; المستقطبون الناجحون - الجزء الثاني | مجلة المجتمع

العنوان المستقطبون الناجحون - الجزء الثاني

الكاتب عبد الرحمن جميعان

تاريخ النشر الثلاثاء 21-ديسمبر-1982

مشاهدات 34

نشر في العدد 600

نشر في الصفحة 36

الثلاثاء 21-ديسمبر-1982

الصفة الثالثة: المخطط المتقن والمنفذ البارع:

‏وهذه صفة مكملة ومرادفة لسابقتها، فإن الحركة الحرة دون قيود تؤدي إلى الطيش أو التهور، ‏وإنما الذي يوجه الحركة هو التخطيط المتقن، فلا بد إذن أن تحد الحركة بحدود موزونة مرسومة معلومة بتخطيط جماعي وفردي، فإن التخطيط الجماعي أقل ما فيه أنه أمان من الفوضى ومجال لاختصار الطريق، والتخطيط الفردي أمان لعدم طيش الحركة اليومية.

ولقد كان سلفنا الصالح يفهمون التخطيط ويعونه وعيًا تامًا فما حادثة الهجرة إلا مجال واسع في عملية التخطيط يدرك ذلك من درس وصاحب السيرة، بل ما حروب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وخالد إلا تخطيط شمولي، والخليفة الرشيد قد مدح رجلًا بالتروي قائلًا له: «ومن لم يُعجل قل خطؤه» (‎١١‏).. وتدبر معنى «من لم يُعجل» تجد أنه إنسان يفكر فيما سيعمل حتى يتفادى الأخطاء، وهذا هو معنى التخطيط أن الداعية يفكر بتروي في خطواته القادمة ليأمن العجلة التي توقعه في الخطأ، وهي وصية أبي جعفر المنصور حين كان يحذر أحد أتباعه «لا تبرهن أمرًا حتى تفكر فيه» (12)..‏ أي لا تقدم على أمر حتى تعرف نتائجه المتوقعة بتفكير طويل وتأمل استقرائي؛ لأن التفكير مرآة الداعية تريه قبحه وحسنه. (13) 

نعم فالتفكير في الدعوة ودراسة الحسابات المنطقية تُري الداعية أخطاء حركته السابقة أو صوابها، وماذا عليه أن يعمل في خطوته اللاحقة.

‏ونقول: أتستطيع دعوة تريد استقطاب الجمهور لها أن تستثمر هذا الاستقطاب دون خطة متنوعة الأغراض والأساليب؟ فتكون كأولئك الذين يتراكضون في الصحراء ناكسو رؤوسهم ليأمنوا حفر الطريق وإذا هم يرتطمون بجذع شجرة لم يحسبوا له حسابًا.. فلا بد من الحركة المخطوطة المتوازنة. 

لنرى خطواتنا السالفة وأخطائها، وخطواتنا اللاحقة وواجباتها، ولكي نحدد موضع قدمنا وما نريد أن نعمل؟

  • غياب التخطيط

‏والبعض قد يستثقل هذا العبء وهذا ‏التخطيط، ذلك أن الحركات الإسلامية مع ‏الأسف لم تستطع أن تبني قائدًا يعرف كيف يخطط وكيف يقود؟ وإنما بنت دُعاة يسيرون على البركة الإلهية، نعم فلم نسمع هذه الكلمة تدور على ألسن القيادات، بل لم نرها في كتاب مقروء، فكانت النتيجة أن استثقل البعض عملية التخطيط الفردي، حتى التخطيط الفردي، والبعض لا يعرف كيف يبدأ في تخطيطه.

 إن الأوان قد حان ليرفع الدعاة رؤوسهم ويروا مستقبلهم ويناقشوا ويشاركوا ويخططوا، وليس هذا تطاولًا ولا مدعاة لفتح أبواب الفتن ولكنها الحقيقة التي يجب أن تُقال. 

إن نتاج تربية الحركة الإسلامية القديمة لم تنتج إلا شخصية واحدة فقط فلابد أن تتنوع الجهود التربوية لتخرج لنا السياسي النقابي الفقيه الإداري.. المخطط ولا يمكن إلا بالتخطيط الشامل العام وإلا بالمشاركة الفعالة لعموم المربين.

  • الصفة الرابعة: اليقظة واقتناص الفرص:

‏ومعنى هذه الصفة أن يكون الداعية يقظًا فطنًا، بحيث لا يترك شاردة ‏ولا واردة إلا استفاد ‏منها لمصلحة الدعوة، يقتدي بذلك بأفضل الدعاة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو أبو بكر الصديق «رضي ‏الله عنه» فإن قومه كانوا «يأتونه ويألفونه ‏لغير واحد من الأمر» فلم يتركهم يذهبون ويأتون دون أن يستفيد من هذا الوضع، بل قام «يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه» (13).

‏ويعظك داعية من القرن السادس وهو ‏يهمس في أذنك عبر القرون والأجيال كأنه يحادثك الساعة، يا داعية اليوم كن يقظًا عند اجتماعك بالناس، وهذا يتطلب منك أن «لا تخالد الناس مع العمي مع الجهل مع الغفلة والنوم» لتصبح ساذجًا بينهم فتمر عليك الفرصة تلو الفرصة وأنت فاغر فاك، ولا تعرف كيف ‏تجمع وتنشر كلمة الخير بل عليك أن «تخالطهم بالبصيرة والعلم واليقظة» (14)، لتختار منهم وتنقي وتضع الكلمة في مكانها المناسب، ثم لتربي دعاة ينطلقون معك يعينونك على بلوغ ‏هدفك الأعلى لنصرة هذا الدين، فلا تكن أيها الداعية بليد الحس نائم العقل بل كن يقظًا. اجعل فكرك وذهنك يعملان دومًا، واعتبر بتجربة أولئك الدعاة الذي أضاعوا فرصتهم الثمينة بقصور فهمهم؛ ليقتطف الثمار غيرهم فتسلطوا أو أرهقوا وعذبوا، ولا زالت الدماء تسيل إلى اليوم.. فإما أنت أيها الداعية وإما الجاهلية المستبدة. ولا يجوز لك أن تتأخر عن فرصة مواتية فيها نصر للإسلام... لو بكلمة ‏واحدة!!!

  • الصفة الخامسة: التلطف والتدرج في دعوة العوام:

‏فإن نفوس البشر تألف الاعوجاج والتمرد خاصة وقد ظلت عليه سنوات طوال فإذا باشرتها بالإصلاح فإن ذلك يعتبر مصادمة لهم، بل عليك أن تتلطف وتتدرج وتعرف مداخل هذه النفوس. وإنما أنت في ذلك مقيد بقدر من الله محتوم، وهذه سنة قد سنها الله تبارك وتعالى في طريق دعوة الناس، فتقول عائشة: «أول ما أنزل من القرآن سورة المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا» (15).‏ فهي الحكمة الإلهية، وليست بدعًا من القول وهو الفقه الأصيل والمعرفة الدقيقة بالنفوس التي تبرر التدرج والتلطف، فأنت أيها الداعية يجب أن تعلم أنك «لا تتعامل مع أحجار صلدة ولا مع أصحاب طهر ملائكي. 

أنت تعيش وتتعامل مع نفس إنسانية فيها الغرائز والشهوات، فإن لم تعرف المداخل والأبواب التي تدخل منها إلى النفوس فإن الفشل سيصيبك حتمًا، وإذا غالطت نفسك وتجاهلت هذه الغرائز والنزعات فلن يضير وجودها شيء وأنت تضار» (16). نعم لأن الغرائز والشهوات خلقت وستبقى، فلا تتعجل الطريق بل تلطف وتحايل وحاول مرة ومرة إلى أن تعرف كيف تدخل إلى الناس. حببهم إلى المباح والحلال، ثم انقلهم من الشر إلى الشر الذي أهون منه أو من شر إلى مباح دنيوي وهكذا، فهي كلمة عمر بن عبد العزيز الذي يقول فيها: «والله لا أستطيع أن أخرج لهم شيئًا من أمر الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم خوفًا من أن ينحرف على من لا طاقة لي به» (‎١٧)‏.

فافهم وتدبر ولا تباشر وتصادم الفطر، ويظن البعض أن في ذلك مداهنة أو نفاقًا أو‏ تعطيلًا للشرع نقول لا وإنما هي السنة الفعلية للنبي «صلى الله عليه وسلم» فإنه كان يراعي النفسيات ويراعي المصالح والمفاسد وما توقفه عن هدم الكعبة، أو قتله لعبد الله بن أبي، أو غيرها من الأمور إلا مراعاة لمصالح في الدعوة، لأن النفوس قد تنفر من هدم الكعبة أو من قتل شريف من أشراف العرب... فلا عليك يا أخي من المستعجل المتهور بل عليك أن تراعي التدرج والأولويات والترتيب، وارع المصالح والمفاسد وقس في الموازين يسلم «منطقك» وتتحرر من «العوائق» المحيطة بك، ليتحدد «مسارك» السليم.

  • الصفة السادسة: القلب الملذوع: 

فإن الداعية الذي لا يلتذع قلبه ولا يحترق لآلام الأمة، وما دالت إليه دول الإسلام لا خير فيه ولن ترجو منه الدعوة شيئًا، أما ذاك الداعية الذي كوته الآلام، وأحرقته اللذعات ذلك الذي يعد نفسه مسؤولًا عن الأمة هو الذي يستطيع أن يعطي دمه وماله للدعوة، وإنما به وبأمثاله ينتصر الإسلام اليوم، ولقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يكاد ينفطر ويذهب نفسه حسرات لما يرى من كفر الكافرين حتى وصل به الأمر أن الله وبخه قائلًا: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ و ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًاو ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ. وإلى كثير من الآيات ‏التي تؤكد أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يعتصر قلبه الشريف وهو يرى الكافرين يتراكضون ويتسابقون إلى النار والجنة أقرب إليهم من شراك نعلهم.

‏هكذا الداعية، إنه صاحب قلب ملذوع قد اكتوى بالآلام، آلام جسام عظام، فهو يري أن شرع الله مُضيع، ويرى إخوانه يتدلون من الحبال، ويرى تسببًا في كثرة الصالحين، بل ويرى الدعاة على غير المستوى المطلوب، فإذا أحس الداعية في كل ذلك لا بد أن حرقة قلبه ستحركه لتجميع واسع شامل؛ لأن الدعوة ستختلط في دمه وتكون أساس تفكيره وميزان حياته عند ذلك سيتقدم إلى الناس، والناس لا يستطيعون أن يردوه لأن «شخصية الداعية تكتسب من صدق دعوته قوة على قوة» فلا «يستطيع أحد أن يقاوم صاحب هذه الدعوة بالحجة والبرهان» (18). وانظر إلى أي من اكتوى قلبه خوفًا على هذه الأمة، فعند مقتل الخطاب «رضي الله عنه»: كأن ابن عباس رأى جزعه، فقال له عمر: وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك (19).

‏هكذا إنه الجزع والخوف على هذه الأمة لا على النفس، بل على هذا الجموع الذي يصاحبه الفرد وليست هذه اللذعات أمور مكتسبة كلا بل إنها أمور معاناة يومية يحس فيها صاحب القلب الحي ولا أتصور داعية لا يتحرك قلبه عند سماعه هذه الآلام. فالبعض يترجم هذه الآلام إلى أمور سلبية أما أنت يا أيها الداعية فلتكن لذعة قلبك دفعة إلى الأمام لتجمع وتنقي وتربي وتخوض غمار هذه المعارك اليومية.

  • الصفة السابعة: الخبرة قديمة التواجد:

‏وتعني بها الخبرة المستمدة من تجريب الدعاة بكثرة مخالطتهم للناس والمستمدة من الدراسة للعلوم الإنسانية، فمن أراد أن يجمع الناس حول فكرته لا بد أن تكون له خبرة بفنون التجميع وخبرة في نفسيات البشر؛ لأنه كما نعلم أن ليس كل النفسيات يصلح معهم أسلوب واحد، بل إن هناك نفسيات لا يصلح معها إلا أسلوب معين وطريق طويل، فعلى الدعاة أن يفقهوا ذلك، فإن لكل نفسية مدخلًا خاصًا لها؛ لأن في الناس من هو معقد من جراء حادثة وقعت له ورآها، أو من يائس من عمل الدعاة. 

أو من صدمته الحياة بالفشل في أول خطواته ومن أقعدته مشاكل الحياة المنزلية وحيدًا بعيدًا ‏عن المجتمع، ومن هو تحث كنفي أبوين لا ‏يعرفان من الدين إلا اسمه. ومن شب ناضجًا ‏يافعًا وجد الاحترام من الجميع، أو من نشأ يتيمًا وهكذا.. فكل هؤلاء لهم مدخل واحد، كلا يا أخي بل لا بد أن تعرف أن لكل نفسية مدخلًا، فمنهم من يغيره الكلام المباشر، ومنهم من تسير معه شهورًا ولا تستطيع أن تصارحه بما يعتلج في صدرك وبعضهم هو الذي يطالبك بالكلام، وهكذا فلا بد أن تدرس وتفهم هذه النفوس حتى تعرف كيف تدخل ومن ثم تتفنن في هذه المداخل.

‏ومما يعين الداعية على هذه المعرفة وذاك التفنن هو الاستفادة من دراسة العلوم النفسية العالية التي قامت على حقائق علمية ودراسات تجريبية طويلة، فإن الفكر العالمي وللأسف الشديد لم يحاول الدعاة صياغته والاستفادة منه في الدعوة وذاك عيب في المؤلفين، وعيب في الداعية أنه لا يفتش ولا ينقب بين كتب العلوم الأخرى ليستفيد ويفيد، فإن هذه العلوم قد توفر على الداعية وقتًا، وتختصر له الطريق، وتخطوه خطوات إلى الأمام.. وقد يعيب البعض أن هذه الكتب قد كتبت بأيدي غير المسلمين، نقول نعم، والعلم ليس حجرًا على المسلمين فحسب، ثم إن هذه الكتب قد ابتنى أكثرها على تجارب وحقائق علمية لا يختلف عليها المسلم والكافر، أما ما يخالف الإسلام فنحن في عافية منه وقد أعطانا الله خيرًا منه، وإنما كلًا منا ينصب على ما فيه فائدة للداعية، وما لا فيه مخالفة للإسلام، فبهذين الطريقين يستطيع الداعية تكوين خلفية جيدة للنفسيات التي سيمر عليها، وباستنطاق الدعاة القدماء تشكيل طريق ثالث لهذا العلم والخبرة، فبهذه الموارد الثلاث: بالعيش مع الناس، والقراءة المستمرة في العلوم، وبالاستنطاق المكتوب تتكون تلك العقلية التربوية التي تستطيع التغلغل إلى النفس دونما مصادمة أو تناقض يشكلان خطرًا.

يتبع

 

المصادر:

(11) عيون الأخبار 1/18

(12) ‏تاريخ الخلفاء‎/ 264

(13) ‏سيرة ابن هشام 1/250

(14) ‏الفتح الرباني/ 20

(15) ‏بخاري‎ 6/228

(16) ‏المنطلق ص 268

(17) أصول الدعوة/466

(18) ‏الإخوان أحداث/ 55

(19) ‏بخاري‎ 5/16

(20) ‏تاريخ بغداد ‎13/9

الرابط المختصر :