العنوان القوة التي لا تُغلب.. بين الطالب وأستاذه
الكاتب د. يوسف القرضاوي
تاريخ النشر الثلاثاء 12-مايو-1970
مشاهدات 29
نشر في العدد 9
نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 12-مايو-1970
قال الطالب لأستاذه المربي:
خبرني عن أعظم قوة عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، ولا شك أنك تعتقد مثلي أنها قوة الصاروخ والقنبلة الذرية؟
قال الأستاذ المعلم:
مهلاً أيها الفتى الطالب، لا تسألني وتعجل بالجواب قبلي.
- قال الطالب:
معذرة يا أستاذي، إني أريد أن أسمع منك.
● قال الأستاذ:
دعني أسألك سؤالاً آخر: أيهما أعظم قوة القنبلة والصاروخ، أم الذي صنع وأطلق الصاروخ؟
- قال الفتى:
لا شك أن صانع القنبلة ومطلق الصاروخ أقوى منهما!
● قال الأستاذ:
إذن فأنت معي، أن قوة الإنسان أعظم من كل قوة مادية في الأرض.
- قال الطالب:
نعم. فالإنسان هو الذي يسخر المادة لمنفعته، ويوجهها لما يريد.
● قال الأستاذ المربي:
فإذا وجدت قوة توجه الإنسان، وتدفعه إلى الأمام، وتحفزه على العمل الدائب، وتقذف به كالقنبلة، أو أقوى وتطلقه كالصاروخ، أو أشد؟
- قال الطالب في عجلة:
إنها لا شك تكون أعظم قوة عرفها الإنسان في هذه الأرض؛ فما هي هذه القوة؟ وما حقيقتها؟ لقد شوقتني إليها بحديثك عنها!!
● قال الأستاذ المربي:
إنها يا بني قوة الإيمان.
● قال الفتى الطالب:
● الإيمان بأي شيء؛ فإن بعض الناس يجعلون الإيمان بأي مبدأ هو الإيمان.
● قال الأستاذ:
الإيمان الذي أعنيه هو الإيمان بالله واهب الحياة وخالق الكون والإنسان، الإيمان بالجزاء والخلود في حياة باقية توفّى فيها كل نفس ما عملت وهم لا يُظلمون، الإيمان بعالم فسيح غير منظور مليء بجند الله لا يُحصى لهم عدد، إنهم الملائكة المقربون، الإيمان بالوحي الإلهي، وهو الصلة التي تربط السماء بالأرض، ومظهر هداية الخالق للخلق، الإيمان بالنماذج الإنسانية العليا، أولئك النبيون الذي أنزل الله عليهم وحيه؛ ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
الإيمان بأن الكون لا يسير جزافًا، ولا تمضي حوادثه بغير هدى ولا تقدير، بل كل شيء فيه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر.
الإيمان بكرامة الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض واستعمره فيها، وابتلاه بالتكليف في دار الدنيا، ليصهره ويعده للخلود في الدار الآخرة.
ذلك يا بني هو الإيمان الذي دعا إليه النبيون والمرسلون، وجاهد في سبيله الصديقون والشهداء والصالحون، وهو المعنى الفذ الذي يراد من كلمة الإيمان.. واسترسل الأستاذ يتحدث والطالب الفتى يُصغي إليه في شوق ولهفة:
هذا الإيمان يا بني قوة دافعة موجهة، قوة تسند الضعيف أن يسقط، وتمسك القوي أن يجمح، وتعصم الغالب أن يطغى، وتمنع المغلوب أن ييأس وينهار.
- قال الطالب الفتى:
لكنك يا أستاذي حدثتنا من قبل أن في الإنسان قوة أخرى عالية شديدة العتو والجبروت، تلك هي قوة الغرائز كغريزة حب البقاء وغريزة الشهوة الجنسية وغريزة الغضب والمقاتلة.
- قال الأستاذ الشيخ:
أجل يا بني، أنا لم أنس حديثي هذا، ولا أنكر أن للغرائز البشرية سطوتها وقوتها، ولكنها بجوار الإيمان تفقد سيطرتها، وتنحل عقدتها وتنحني مطواعة لقوة الإيمان؛ فالإيمان هو السيد الآمر المطاع والغرائز هي الخادمة المنقادة له، المسخرة بأمره، أتريد أن أضرب لك مثلا من التاريخ.
- قال الطالب:
نعم، فقد حفظنا عنك «بالمثال يتضح المقال».
● قال الأستاذ:
هل أتاك حديث سيدنا يوسف الصديق، لا بد أنك سمعت قصته في سورة يوسف في القرآن الكريم، إنها قصة شاب مؤمن أخضع غريزته لإيمانه، فخلد الله ذكره، وسجّل قصته لتكون هدى ونبراسًا للآخرين.
يوسف شاب في ريعان الشباب ومقتبل العمر أُوتي من الشباب والجمال حظًا كبيرًا، وامتلأ فتوة ونضرة ونشاطًا، وقدّر القدر له أن يُبتلى بالخدمة في بيت امرأة عزيز مصر، ولكن شبابه وجماله أغرى به المرأة التي هو في بيتها، فراودته عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، فماذا صنع الفتى يوسف أمام هذا الإغراء وأمام هذه الفتنة؟
-قال الفتى الطالب لأستاذه:
هذا والله يا أستاذ موقف صعب وامتحان رهيب لإيمان يوسف، فماذا صنع يا ترى أمام إغراء المرأة؟
● قال الأستاذ:
أجل كان الامتحان عسيرًا، ولكنه انتهى بنجاح يوسف، كان صوت الغريزة القوي يدعوه أن يهم بها كما دعا المرأة أن تهم به، ولكن صوت الإيمان في ضميره كان أقوى، لقد زجرها بهذه الكلمـات الواعية {قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
ولقد حاولت المرأة مرة أخرى أن تمكن به، وتجبره على قبول رغبتها الآثمة أمام نسوتها قائلة {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ}.
وكان يوسف بين محنتين؛ أن يمتحن دينه، فيقع في الفاحشة والإثم المبين، أو يمتحن في دنياه وحريته، فيسجن ويكون من الصاغرين.
قال الطالب في لهفة:
فماذا اختار يوسف؟!
● قال الأستاذ:
لقد هداه منطق الإيمان أن يؤثر سلامة دينه على سلامة دنياه، فقال كما حدثنا القرآن: «رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين».
- قال الطالب لأستاذه:
وماذا حدث ليوسف بعـد ذلك؟
● قال الأستاذ:
سجنوه ظلمًا، ولبث في السجن بضع سنين، بيد أن ظلمة السجن لم تطفئ النور الذي في قلبه، ولم تنسه أنه مؤمن صاحب رسالة؛ فظل في السجن يدعو إلى توحيد الله ويُنفّر رفقاءه في السجن من الوثنية المخرفة، وينتهز الفرصة لذلك كما قال للفتيين اللذين سألاه في تأويل حلم أو تفسير رؤيا، فأنبأهما بعض ما علّمه الله من الغيب ثم قال: { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 37- 40).
قال الطالب:
وماذا كانت عاقبة هذا السجين المؤمن؟
● قال الأستاذ:
إن العاقبة يا بني دائمـا للمؤمنين المتقين. هذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً، لقد احتاج القوم إليه احتياج الجاهل إلى العالم والمريض إلى الطبيب والملاح التائه إلى النجم الهادي، فلم يجدوا بُدًّا من أن يذهبوا إليه صاغرين، ويطلقوا سراحه وهو يأبى أن يخرج من السجن إلا بعد أن تظهر براءة صفحته أولاً... وخرج من السجن نقي الذيل مرفوع الرأس، ناصع الجبين {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وأصبح سجين مصر بالأمس عزيزها اليوم والمتصرف في مالياتها وتموينها إبان أزمة ومجاعة اجتاحت مصر وما جاورها من الأقطار. وكان هذا المنصب امتحانًا آخر لإيمان یوسف، فإن الإنسان يمتحن بالنعمة كما يمتحن بالمصيبة.
- قال الطالب:
- وكيف يمتحن بالنعمة؟؟
● قال الأستاذ:
أما سمعت قول الله عز وجل {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} إن بعض الناس قد يملك نفسه، فيصبر ولا يجزع، فإذا امتحن بالنعمة بطر، واستكبر وركبه الغرور، ولكن يوسف الذي صار عزيزًا، لم يتغير عن يوسف الذي كان سجينًا أنه ملك الدنيا، ولكنها لم تملكه وسيطر على خزائن مصر، ولكنها لم تسيطر على قلبه، لقد كان إذا وُضع أمامه الطعام أكل منه لُقيمات تقيم الأود ولا يشبع؛ فلما سئل عن ذلك قال: أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء.
ومرة أخرى ظهر إيمان يوسف الصديق حين تمكن من إخوته لأبيه أولئك الذين أرادوا أن يقتلوه ليخلو لهم وجه أبيهم، ثم ألقوه في غيابة الجب، ثم باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، وعرضوه للذل والعبودية.
لقد جاءوا مصر من فلسطين يطلبون المدد والزاد، وقدر يوسف على الانتقام منهم، ولكنه عفا وغفر وقال {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
وبعد أن تمهدت ليوسف الوزارة والرئاسة، وقرت عينه بوصول أبويه وإخوته تطلعت نفسه التواقة إلى ما هو أعز من الوزارة، وأبقى من الملك: إلى رضوان الله تعالى والسعادة بلقائه في دار الخلود. فتوجه إلى الله بدعائه المأثور {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101).
ذلك يا بني نموذج من نماذج الإيمان القوي، فيه أسوة للشباب وعبرة لأولي الألباب وحجة على الجاحدين وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

