاصة الاضطرابات التي وقعت في البوسنة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الحكم العثماني لها، والتي أدت إلى فقدان ما يزيد على ثلث المسلمين البوشناق في صدامات مع المتمردين الصرب (۱).
وساهمت الفتوى أيضاً في وقف الصراع بين المسلمين، حيث كانت بمثابة فصل الخطاب بين المتنازعين، ومن الأمثلة البارزة التي تدلل على ذلك الموقف من تنظيم الجيش، ولبس البنطلون العسكري ذلك التنظيم الذي أثار جدلا واسعا كاد أن يتحول إلى مواجهات عسكرية بين المسلمين البوشناق والعثمانيين، حيث رفض البوشناق (۲) الإصلاحات العسكرية، واعتبروه تشبها بالكفار إذ كان المشروع العثماني للتحديث يطبق داخل دولة إسلامية موحدة ولذا أقنع البوشناق أبناء دينهم بأنه ليس من الخطأ أن يكون لدى الدولة جيش أوروبي في زيه وتجهيزاته وأن تكون له إدارة وقضاء مركزيان وأكثر فعالية في الأداء ووسائط جديدة للنقل والاتصال ومصانع ومدارس جديدة (۳).
كان ذلك وفقًا لفتوى مفتي موستار الشيخ مصطفى صدقي قرة بيك، استنادا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف:4) بأن التشكيلات النظامية للجيش نوع من البنيان المرصوص، وهي الفتوى التي أيدها مفتي ترافنيك الشيخ درويش محمد كوركوت ومفتي سراييفو محمد حلمي حجي عموروفيتش (٤).
الفتوى والهوية الإسلامية
لقد وضع احتلال الإمبراطورية النمساوية للبوسنة سنة ۱۸۷۸م البوشناق أمام مسألة غاية في الأهمية وهي مسألة العيش داخل دولة غير مسلمة، وهل يمكنهم البقاء في وطنهم بعد أن احتلته دولة غير مسلمة أم يجب عليهم أن يهاجروا إلى الأراضي العثمانية، فإذا قرروا البقاء فما واجباتهم تجاه السلطات الجديدة؟
وكان هناك عدد من العوامل التي أثرت على التجاوب العملي للشعب مع هذا التحدي، منها فهم الفرد والأسرة للإسلام ودرجة الالتزام بأحكامه، وتأثير العلماء المحليين والموقف من الاحتلال.
وللتأكيد على دور الفتوى في كسب المسلمين القدرة على الدخول في هذا التحدي يجب أن نشير إلى أن مسألة الهجرة كانت شائعة بين جميع المجموعات المسلمة التي كانت تعيش على أطراف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، فالتوسع الاستعماري الأوروبي أوجد عند عدد كبير من الشعوب المسلمة بعدا جديدا في العلاقة بين الإسلام والدولة مما جعل المسلمين في البلقان والقوقاز والهند ونيجيريا وبلاد ما وراء النهر يسألون عن الفتاوى بخصوص العيش في بيئة غير مسلمة (٥).
وقد استند علماء المسلمين في القرن التاسع عشر في فتواهم التي أصدروها، إلى الأعمال الفقهية والآراء المقدمة في الظروف التي كانت تسود العالم الإسلامي في الزمن القديم، غير أخذين بعين الاعتبار حقيقة أن تقسيم العالم إلى قطبين دار الإسلام ودار الحرب كان دائما موضع تشكيك من قبل الحقائق التاريخية، ولا سيما أنه منذ القرن الخامس الهجري كانت توجد أعداد كبيرة من المسلمين تعيش تحت حكم غير المسلمين.
فيما أصر علماء القرن التاسع عشر ومن جاء بعدهم على الاستمرار في استخدام التصنيف الذي كان قد فقد مضمونه التاريخي، فحاولوا تصنيف بعض المناطق الخاضعة لسلطة غير مسلمة من حيث كونها ما زالت دار الإسلام أم أنها تحولت إلى دار الحرب؟ وما النتائج المترتبة على وضع بعينه؟ ولم يبحثوا في أنظمتها القانونية وجودة الحياة فيها.
ومن الأهمية التركيز على وضع البوسنة والهرسك القانوني تحت الإدارة النمساوية حيث تعرض للتغيير منذ سنة ۱۸۷۸ إلى ١٩٠٨م وكانت البوسنة من الناحية القانونية جزءا من الدولة العثمانية محتلا من قبل الإمبراطورية النمساوية. وفي سنة ١٩٠٨م أصبحت البوسنة جزءًا من الإمبراطورية النمساوية الهنغارية واستمر الوضع على ذلك الحال حتى عام ١٩١٨م.
فتاوى «الحكم غير الإسلامي» وقد أثرت هذه التغيرات في الوضع الدولي للبوسنة في أجوبة المسلمين عن مسألة العيش تحت حكم غير المسلمين حيث تذكر المصادر التاريخية دراستين لوضع البوسنة والهرسك تحت الحكم النمساوي الهنغاري من وجهة النظر الفقهية:
الدراسة الأولى: كتبها مفتي توزلا محمد توفيق آزاباغيتش وكانت بعنوان رسالة في الهجرة حيث كتبت هذه الرسالة سنة ١٨٨٦م.
والدراسة الثانية: كانت بعنوان الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيه بقلم الشيخ محمد رشيد رضا (١٨٦٥ / ١٩٣٥م). وصدرت سنة ١٩٠٩م. وقد جاءت استجابة لاستشارة من علماء البوسنة، وتم اعتمادها من قبل العلماء البوسنيين مما يجعلها فتوى بوسنية رسمية بعدما وافقوا عليها وعملوا بمقتضاها، وكان لهذه الفتوى تأثير قوي على البوشناق.
وتتألف «رسالة في الهجرة» من ثلاثة أجزاء، حيث يبحث الجزء الأول في تعريف الهجرة وتعامل القرآن والسنة معها، بينما يبحث الجزء الثاني عددًا من المفاهيم. منها: دار الإسلام ودار الحرب، وتحول دار الإسلام إلى دار الحرب، أما الجزء الثالث فيعالج مفهوم الفتح وتصنيفه ونتائجه وفيها يرفض المؤلف هجرة البوشناق ويشبهها ببيع الجواهر من أجل شراء الأحجار (6).
العلاقة بغير المسلمين
أيضاً كانت العلاقة مع غير المسلمين ولا تزال من القضايا المهمة التي تناولتها الفتوى بما في ذلك منطقة البلقان، ومن ذلك على سبيل المثال: الخدمة في جيش غير مسلم حيث يعتبر تجنيد البوشناق في الجيش النمساوي الهنغاري أول مظاهر التحول في المسار السياسي عند البوشناق وأكثره حساسية، فهل يجوز للمسلمين أن يخدموا في جيش غير مسلم؟ وقد تصدى مفتي سراييفو الشيخ حلمي حاجي عميروفيتش للإجابة عن هذا السؤال، فأفتى بضرورة احترام البوشناق للقانون العسكري وفي الحقيقة فإن وثائق الأرشيف التي تم نشرها تشير إلى أن الحكومة النمساوية الهنغارية هي التي شجعت على إصدار الفتوى (۷).
قضية الخلافة الإسلامية
ومن القضايا التي اهتم بها المفتون والمثقفون البوشناق أيضًا قضية الخلافة الإسلامية، فقد أدرك العلماء المسلمون أثناء عيشهم تحت حكم غير المسلمين أهمية القيادة الإسلامية العالمية، كما أظهرت تجربة البوشناق التاريخية أن غياب القيادة العالمية يؤدي إلى فقدان الأقليات الدينية للحماية الفعالة من تدخل الدولة في شؤونها الخاصة، بل إلى تهديد بقائها (۸).
المشيخة والشيوعية
عندما استولى الشيوعيون على الحكم أقاموا نظامًا معاديًا للمسلمين فالحكومة الشيوعية ألغت الدين وألغت الوقف والمدارس ومنعت الأذان، ومنعت الصلاة حتى في البيت وحرضت الابن على التجسس على أبيه والزوجة على زوجها وهكذا، وفي بداية السبعينيات أي بعد ٣٠ سنة من المعاناة حصل انفراج نسبي، وبعدها استطاعت المشيخة الإسلامية فتح كلية الدراسات الإسلامية بعد ٣٠ سنة وتحديداً سنة ١٩٧٧م.
ولا يخفى أن الضغوط تؤدي في أحيان كثيرة لتمسك المسلمين بالإسلام أكثر وهذا ما حصل مع المسلمين إبان الحقبة الشيوعية.
آفاق جديدة للفتوى
أثناء حرب الإبادة الصربية ضد مسلمي البوسنة استجدت قضايا مثل نتائج الاغتصاب حيث اعتبرت المشيخة الإسلامية في البوسنة ضحايا الاغتصاب بريئات، كما أعطت للحوامل حق الإجهاض ما لم تزد فترة الحمل على ١٢٠ يومًا (٩).
كما أفتت المشيخة بحرمة بيع الخمر ولحم الخنزير بالنسبة للمسلمين، وجددت تأكيد تحريم زواج المسلمة من غير المسلم. ومنذ تأسيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قبل أكثر من ١٠ سنوات أصبحت الفتوى في البوسنة مرآة لفتاوى المجلس ومقرراته.
الهوامش
(1) D. Mackenzie. The Serbs and Russian Pan-Slavism
(۲) هم سكان البوسنة الأصليون أغلبهم ينحدر من العرق الأليري وهم مسلمو البوسنة والسنجق الذي يخضع للحكم الصربي حاليًا.
(۳) فكرت كرتشيتش البوشناق وتحديات الحداثة ص ٧٣ إصدار دار القلم عام ٢٠٠٤.
(4) فكرت كرتشيتش المصدر السابق ص ٤٨.
(5) Kh. a. Fadl. Islamic Law and Muslim Minorites: The juristic Discourse on Muslim Minorites from the Second/Eight to the Elenth /Seventeenth Centuries. Islamic Law and Society (1994): 145 I Bernard Lewis. Political Language of Islam (Chicago: University of Chicago Press, 1988)104-105
: محمد موفق الأرناؤوط (6) Muhamad Mufaku al-Arnaut. Islam and Muslims in Bosnia 18781918- Two Hijras and Two Fatwas. Journal of Islamic Studes 5 (1994) 2 250: M. T. Azapagic Risala o hidzri.217
(۷) فكرت كرتشيتش مصدر سابق ص ۱۲۳.
(۸) المرجع السابق ص ١٥٣.
(۹) حوار مع رئيس العلماء الدكتور مصطفى تسيريتش.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل