العنوان الفردوس المفقود.. الأندلس
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 26-يونيو-1979
مشاهدات 18
نشر في العدد 451
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 26-يونيو-1979
تقدمة:
في نهاية القرن الأول الهجري، فتحت الأندلس.. فردوس الدنيا، فتحت بسواعد المسلمين، ودمائهم، وجهادهم، ومثلت فيها أعظم حضارة عرفها التاريخ، بينما أوربا تغرق في ظلمات القرون الوسطى...
وبقي حكم الإسلام في الأندلس ثمانية قرون، تغترف منها أوروبا من حضارة الإسلام وتتلمذ على أساتذته ثم ضاعت الأندلس، ضاع فردوس الدنيا، ضيعها ملوكها، ضيعها الترف، ضيعها غزو الفكر قبل غزو السلاح.
وبكى المسلمون الأندلس... كما بكوا من بعدها أرض بخارة والقرم والقوقاز..
وكما بكوا ضياع الخلافة الإسلامية في تركيا..
وكما بكوا ضياع مهبط الأديان في فلسطين، وبكوا معها القدس والمسجد الأقصى ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ (الإسراء:1) ونحن ندرس في هذه الكلمات الأندلس باعتبارها حاضرًا لا ماضيًا.
باعتبارها حاضرًا سلبيًّا يذكر المسلمين مجدهم ويذكرهم الجهاد لاستعادة فردوسهم المفقود مع استعادة فلسطين والأقصى واستعادة مثوى البخاري ومسلم وغيرهم من علماء المسلمين في أرض الاتحاد السوفياتي.
ثم لنأخذ العبرة.. كيف كانت الأندلس؟ كيف صارت الأندلس؟ كيف ضاعت الأندلس؟ فنأخذ من الضياع؛ كيف نتوقى الضياع؟ ونأخذ من الضياع؛ كيف نسترد ما ضاع؟
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أولًا: الأندلس قبل الضياع
قبل الضياع فترتان لابد من الإشارة لهما.
فترة ما قبل الفتح الإسلامي. ثم فترة ما بعد الفتح الإسلامي ففي الإشارة إليها عبرة لأولي الألباب.
1 - الأندلس قبل الفتح الإسلامي:
شبه جزيرة الأندلس «أسبانيا والبرتغال الآن» تقع في الجنوب الغربي من أوربا وتحيط بها مياه المحيط من غربها ومياه الأبيض المتوسط من جنوبها وشرقها ويفصلها عن المغرب الإسلامي مضيق جبل طارق وتتحصن بالجبال في أماكن عديدة.
وهي بعد موقعها تتميز بجمال طبيعتها وباعتدال جوها وبخصب أرضها...
وقد كانت في القرون الوسطى _قبل الفتح الإسلامي_ تغرق في ظلمات الجهل والاستبداد، والفوارق الاجتماعية. وتحكم الإقطاع والكنيسة ومحاكم التفتيش تفتش عما بداخل القلوب والضمائر لتحاكم أصحابه، ولتصدر الحكم لأتفه الأسباب وفي مقدمتها الاختراعات العلمية أو التجرؤ ببحث ما جاء في الكتب المقدسة الصادرة عن الكنيسة.
وقد بلغ من أعدمتهم الكنيسة في هذه الفترة السوداء من تاريخ الإنسانية مائة ألف نفس منهم اثنان وثلاثون ألف أحرقوا أحياء.
ولنعلم إلى أي حد انحطت الكنيسة لنا أن نعلم بعد الذي سقناه أنها كانت تحرم الاغتسال والتطهر. ويعتبرون قذارة البدن تسير طرديًّا مع طهارة الروح، حتى ليفتخر أحد رهبانهم بأنه لم يرتكب إثم غسل الرجلين طوال العمر وحتى ليتندر آخر بأنهم كانوا يعدون غسل الوجه حرامًا حتى جاء الفتح الإسلامي فصاروا يدخلون الحمامات.
ويعتبرون النساء رجسًا ولو كانوا أمهات أو شقيقات ومن ثم لا يقتربون منهن، ولا يتحدثون إليهن، ويفرون منهن فرار الرجل من الحرب.
2 - الأندلس بعد الفتح الإسلامي:
استمر الفتح الإسلامي ما بين عامين أو أربعة على اختلاف الروايات وعم نور الإسلام شبه الجزيرة ودخل الناس طواعية في دين الله أفواجًا.
وشحذ الإسلام إلههم وأنار بعد القلوب والعقول، حتى تفتقت عن حضارة لم يعرف لها العالم ولا التاريخ مثيلًا.
ويكفي أن نعرف أنها أنجبت بفضل الله ونوره:
أ - أمثال ابن حبان القرطبي، شيخ المؤرخين، وصاحب أحكام القرآن الشهير بتفسير القرطبي، والمقتبس في أخبار بلاد الأندلس في عشرة أجزاء، وغيرها من المؤلفات.
ب - ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، ومؤسس فلسفة التاريخ وصاحب مقدمة ابن خلدون، وما أعقبها من مجلدات كتاب «المبتدأ والخبر».
ج - ابن حزم «الظاهري» صاحب كتاب المحلى «9 أجزاء» والأحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، فضلًا عن أربعمائة مجلد آخر «400».
د - ابو القاسم المجريطى، الفلكي الشهير الذي ترجمت كتبه إلى اللاتينية.
وقد كان للمسلمون مراصد في قرطبة وطليطلة فضلًا عن اختراعهم لأنواع من الساعات سميت «الميقاتة».
هـ - أبو القاسم الزهراوي الطبيب المسلم الشهير الذي توصل إلى استخراج الحصاة من المثانة أو تفتيتها وإجراء عمليات في العين فضلًا عن بقية أفراد عائلة زهر التي اشتهرت بالطب رجالًا ونساء.
وفي مجالات أخرى برز المسلمون من أبناء الأندلس المسلم:
ففي مجال الكيمياء: كانوا أول من جعلوا البارود مادة متفجرة دافقة قابلة لإطلاق القذائف كما وضعوا كثيرًا من قواعدها وأصولها التي نقلها عنهم الأوروبيون بعد ذلك، وتوصلوا إلى كثير من الصناعات باستعمال المواد الكيماوية كالطباعة والدباغة وصناعة المعادن.
وفي الفيزياء: وضعوا كثيرًا من أسس هذا العلم كما وضعوا نظرية الجاذبية وتحدثوا عن «المغناطيسية» والبصريات، وغير ذلك…
وفي الجفرافيا والرحلات: أرتادوا البحر والفجاج واستكشفوا الكثير، وكان لهم إنتاج طيب، وظهر منهم أمثال «الرازي، والبكري، والعذري والإدريسي وابن بطوطة».
وفي التعليم ظهرت أساليب التعليم، وظهرت الجامعات «قرطبة، وغرناطة وإشبيلية»، ووفد عليها ليس فقط المسلمون بل هرع إليها غير المسلمين ينهلون من علمها ويتعلمون؛ كيف يتعلمون؟ وكيف يعلمون؟
وأخيرًا نسوق بعض ما قاله غير المسلمين والحق ما شهدت به الأعداء
يقول ماك كيب:
لم تطلع الشمس على أهنا وأرغد عيشًا، ولا أكثر رغبة في التمتع بالجمال والعلوم والأعمال المجيدة من عرب الأندلس.
ويقول كذلك:
إن العرب الأندلسيون لو تجمعوا في فتح أوربا وبقوا فيها قرنين وأقاموا فيها مدينتهم كما فعلوا في الأندلس لكنا الآن متقدمين خمسة قرون على ما نحن فيه.
ثم يشير إلى إغفال المؤرخين الأوربيين لحضارة الإسلام في الأندلس ويسوق الأسباب لذلك.
هكذا كان الأندلس حين فتحه الإسلام تعرف النور، ومضى في ظل النور، يقيم أعظم حضارة عرفها التاريخ.. في كل مجالات العلم، والمعرفة والفن.. لولا ما أصابه بعد ذلك فانتقل إلى دور الفردوس المفقود..
كيف ضاعت الأندلس؟
حديث الضياع حديث أليم خاصة إذا كان عن الأندلس فردوس المسلمين. وباب الإسلام إلى أوربا والغرب كله.. ثم منارة حضارته إلى العمالين.
لكن تشخيص الداء لازم لسلامة الدواء، وسلامة الاستشفاء ومن ثم كان لابد من هذا الحديث.
والأنداس ضاعت يوم ضاع الإسلام في قلوب أبنائها ففسد الأمراء وسكت العلماء وفسد من بعد هؤلاء وأولئك الناس..
ودب الترف وسرى في عروق الحاكمين وامتد من الحاكمين إلى من يليهم من الطبقات ومع الترف يكون الفسق ويكون الفجور... وعرفت الأندلس القيان، والغناء وارتخت أعصاب المترفين وترهلت أجسادهم ونعمت أطرافهم.. فلم تعد صالحة للجهاد.. ومن ثم توقف الجهاد.
وتنافس الحاكمون في اقتناء الإماء. وفي التشبب بالنساء. وفي تشييد القصور وعرفت قرطبة: الزهراء، والكامل، والمجرد، والجائر، والروض والمعشوق، والمبارك، والرستق، والتاج، وقصر السرور، وانهمك «الناصر» في عمارة الزهراء حتى ترك الجعمات فوقف الإمام منذر بن سعيد ينذر بالهلاك ويقول:
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الشعراء: 128إلى135)
ثم نوه بالزهراء وتلا قول الله ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 109-110).
وظهر من الحكام من يجهر بالمعاصي والجهر بالمعصية إغراء بها وتحريض عليها فإن كان الجهر من الحكام فالإغراء أشد والتحريض أعظم، وهكذا يشير المؤرخون إلى الحكم بن هشام ثم إلى ولده عبد الرحمن. وإذا كان الأمر كذلك على مستوتى أولي الأمر. فإن السقوط أشد والتتابع بين العامة أفظع. وهكذا صدق قول الله ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ (الإسراء:16) وفي القراءة الأخرى «أمرنا مترفيها» «بتشديد الميم» فمع التشديد يكون تشديد الله أشد.
•وكان مما صاحب الترف والزكاة على مستوى الجماهير. غزو فكري حمله مبشرون وصلوا إلى الألف وحمله مدرسون في المدارس وصلوا 485 مدرسًا. وحملته كؤوس الخمر ينفق عليها البابا خمسمائة ألف تلورين «سنويًّا».
• وكان مما صاحبه على مستوى الأمراء مصاهرة النصارى فتزوج أبو الحسن «الغني بالله» من النصرانية ثريا. وكان يستعين بأهلها «ملوك قشتالة» النصارى على ابن أخيه الزعل. وتتابع من قبله ومن بعده أمراء في هذا الأمر. ولم يصغوا لقول
الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران: 118).. ولا قوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (الممتحنة:1).
وكان هذا هو عامل الانهيار الأول.. الانهيار داخل النفس.
• وأعقبه انهيار آخر.. انهيار داخل الصف بما أصاب المسلمون في الأندلس من خلاف وشقاق، كان سببه الاقتتال على الجاه والنصب. وبدأ أول ما بدأ في صفوف الأمراء والحاكمين، وامتدت عصبيته مقيتة كريهة بين صفوف الفاتحين من قحطانيين وعدنانيين ومن عرب وبربر. تفجرت القوميات والعصبيات كريهة تقسم الصف وتفتته وتطمع عدو الله وعدوه.
وعرفت الأندلس الثورات، وعرفت الحروب الداخلية ومن أسف أن يستعان فيها بالنصارى ضد المسلمين، فيضعف الأخيرون ويتقوى الأولون ويقفون متربصين انهيار الدولة الإسلامية هناك وراء الجبال في الشمال.
• ويأتي العامل الثالث والأخير ليجهز على ما بقي؛ تأتي حشود النصارى القابعة وراء جبال الشمس.. لتجهز على ما بقى من قوة للمسلمين، فقد فات المسلمين أن يطهروا هذه الجبال ممن قبع وراءها من فلول الأسبان فتقدموا غداة ضعف الدولة وانهيارها ليتسلموا طليطلة من ملكها التافه العاجز المسمى خطأ بالقادر سنة 1086 لتكون هذه أول حملة صليبية يعقبها بعد ثلاثة عشر عامًا نزول الصليبين في بيت المقدس سنة 1099هـ
وهكذا المسلمون جسد واحد، إذا أصيب في جانب صار عرضة لأن يصاب في بقية الجوانب، أو هم كالبناء الواحد إذ تداعى في ناصية أمكن أن يسقط في أخرى.
وفي الخامس عشر من صفر 609هـ 1212م دارت آخر معركة بين قوات الموحدين وقوات قشتالة يقودها ألفنسو الثامن.. فيهوى علم الموحدين، ويرتفع علم الصليبيين.. ويذوق المسلمون الإبادة والنفي والهوان.. حتى تستأصل شافتهم في فردوسهم المفقود. ومايجدون بل يجيدون بعدها غير البكاء على الأطلال:
تبكي الحنيفة البيضاء من أسف *** كما بكى الفراق الألف هيمان
على ديار من الإسلام خالية *** قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس *** ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة *** حتى المنابر ترثي وهي عيدان
أعندكم نبأ من أهل أندلس *** فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون! *** أسرى وقتلى فما يهتر إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم؟ *** وأنتم عباد الله إخوان؟
ثالثًا: الطريق إلى الأندلس..
هو الطريق المضاد لطريق الضياع
• هو معنويًّا... من خلال النفس، أن يعمرها الإسلام والإيمان.
• وهو إعدادًا.. من خلال الصف، أن تعود إليه وحدته.. فتعود الأمة الواحدة والدولة المسلحة مع الإيمان بما استطاعت من قوة.
• وهو استراتيجيًّا.. واجب الصف الإسلامي الأول الرابض هناك في أرض المغرب الإسلامي. فليس بينها وبين الأندلس غير خطوات.
فلا بد أن تعود الأندلس.. فردوس الإسلام المفقود، الذي رفرف عليه علم الإسلام ثمانية قرون.
لابد أن تعود الأندلس أرض المسلمين، والجهاد لعودتها فرض عين تمامًا كالجهاد لاستعادة فلسطين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل