; المجتمع التربوي (العدد 1089) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع التربوي (العدد 1089)

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 22-فبراير-1994

مشاهدات 16

نشر في العدد 1089

نشر في الصفحة 52

الثلاثاء 22-فبراير-1994

وقفة تربوية

إعداد: عبد الحميد البلالي

سلفيون وإخوان

في المقابلة التي أجرتها مجلة »الديرة» الكويتية في العدد ۱۲۸ قال وزير الشؤون الاجتماعية والعمل السيد جاسم العون: «عندي الجرأة في كل مكان- في الوزارة وخارجها- أن أعلن أني سلفي، وإن شاء الله أموت سلفيًا، وهذا عن قناعة، بقي أن يعرف الجميع أن أقرب تيار لي بعد السلفية هو الإخوان، وأنا لا أحاربهم، ولا أنتقم منهم لموقفهم منى في الانتخابات، ولو كنت أريد تصفية مع أحد لكان من باب أولى أن يكون مع تيارات أخرى من اليساريين والعلمانيين»، ثم يقول: «أما الإخوان فهم إخوان في الله، وبالتالي فإن خلافي معهم في الرأي لا أعتبره وقوفًا ضدى، وأنا لا ألومهم على ذلك، حيث كان لهم مرشح في نفس الدائرة، وكيف أطالبهم أن يتركوا مرشحهم ويقفوا معي؟» انتهى.

نريد مثل هذه الروح تدب بين قواعد الفريقين، ونريد مثل هذا الخلق المبني على حسن الظن، وعدم تقديم التأويل السيئ على الحسن، ونريد أن يعم الحب في الله، وخاصة بين قياديي هاتين الجماعتين، ولابد أن يخفض الداعي للخلاف، والمبالغ فيه، وألا يسمح كلا الطرفين لأحد منهم أن يؤجج قضايا فرعية ليحولها إلى خلاف بالأصول، فنحن جميعًا ندعو إلى الله، وكلنا إخوان في الله، وكلنا سلفيون في المنهج.

أبو بلال

صيام الحواس في رمضان

بقلم: عمر بن محمد الشهري

الرياض- السعودية

صوم القلب

يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ﴾ (التغابن:11)، فهداية القلب أساس كل هداية وبدء كل توفيق، وأصل كل عمل، فصلاح قلبك سعادتك في الدنيا والآخرة...

إن قلب المؤمن قلب حي ينبض بالإيمان، قلب يصوم!! ولكن لا كصيام البشر... صيام عظيم... ويكون بتفريغه من المادة الفاسدة والشرعية المهلكة، والعقائد الباطلة، ومن الوساوس الخبيثة والنوايا السيئة..

إن قلب المؤمن عامر بحب الله- تعالى- يعرف ربه وأسماءه وصفاته... يطالع بعين البصيرة سطور السماء وصفحات صنع الله في الأرض....

صيام العارفين له حنين *** إلى الرحمن رب العالمينا

تصوم قلوبهم في كل وقت *** وبالأسحار هم يستغفرونا

صوم البطن

كيف تصوم البطن وقد أفطر اللسان على الحرام؟؟

كيف تصوم البطن وقد أفطرت الأذن على سماع المحرم؟؟

كيف تصوم البطن وقد أفطرت العين على نساء المسلمين؟؟

كيف تصوم البطن وقد أفطر الصائم على الحرام؟... طعامه الربا والسحت والغش والسرقة... فسدت والله الأذواق لما فسد الطعام والشراب، وقست والله القلوب لما خبث المأكل والمشرب.. انطمس والله النور لو تدري لما فقدت اللقمة الحلال!!

صوم اللسان!!

إن للسان صيامًا خاصًا يعرفه الذين هم عن اللغو معرضون... وصيام اللسان دائم في رمضان وفي غيره.. ولكن اللسان في رمضان يتهذب ويتأدب.. إن ضرر اللسان عظيم، وخطره جسيم، لذلك كان أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- يأخذ بلسانه ويبكي، ويقول: هذا أوردني الموارد.. إن اللسان إذا أطلق له العنان... يصبح سبعًا ضاريًا، وثعبانًا ينهش، ونارًا تلتهب... فقد كان ابن عباس يقول للسانه: يا لسان، قل خيرًا تنعم، أو اسكت عن شر تسلم.... وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة»، (رواه البخاري).

إن السلف لما تأدبوا بأدب الكتاب والسنة... أصبح نطقهم ذكرًا، ونظرهم عبرًا، وصمتهم فكرًا.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «والله ما في الأرض أحق بطول حبس من لسان»، فكم من صائم فسد صيامه يوم أن فسد لسانه! يا إخوتي، والله الذي لا إله غيره، ليس المقصود في الصيام الجوع والعطش، بل هو التأديب والتهذيب... رب كلمة يهوي بها صاحبها في النار على وجهه؛ لأنه أطلقها بلا عنان، وأرسلها بلا خطام..... فاحذر من الخذلان، واحرص على حفظ لسانك.

صوم الأذن!!

إن الأذن مسؤولة أمام الله- سبحانه- عما تسمعه؛ لذلك كان الصالحون هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه... فالندامة من صرف سمعه عن الهدى، وأغلق أذنه عن صوت الحق.. فجعل أذنه تستمع لكل ناعق للشر... وكل ما جن عربيد، فيا سبحان الله! كثير من البشر اليوم عطلوا ما من الله عليهم به من أعضاء، فأصبحوا يسمعون بها كل ما يغضب الله- عز وجل- ولم تستقر نفوسهم يومًا بسماع المواعظ، نعم.... لهم آذان ولكن كأذان الأنعام، بل أضل وربي والعياذ بالله، فيا سعادة من أخذ الله بيده في رمضان، وعود نفسه سماع القرآن والعلم الصالح، ومحاسن القول، ونجا بنفسه من مهاوي الردى!!.

صوم العين!!

وللعين صيام.. وأي صيام!! صيام العين هو غضها عن الحرام، وإغماضها عن الفحشاء، وإغلاقها عن المناهي، يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ (النور: 31)، إن العين منفذ للقلب وباب للروح، لذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم- يخاطب عليًّا رضي الله عنه: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة» (رواه الحاكم وغيره، وصححه الألباني)..... لذلك كان الذي يطلق العنان لبصره تذهب عنه العبادة وحلاوتها، فسبحان الله، أبى الله إلا أن يذل من عصاه... فقل على نور الإيمان السلام، إذا ما تأدبت العين، وصامت عن الحرام، والله لا يجد ذوق الإيمان إلا من غض بصره، وأطبق أجفان عينيه.... قال الإمام الكرماني: «من غض بصره عن الحرام، فعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره باتباع السنة، لم تخطئ له فراسة أبدًا».

التميز في خدمة الناس

إن الداعية إلى الله- تبارك وتعالى- ينبغي له أن يتميز في خدمة الناس، وتحقيق رغباتهم، فيتفنن في عرض بضاعته الأخروية في الأسواق الدنيوية، فكم من مرة سمعنا من رجل بعيد عن الدين يقول: «يا ليت كل المتدينين مثل فلان.....»، وذلك لأنه لمس من فلان هذا تميزًا في خدمته ودعوته، فلقد كان الداعية معه متميزًا في كلامه وفي كلماته، ومتميزًا في حركاته وتحركاته.. ومتميزًا في مساعداته وقضاء حاجاته....

إن هذا التميز في خدمة الناس هو علم يدرس في الجامعات، ومادة تدريب للمؤسسات التي تقوم على الخدمات، كالبنوك ومكاتب السفريات وشركات الطيران والفنادق؛ فإنها تتسابق على خدمة العملاء، فتتودد إليهم، وتتقرب إليهم من أجل سمعة طيبة وعلاقة دائمة، فتلاحظ أن أحد البنوك يعطيك عند الدخول إليها قهوة وتمرة، ومطعم بعد الانتهاء منه يهديك وردة بيضاء، ومكتب سفريات عند خروجك منه يفتح لك الباب، ويقول لك مبتسمًا: نحن في خدمتك دائمًا، وفندق عند دخولك إليه تجد على فراشك كارت تحية وترحيب، وقطعة من الكاكاو... وأفكار كثيرة، وخدمات متنوعة تميز مؤسسة عن أخرى، وهدفهم في ذلك كسب العميل والربح الدنيوي.

أما معاشرة الدعاة فإن الله- تعالى- قد أخرجهم لخدمة الناس لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران:110)، إذًا فالدعاة أخرجهم الله للناس، لخدمة الناس، ولدعوة الناس، ولتوجيه الناس، ولهذا لا بد من تميز في الخدمة عند تقديمها للناس، كل بيئة بحسب ظروفها، وكل مجتمع بحسب عاداته وتقاليده وأعرافه... ولكن لا بد من التميز في عرض المنتجات الإيمانية والأخلاقية والتربوية في السوق للناس بطريقة مبتكرة، وعرض شيق وفق واقع عصري واقعي مقبول.

جاسم المطوع

مشكلات وحلول في حقل الدعوة

مشكلة: إحجام المرأة عن العمل الإسلامي

التعريف: إحجام غالبية النساء من الملتزمات في الولوج في تبليغ الدعوة عن طريق المؤسسات الدعوية، والاكتفاء بالعمل الفردي، وأحيانًا الاكتفاء بالتربية الذاتية فقط.

الأعراض:

۱- ضعف مؤسسات النساء الدعوية.

۲- ضعف الإنتاج.

3- الوقوع في كثير من الأخطاء.

٤- قلة المؤسسات النسائية الدعوية.

5- قلة المهتديات من النساء بتأثير المؤسسات النسائية.

الأسباب:

1- عدم وجود نضوج عند النساء الملتزمات.

2- ارتباط قرار المرأة بولي أمرها.

3- إحساس المرأة بضعفها وارتباطها دائمًا بغيرها.

4- المحاذير الشرعية التي تحد من تحركات المرأة.

5- المحاذير الناشئة من العادات والتقاليد التي ليس لها أصل في الشرع.

6- عدم وجود الحوافز الدافعة للعمل.

7- عدم وجود النظام أو المؤسسات المهيئة للمرأة لدخول مجالات الدعوة.

8- عدم تفرغ الداعيات للعمل الإسلامي.

9- ممانعة الزوج.

١٠- كثرة التكاليف المرهقة، والتي لا تراعي جانب التفرغ للأطفال.

11- الخوف من انحراف الأطفال أو رسوبهم بالامتحان.

١٢- عمل المرأة يؤدي إلى نقص الوقت الممكن إعطاؤه للدعوة.

۱۳ - عدم ترتيب الأولويات.

الحل

۱- تنظيم الوقت بين البيت والعمل الدعوي.

٢- لا بد للإخوة الدعاة أن يستشعروا بأهمية تواجد زوجاتهم الداعيات في الحقل النسائي لصعوبة وصول الرجال إليه، والمرأة أقدر على مخاطبة مثيلاتها من النساء.

3- إيجاد جواذب وحوافز في المؤسسات الدعوية النسائية لجذب النساء إليها.

4- عدم إرهاق العاملات بالتكاليف الكثيرة لأن ذلك من شأنه تنفيرهن.

 5- مراعاة الظروف الخاصة للمرأة، وألا تعامل كما يعامل الرجال.

٦- طرح الأنشطة والقضايا التي تهم المرأة، وألا توضع هذه الأنشطة لفئة خاصة، بل يراعى فيها مخاطبة جميع المستويات.

7- اختيار الأوقات المناسبة.

8- وضع حضانات للأطفال حتى تستطيع المرأة أن تعطي من وقتها للعمل في المؤسسة.

9- استعمال موظفات للقيام بالأعمال الإدارية حتى يخف الضغط على الأخوات العاملات.

١٠- تربية كوادر جديدة شابة بصورة مستمرة.

۱۱- معالجة هذه القضية في المناهج التربوية للمؤسسة.

قطوف تربوية حول قصة الثلاثة والصخرة (٥ من ٦)

سبيل أصحاب الدعوات

د. حمدی شعیب

بريدة- القصيم- السعودية

وضوح... وتبعات: كم هي عظيمة تلك النعمة التي امتن بها الله- سبحانه- على عبده المسلم، أن هداه إلى هذا المنهج الفريد.

وكم كان من الوضوح الفريد أن يبين له- سبحانه- المنعطفات التي ستواجهه أثناء رحتله على هذه البسيطة مع هذا المنهج.

ففي البداية أعلن- سبحانه- وعلى الملأ وفي مهرجان علوي كريم اختيار الإنسان للخلافة ولإعمار الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة:30).

ثم بين له أنه وإن كان قد قبل وعن رضى منه، حمل أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة لحمل التكاليف، وهي ما أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72).

فإن لطبيعة خلقه ثم ولرضائه وعن طواعية لحمل التكاليف شروط وتبعات في الدنيا، ثم في الآخرة عندما يقف بين يدي ربه، فأما التي في الآخرة، فإن الله- عز وجل- لن يتركه دون مساءلة ودون حساب، ودون جزاء: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامه:36).

وأما التي هي في الدنيا، فطبيعة خلقه أنه مخلوق ليبتلى: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ نَّبۡتَلِیهِ﴾ (الإنسان:2).

وأن صنو إيمانه ورديفه هو اختبار جديته ودرجة صدقه ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت:2-3).

إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنماهو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، إن الإيمان أمانة الله في الأرض، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، والفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية، والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله مغيب عن علم البشر، فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم، لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم»([1]).

الحياة رحلة ابتلائية

 إذن فحياة الإنسان هي رحلة ابتلاء تنتهي بالحساب والجزاء، وطبيعة هذه الرحلة الابتلائية ضرورية للفرد من حيث تمحيصه، واختبار درجة صدقه، وتقبله للتكاليف التي رضى بحملها أولًا، وضرورية من أجل قيام الأمة الخيرة القادرة على حمل أعباء التمكين في الأرض، والتي تنشأ كنتيجة لحركة الصراع البشري الفطرية، فهي إذن من لوازم الخلافة والإعمار في الأرض التي يوضحها قانون الصراع البشري، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:251).

وتتضح معالم هذه السنة الإلهية وتبرز في سير أصحاب الرسالات وأرباب المبادئ، وهذا نتيجة لقوة تميزهم بأفكارهم، وعدم رضاهم بحالة التميع والذوبان في جهالة الجاهلين، وأن تميزهم وتميز فكرتهم عن إلف وعادات وعرف المجتمع هو الذي يفجر الصراع، حتى وإن حاولوا منعه أو تجنبه، وهذا ما لخصه المثنى بن حارثة في جوابه في أول لقاء عرض فيه- صلى الله عليه وسلم- الإسلام عليه ومعه زعماء بني شيبان: «وإني لأرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك»([2]).

وكذلك ما ورد في حديث «ورقة بن نوفل» عندما أتت إليه خديجة- رضوان الله عليها- ومعها- صلى الله عليه وسلم- ليستفسرا عما رآه- صلى الله عليه وسلم- فقال لهما : «لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي».

وهذا ما يدفع الناس لنسيان ماضي الداعية، فيدفعهم الغضب، ثم الخوف على وضعهم لاتهام صاحب المبادئ بما ليس فيه، لذا فقناعة الباطل بالصادق الأمين- صلى الله عليه وسلم- في الماضي لم تمنع وصفهمإياه بالكذب والسحر.

وهذا نفسه ما حدث لأخيه صالح- عليهالسلام- عندما أعلن قومه خيبة أملهم فيه، وقد كان لهم رجاء فيه لعقله وحسن تدبيره: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾(هود:62).

 وقصة جحود يهود لسيرة «عبد الله بن سلام»- رضي الله عنه- قبل إسلامه عندما كان سيدًا وأحد أكبر أحبارهم، ثم معاداتهم له بعد هدايته مشهورة.

وفي قصة «جريج العابد» نجد أن الابتلاء والفتنة الشديدة مع البغي قد أتته وهو في عزلته، فالعزلة لم تمنع مدبري المكائد حسدًا واستنكارًا لما يقوم به جريج من عبادات تختلف عن إلف وعادات الناس، والعزلة لم تكن وسيلة نجاة، فالعداوة للفكرة قبل الشخص([3]).

 أنواع الابتلاء

وهذا الابتلاء نوعان:

الأول: الابتلاء الفردي، وهو من الله- تعالى- وحده أن يكون أثرًا للصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقد يبتلي- سبحانه- عبده المؤمن بفقد عزيز عليه، أو بفقد جزء من جسمه، أو بمرض عضال، أو بذهاب أمواله، أو بمفارقة الوطن والأهل والأحباب، ومن حكمه وفوائده تكفير السيئات، ورفع المنزلة عنده- سبحانه- والمكافأة في الدنيا تعويضًا على ما فقد، وإخلاص النفوس لله، وإظهار الناس على حقيقتهم، والتحفيز على التصبر والاقتداء بالصابرين، ومن أمثلته: محنة أيوب- عليه السلام-.. ومحنة ذبح إسماعيل، وما تعرض له الحبيب المحبوب- صلى الله عليه وسلم- من يتم وفقد لأقاربه كأبي طالب.

الثاني: الابتلاء الجماعي، ويكون نتيجة للصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهو ضروري لكل من يمحض نفسه داعية إلى الله، وله صور كثيرة منها: الحملات الإعلامية كالاستهزاء والسخرية والاتهامات، والتهديد بالأذى، والإغراء بالجاه والمال والسلطان، والسجن والنفي والتشريد، ومصادرةالأموال والتصفية الجسدية، ومن فوائده وحكمه بالنسبة للفرد ازدياد الناحية الروحية، وتكفير السيئات وإخلاص النفوس لله، وزيادة الثقة بنصر الله، ووسيلة لدخول الجنة، وإقامة الحجة على الأدعياء، أما بالنسبة للصف المسلم والجماعة المسلمة فالابتلاء ينقي الصف، ويعمق المحبة داخله، ويغيظ الأعداء بثبات الخلصاء، ويقوي الصف، ومن أمثلته: محن يوسف- عليه السلام- وأصحاب الأخدود، ومصيبة أحد»([4]).

وهنالك الفتنة الكبرى التي تحدث عنها الشهيد سيد قطب- رحمه الله- في قوله سبحانه: ﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰۖ وَإِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾ (الأنبياء:35)، وهي الفتنة المغفول عنها، وتأتي عندما ينسى الفرد أن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر، إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير، كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح، إن الشدة تستحث الهمم والمقاومة وتعبئ القوى، أما الرخاء فيرخيالأعصاب، وينيم المقاومة، ويخدر القوى، إن اليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر، والصلة بالله- سبحانه- في الحالين هي وحدها الضمان»([5]).

وأكبر مثال أورده الحبيب- صلى الله عليه وسلم- لهذه الفتنة الكبرى هي قصة ابتلاء كعب بن مالك- رضي الله عنه- فالراحة والدعة والتسويف كانت من عوامل قعوده عن غزوة العسرة، حتى كان ممن تاب الله عليهملصدقهم([6])، وفى قصة الأبرص والأقرع والأعمى الذين ابتلوا بالمال والصحة، مثال فريد لفتنة السراءوكيفية الخروج منها([7]).

وحدة الفهم

وعلى مثل هذا النهج التربوي كان واجبًا على الدعاة أن تجمعهم وحدة الفهم، ووحدة الرؤى لسنن الله في الخلق وفي الدعاة والدعوات، ولمتطلبات رحلتهم الحياتية الابتلائية، ولهم في سيرته- صلى الله عليه وسلم- أعظم أسوة وأفضل قدوة، وتأمل رده المستغرب في أول الطريق عندما قال لورقة بن نوفل: «أو مخرجي هم»؟! ثم تأمل موقفه بعد المضي قدمًا في طريق الدعوة حينما غضب من خباب بن الأرت- رضي الله عنه- لاستعجاله: شكونا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط من الحديد ما دونلحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»([8])، وفي قصة «الغلام والراهب» زاد آخر عندما فهم الراهب طريق الدعوات؛ فنصح الغلام: «أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ماأرى، وإنك ستبتلى»([9]).

وفي قصة «الثلاثة والصخرة» كان من حكم وفوائد ما تعرضوا له من محنة أنها قدمت دليلًا على ضرورة الابتلاء في الطريق، وأنها أظهرت معادنهم الطيبة وصفاتهم الجمة، وأنها جمعت كل قواهم البدنية والدعائية في عمل جماعي منظم ومنضبط ومتوافق ومبارك، تسبب في انفراج الصخرة ونجاتهم، وأنها أعطتهم- وأعطت الدعاة من بعدهم- الدليل المادي على أهمية العمل المخلص الخفي، وأنها أعطت دليلًا على أهمية النية في العمل الصالح، وأنها ركزت على أهمية الدعاء عند الشدة، وصدق اللجوء إليه سبحانه.

لهذا كان على أبناء مسيرة الدعوة التجديدية الحديثة أن يفهموا أن التمكين لا يأتي إلا بعد الابتلاء كما قال الشافعي- رضي الله عنه- لهذا فإن الحركة الإسلامية تعتبر الابتلاء والمحن في الدعوات سنة من السنن الربانية التي لا تتخلف، وهي سنة عامة، لا يستثنى منهامكلف، وأن الحياة الدنيا هي دار ابتلاء، وأن الآخرة هي دار الجزاء، والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ومقابلة ذلك الشكر والصبر، والمطلوب من الدعاة أن يصبروا، وعليهم أن يستمروا في القيام بواجبهم حتى يحققوا ما يريدون، أو يرزقهم الله الشهادة، وأن أخطر ما تصاب به الدعوات في مرحلة الابتلاء وجودالمتسرعين والمتهورين وعدم المنضبطين، والعاقبة ستكون بإذن الله للمؤمنين، لكن بعد جهاد ومحن، وهذه هي طبيعة الطريق التي تتلخص في أربع كلمات هي: دعوة- ابتلاء- صبر- نصر مؤزر»([10]).

على درب الفهم

ولقد كان الإمام المجدد البنا- رحمه الله- يربي أتباعه على هذا الفهم الراقي للطريق، ومن أقواله التي صدقتها أحداث التاريخ : «أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقى منهم خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات»([11]).

ومن العجيب أن أتباعه أخذوا يراجعون  هذه الكلمات البليغة، وهم على ثرى فلسطين، ولم تزل أيديهم مخضبة بدماء یهود، مسطرين حروفًا من نور، شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، ثم تأتيهم وهم على حالهم الفذ هذا أنباء طعنة غادرة في الظهر أقدمت عليها حكومة النقراشي- وبتوجيه خارجي كعادة سنن التاريخ- بحل جماعتهم المباركة في 8/12/1948م([12]) .

ومن مفارقات القدر الطيبة أن تبدأ الإنتفاضة الفلسطينية المباركة في8/12/1987م، وكل هذا يعطي الداعية دفعة همة لفهم جديد لطريق دعوته، ودفعة غضب لمفاصلة المتعجلين، ثم دفعة أمل تدعوه ليصغي لكلمات الشهيد سيد قطب من وراء السنين تحدد له خيارين لا ثالث لهما، لينهي بأحدهما رحلته الحياتية الابتلائية:

فإما إلى النصر فوق الأنام *** وإما إلى الله في الخالدين

الهوامش

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 20/2720 بتصرف.

(2) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب 134.

(3)  رياض الصالحين، باب فضل ضعفة المسلمين النووي7/259، متفق عليه.

(4) الابتلاء والمحن في الدعوات: د. محمد عبد القادر أبو فارس 20-140 بتصرف شديد.

(5) في ظلال القرآن: سيد قطب 17/2377.

(6) رياض الصالحين- باب التوبة: النووي 9/21 متفق عليه.

(7) رياض الصالحين- باب المراقبة: النووي 6/56 متفق عليه.

(8) رواه البخاري.

(9) رواه مسلم.

(10) منهج الحركة الإسلامية في التغيير، د. محمد عبد القادر أبو فارس 67 – 68 بتصرف.

(11) مجموعة الرسائل- بين الأمس واليوم 108 – 109.

(12) الإخوان المسلمون في حرب فلسطين: كامل الشريف 138.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

المجتمع التربوي: (1082)

نشر في العدد 1082

13

الثلاثاء 04-يناير-1994

المجتمع التربوي- العدد 1076

نشر في العدد 1076

16

الثلاثاء 23-نوفمبر-1993