; اقتصاد الأمة كما تنظمه سورة البقرة (2 من 6) استعلاء وشمول مفهوم الرزق | مجلة المجتمع

العنوان اقتصاد الأمة كما تنظمه سورة البقرة (2 من 6) استعلاء وشمول مفهوم الرزق

الكاتب يوسف كمال محمد

تاريخ النشر الثلاثاء 18-يناير-1994

مشاهدات 24

نشر في العدد 1084

نشر في الصفحة 46

الثلاثاء 18-يناير-1994

المجتمع الاقتصادي 

تردد تفكير البشر ففي معرفة حقيقة الكون والحياة بين الضلال والشقاء، حين اعتمدوا على قدراتهم من العقل والحس.

فحين اعتمد الإنسان على العقل أسلم نفسه لفلاسفة عابثين يخرصون ويظنون بغير الحق، فانتهوا إلى خرافات لا تقنع الصغار وتثير سخرية الكبار. وحين اعتمد على الحس أنكر الغيب وتصور الحياة رحلة إلى عدم ولا غاية لها إلا الشهوات فأشقى نفسه وأفسد الكون.

واليوم بعد أن رأى المادة تتحول في علمه إلى مجهول، فالذرة لا يمكن أن يرى كهربها، والمجرات لا يمكن أن يتابع نهايتها بمراصده، فالغيب محیط به من كل مكان. فكيف ينكره؟ ولكن كيف يعرفه؟

ولهذا كان الإيمان بالغيب دلالة الرشد في الإنسان.

وانعكس هذا الضلال على المذاهب والمناهج التي تشرع للعباد قوانينهم، فالقانون حقا يحكم اليوم بواقع محدد، ولكن الغد داخل في غيب لا يعرفه، ومتغيرات لا يحصيها. لهذا قصوره وتناقضه وخطؤه بعد حين وإعطاء البشر حق التشريع جعل التحيز لا يمكن تجاوزه، فالمشرع يتحيز لنفسه ويتحيز لقومه ويتحيز لبلده فأنى له بشريعة تقوم على الكمال والعدل؟

ولولا أن الله رحم البشر بإنزال الوحي على رسله الكرام مبينًا ما لا يطيقون معرفته من الغيب لكان بطن الأرض خير للناس من ظاهرها.

ولهذا كان الإيمان بما أنزل الله على رسله من وحي يبين طريق الهدى والفلاح ويقوم هذا البيان على حقيقة إيمانية تبين أن الخلق والأمر من الله تعالى وفعل أسمائه الحسنى، وأن الآخرة في الامتداد الحقيقي للدنيا، فكان بذلك الإيمان الذي بينه الوحي أساس كل علم حق وقاعدة كل عمل صالح. ولما كانت شرعة العمل الصالح فوق طاقة الإنسان كان تحديدها خصيصة إلهية ليس للإنسان أن يدعيها لنفسه.

وهنا تنعقد صلة دائمة بين الإنسان وربه في رأس العبادات وهى الصلاة، وتقوم صلة دائمة بين الإنسان ومجتمعه برأس الطاعات وهو الإنفاق.

والإيمان بالآخرة قرين الإيمان بالله، فما خلق الكون عبثًا ولا الحياة صدفة، وهذا الإيمان يؤثر في السلوك الإنساني ووجهته، وشكل الحضارة وهدفها وأخلاقياتها، فإرادة الدنيا وحدها توجه الإنسان إلى الظلم والفساد والأنانية، بينما الإيمان بالآخرة يولد التقوى التي ينبثق منها خلق الإيثار والرحمة والإصلاح.

ولهذا كان اليقين بالآخرة صفة هامة من صفات المؤمنين.

وبهذا يضع الإنسان أقدامه على طريق الهداية، ويتحقق له الفلاح في دنياه وأخراه.

وهذه هي سمة الاستجابة من الراشدين التي تميز الفئة الأولى التي وصفها القرآن بالمتقين.

سورة البقرة

وهذا هو ما بينته سورة البقرة في مطلعها. ﴿ الم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (البقرة: ١: ٥).

أما الفئتان الأخريان من البشر فهما الكافرون والمنافقون

ولما كان الإيمان حقيقة تتجلى في الكون والحياة وتنطق بالخالق العليم الحكيم في كل شيء. فإن الإنسان الذي يحجب عن هذه الفطرة كائن شاذ طمس فطرته وغطى على النور الذي ينبعث منها، فعطل كل وسائل الاستجابة والاتصال التي فطر عليها لتلقي إشارة الإيمان من كتاب الكون المنظور ومن كتاب الوحي المقروء فهو أعمى وأصم وأبكم وإن رأى وسمع وتكلم.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة «خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» صحیح مسلم.

ويقول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» صحيح الجامع الصغير السيوطي تحقيق الألباني.

والفطرة حسب رواية لأحمد هي:

«الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهو العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم حين مسح ظهر آدم، فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟

قالوا: بلى.

فليس أحد إلا وهو يقر أن له صانعًا ومديرًا وإن سماه بغير اسمه ابن تيمية «تعارض العقل والنقل» ج ٨ ص ٣٥٩.

وهؤلاء السفهاء يترتب على كفرهم ونفاقهم الضلال والطغيان والفساد في الأرض.

ولهذا وصف الله الكافرين بقوله:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ،  فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ٦: ١٣).

والرزق في لغة العرب يُقال للعطاء الجاري تارة، دنيويًا كان أم آخرويًا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى.

ونشاط الإنسان طلبًا للرزق من الموارد التي أنعم الله بها على عباده، وهو المحور الذي تدور عليه العلوم الاقتصادية في العصر.

مراتب تحصيل الرزق

والسعي في تحصيل الرزق قد يجب وذلك عند الحاجة، وقد يستحب وذلك عند قصد التوسعة على نفسه وعياله، وقد يباح، وذلك عند قصد التكثير من غير ارتكاب منهى، وقد يحرم وذلك عند ارتكاب المنهى كالغضب والسرقة والزنا.

إن رغد العيش مرتبط بالإيمان والتقوى وضنك العيش والعذاب مرتبط بالكفر والفساد.

والبركة تظهر آثارها وفرة في الرزق وعافية في البدن، ورضا في النفس، وصرفًا للأذى ودفنًا في العلاقات بينما الكفر يمحق هذه البركة بما يسببه من إفساد للأرض بعد إصلاحها، وظلم للعباد، وتناول للخبائث.

والرزق يصطلح الاقتصاديون على تسميته بالدخل فهو تيار مستمر، بعكس المال أو الثروة التي تعتبر رصيدًا يحسب عند حولان الحول.

وقد فهم المفسرون من قوله تعالى: ﴿ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: ٣) أن من هنا للتبعيض، أي الأمر بإنفاق بعض الرزق، وهذا تطبيق لمبدأ الاعتدال بين الإسراف والتقتير ومن ثم فإن الادخار من أجل الاستثمار جزء أصيل في بنية النظام الاقتصادي الإسلامي. وهذا ييسر السبيل أمام معدل معقول للتكوين الرأسمالي الذي تزيد معه التنمية الاقتصادية وتزدهر.

ومن هنا اعتبر الشارع الحكيم سلامة رأس المال وعدم إهلاكه والإبقاء عليه ليدر دخلًا مستمرًا واجبًا على كل مستثمر وصاحب مال.

يقول الرازي: «ومعنى الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم يُقال فلان رزق عياله أى أجرى عليهم. وإنما قال: «وارزقوهم فيها» ولم يقل منها، لئلا يكون ذلك أمرًا بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقًا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانًا لرزقهم، بأن يتجروا فيها، ويثمروها، فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح ومن أصول الأموال».

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبارك في ثمن أرض ودار إلا أن يجعل في أرض ودار» صحیح سنن ابن ماجه تحقيق الألباني.

ولهذا يستفاد من قوله تعالى: ﴿ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: ٣) إن الفعل المضارع يربط استمرارية الإنفاق مع استمرارية الرزق. كما أن إضافة الرزق إلى الضمير رزقناهم، تعني احترام الملكية الخاصة وحمايتها.

وليس الرزق قاصرًا فقط على ما يكتسبه الإنسان، فإن نعم الله التي رزق بها عباده دون جهد منهم كثيرة، فهو الذي خلق الأرض والماء والشمس التي ينمو بها الزرع وإن بذر العبد البذرة.

كما أن من الرزق ما يتولد عن طاعة الله فيما أمر، ومنه ما يمحق بمعصيته وإتباع السبل.

كما أن من الرزق ما يأتيه من حيث لا يحتسب قدرًا من الله وتسخيرًا حيث يتقيه ويتوكل عليه.

يقول الرازي: والله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه، فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى، حتى إن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والثمر. وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهرًا شاءوا أم أبوا.

الأرزاق نوعان

والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنه للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم.

وهي أرزاق يعطيها الله للجميع في الدنيا بشرط السعي والاجتهاد، فمن شكر زاده ومن كفر عذبه، وأرزاق يعطيها الله للمؤمنين في الآخرة دون جهد أو حساب.

والرزق بهذا يتجاوز في معناه الدخل بمصطلح الاقتصاد ليشمل إنعام الله على عباده بطيبات لم يبذلوا فيها جهدًا وليشمل بركة في الرزق تترتب تلقائيًا على طاعة الله تعالى ولیعني رزق الله الإنسان بالعلم والتقوى والتوفيق، وليمتد إلى رزق الجنة في الآخرة يتطلع إليه أشد مما يتطلع إلى رزق الدنيا... ولا يستطيع مترجم أن يعطى مرادف لكلمة الرزق بأي لغة أجنبية تحمل كل هذه الإيحاءات، بل يلزمه أن يقدم شروحًا ليقدم المعنى كما هو.

ولا يملك الإنسان بعد أن يهتدى إلى الله الذي خلقه وأنعم عليه بطيبات الرزق إلا أن يكون عبدًا شكورًا راجيًا رحمة ربه فكيف يجعل الله بعد ذلك ندا له؟؟

وكما بدأ هذا المقطع بتأكيد أن الكتاب لا ريب فيه، انتهى بأن على الإنسان، إن كان في شك أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن تهديه وترشده وليدعو شهداءه إن كان صادقًا، فإن استحال عليه ذلك فليتنبه أن الحجة لزمته وأن عذاب الله شديد للكافرين، وبشرى للمؤمنين بنعيم ورزق عميم في الجنة خالدين.

يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ، وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: ٢٢: ٢٥).

(*) أستاذ الاقتصاد الإسلامي بقسم الدراسات العليا بكلية التجارة جامعة الإسكندرية.

الرابط المختصر :