العنوان المشاركة.. قاعدة الإسلام الاقتصادية
الكاتب يوسف كمال محمد
تاريخ النشر الثلاثاء 19-يناير-1993
مشاهدات 14
نشر في العدد 1034
نشر في الصفحة 34
الثلاثاء 19-يناير-1993
في الحياة الاقتصادية تميز بين نوعين من الاستثمار، نوع يقوم بالاستثمار المباشر- من السلع والخدمات كالمستثمر- صاحب المشروع أو الشركة بتمويل من ماله الخاص، ويتولى الإشراف والإدارة مباشرة، أو بطريق غير مباشر عن طريق شراء الأسهم في الشركات المساهمة، ونوع آخر يوظف المال عن طريق الإقراض والاقتراض بطريق مباشر، كإقراض المصرف للأفراد والمؤسسات أو بطريق غير مباشر عن طريق شراء السندات والأذون والشهادات بأنواعها سواء كانت تخص شركات أو حكومات.
والعلاقة الأولى: حيازة لأصول حقيقية قائمة على العائد المتغير، وتتضمن مخاطرة في الاستثمار ومشاركة في العائد، والعلاقة الثانية: حيازة الأصول نقدية قائمة على ضمان رأس المال وتثبيت العائد، فالعلاقة الأولى تقوم على المخاطرة، أما الثانية فتقوم على الضمان.. كما أنه في سوق التمويل المعاصرة، يستحيل الفصل بين الاستثمار الإنتاجي، الذي يمثل تيارًا من السلع والخدمات والاستثمار المالي الذي يمثل مضاربة على أسعار الصرف والأوراق المالية والعقود، فالأول إضافة حقيقية للناتج القومي أما الثاني فهو كسب لفروق الأسعار غذاؤه التخمين بالغيب عن توقعات الأسعار وسعر الفائدة والتضخم.
وأسلوب المشاركة محدود نسبيا في كافة الدول بينما تنتشر مؤسسات التمويل التي تعمل في مجال الاتجار في الديون، وتطبعت عقليات الناس وسنت قوانين الحياة وتعارفت على هذا الأسلوب الأموال التي يقدمها العميل مضمونة ويحصل بها على عائد ثابت من خلال نظام الودائع بالمصارف أو شراء الأوراق من سوق النقد أو سوق رأس المال وكان تأثير هذا الأسلوب عميقًا في عقلية وسلوك الناس حيث فقدوا روح المخاطرة والاهتمام بنتائج استخدامات أموالهم والإشراف على سير أعمالهم. هذا الأسلوب في التعامل أصبح أمرًا واقعًا في الاقتصاد الغربي، كما أن مؤسسات الربا أصبحت حقيقة يصعب خلع تأثيرها من عقول المفكرين ورجال الأعمال ويعتبر «دراكر» «DRUCKER» الاقتصادي الأمريكي صاحب الفضل في إبراز مفهوم الاقتصاد الرمزي وهو يعني حركة رؤوس الأموال بما في ذلك تقلبات أسعار الفائدة وتدفقات الائتمان بينما يعني الاقتصاد الحقيقي حركة السلع والخدمات.
الديون والربا
إن أغلب المؤسسات النقدية في أمريكا تتعامل في أوراق الديون في كلا جانبي ميزانياتها أصولًا وخصوما، والأوراق الثانوية لها فئات أقل، ومدة أقل ومخاطرة أقل عن الأوراق الأولية والمؤسسات النقدية تقل ملاءمتها حيث تكون أصولها المملوكة جزءا من حجم الأعمال عادة تكون أقل من 10% ولهذا كان للدائنين استحقاق كبير على إيراداتها.
وحتى يتضح شذوذ ظاهرة علاقة الدين وتضخمها وانحسار علاقة المشاركة والمخاطرة نقارن بين السندات والشهادات والحسابات ذات الفائدة وهي علاقة افتراض مع الأسهم وهي القائمة على المخاطرة والعائد المتغير في أمريكا. والمقارنة تظهر في الجدول التالي:
الأدوات المالية الأولية لسوق رأس المال ديسمبر 1982 ببليون دولار | ||
الأوراق المالية الحكومية | فائدة | 885.3 |
الأوراق المالية للولايات والمحليات | فائدة | 450.5 |
سندات الشركات | فائدة | 567.7 |
الرهونات | فائدة | 1654.4 |
أسهم الشركات | مشاركة | 1861.1 |
أضف إلى هذا الأدوات المالية الثانوية وهي كلها بفائدة | ||
أذونات الخزانة | 312 | |
شهادات الإيداع | 260 | |
أوراق مقبولة من البنوك | 75 | |
أوراق مالية تجارية | 170 | |
أسواق اليورو دولار تقديري سنة 1980 | 500 | |
قروض البنوك التجارية | 1042.3 | |
وبموجب هذه البيانات نجد بالمقارنة بين الأسهم وبقية الأوراق المعتمدة على الفائدة مدى ضعف المخاطرة والمشاركة بالنسبة للاقتراض.
وفي تقدير سويزي وماجدوف- من رجال الاقتصاد الأمريكي- إن عدم استقرار الاقتصاد الأمريكي سببه أساسا هيكل من الدين الداخلي المتزايد منذ الستينات والمتصاعد بعد كساد منتصف السبعينات بمعدل يفوق معدل توسع الاقتصاد الحقيقي. ويشمل هذا الهيكل المالي الضخم ديون الحكومة والقطاع العائلي ورجال الأعمال ماليين وغير ماليين، والقطاع المالي بوصفه مقترضا قد ضاعف ديونه عشرين مرة في مدى عشرين عاما من ١٩٦٥ إلى ١٩٨٥ والحكومة ست مرات، والمستهلكين سبع مرات فأغرى الاقتراض الشراء الكماليات القطاع العائلي للفرق في الديون وقطاع الأعمال المنتج تضاعف إلى ما يقرب من ثماني مرات وأصبح يقترض لخدمة القروض التي تبلغ 50% من مجموع التدفق النقدي للشركات سنة ١٩٨٢ بينما كان لا يزيد في السبعينات عن 27% أما القطاع المالي فقد أصبح يقترض لنفسه ليضارب في أسواق المال وليلهب أسعار الأصول المالية.
تراكم السلبيات
إذن فعلاقة الربا في المعاوضات سببت تراكم السلبيات في الاقتصاد المعاصر سواء كان محليا أو عالميا ، فعلى أساس الربا طغت الصفقات المالية على الحقيقية وانحسرت الأسهم وتضخمت صكوك الديون وألقي هذا الموقف بسلبياته على الادخار والاستثمار وتوزيع الدخل وتخصيص الموارد، وانعكس في مضاعفات التضخم والأزمات وانتقل هذا الموقف إلى علاقات من المقامرة في أسواق المال ليعكس مؤامرات الطغمة لا توازن قوى العرض والطلب.
وكان الربا أهم عامل في تكوينها وتسريعها وعن طريق أسلوب الربا في سوق النقد والمضاربة في سوق المال نهبت موارد العالم الثالث ولف حول عنقه حبل الديون والمجاعة والحاجة.
يقول «موريس آليه» في كتابه من الانهيار إلى الازدهار «إنه لا يمكن بدون خطورة التقليل اليوم من اعتبار عدم الاستقرار الكامن بعمق في أحشاء الاقتصاد العالمي، فهذا الاقتصاد يقف اليوم فوق بركانين: الاستدانة الطائشة، والبطالة المفرطة، هذا وأن توازن الحاضر توازن قلق جدا أو غير مستقر، وكل خطأ في التخمين سيكون ذا أثر بالغ في إعاقة مستقبلنا والواقع أن معظم الصعوبات المالية إنما تنشأ من جهة عدم المعرفة الكلية بالشروط النقدية والمالية لتشغيل كفء وعادل لاقتصاد السوق ومن جهة أخرى من بنية غير ملائمة للمؤسسات المصرفية والأسواق المالية لتذليل هذه الصعوبات ولكي لا نجد أنفسنا في المستقبل في وضع مماثل لوضعنا في هذه الأيام ولتأمين استقرار الاقتصاد وكفاءته وعدالة توزيع الدخول لا بد من إصلاح جذري للمؤسسات النقدية والمالية وللأسف لا أحد يتكلم عن ذلك!».
ومن هنا يظهر أهمية استدعاء الإسلام للإنقاذ، فالإسلام يقيم قاعدته الاقتصادية على المشاركة ويحقق على أساسها علاقات قائمة على الغُنم بالغُرم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «الخراج بالضمان» سنن ابن ماجه، والخراج معناه «الغلة»، وقال عليه الصلاة والسلام «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنمه وعليه غُرمه» رواه الدار قطني والحاكم «فمن ذلك معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر هو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر رضى الله عنه فعن ابن عمر «عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خبير بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع» صحيح مسلم..
فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون، والخلفاء الراشدون وأكابر العلماء والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر، لم يكن إجماع أعظم من هذا بل إن كان في الدنيا إجماع نهر هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعو على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده» انظر القواعد النورانية الفقهية لابن تيمية الذي يقول أيضا في كتابه:
«فإن التصرفات العدلية جنسان: مفاوضات ومشاركات» فالمفاوضات كالبيع والإجارة والمشاركات: شركة الأملاك وشركة العقد ودخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال، واشتراك الناس في المباحات كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات وما يحيي به من الموت أو يوجد من المباحات واشتراك الورثة في الميراث واشتراك الموصَى لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف، واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن داود عليه السلام:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ (24﴾ (ص: 24)
والتصرفات الأخرى هي الفضيلة كالقرض والعارية والهبة والوصية، وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة ليس من جنس المعارضة المحضة.. فإنها عين تنمو بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير... والمضاربة جوزها الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم» انتهى كلام الإمام ابن تيمية.
العمل هو الأساس
إن الإنسان لم يخلق شيئا، لا أرضا ولا خامات ولا طاقة ولكنه يضيف إليها منافع شكلية، فيصنعها، أو مكانية فينقلها، أو زمانية فيخزنها، ولهذا فإن توزيع الدخل يقوم ابتداء على العمل سواء كان ذلك عملاً حيا ممثلًا في يد أو عقل، أو عملًا مدخرا ممثلًا في رأس المال المدخر يقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (النجم: 39)، فعوائد عوامل الإنتاج في الإسلام هي:
- العامل ويحصل على أجر أو جعالة ويمكنه أن يشارك ويحصل على ربح.
- رأس المال العيني ويحصل على إيجار مقابل منفعته، ويمكنه أن يشارك ويحصل على الربح.
- رأس المال النقدي ولا يباح له إلا المشاركة سواء كان نقودا بالخلقة أو نقودا بالاصطلاح ولهذا حرم ربا الدين وأيضا ربا البيوع.
ولهذا يقسم الفقهاء المال إلى نقود وعروض أو أثمان وعروض من حيث المقصد من طلب كل منهما.
فالدراهم والدنانير مقصود منها أولاً المعاملة لا الانتفاع، وبين العروض التي المقصود منها الانتفاع بها لا المعاملة وأعني بالمعاملة كونها ثمنا» انظر بداية المجتهد لابن رشد.. حتى الذهب والفضة إذا قصد بهما الانتفاع تغير حكم الزكاة فيهما عما إذا استخدما للمعاملة.. ففي زكاة الحلى اختلفوا والسبب في خلافهم تردد شبهة بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء فمن شبهه بالعروض التي مقصود منها المنفعة أولاً: قال ليس فيه زكاة بالتبر ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة أولاً: قال فيه زكاة. فالأموال ثلاثة: ثمن بكل حال وهو النقدان وبيع بكل حال كالنبات والدواب، والثالث ثمن من وجه وبيع من وجه كالمثليات».. انظر الدر المختار لابن عابدين.
والأخذ بأسلوب المشاركة تزداد معه الحركة الاقتصادية وتتوفر وسائل أكثر للعمل، وتتدفق طيبات أكثر للحياة الطيبة كما تنمو حوافز الاكتشاف والاختراع والتجديد من المخاطرة... ولهذا نجد الإسلام يضيق دائرة الاقتراض والتجارة بين النقود بيعا وشراء الأجل، ويحرم المكاسب المضمونة والمبيعات غير المملوكة ويعتبر المخاطرة هي أصل الاستثمار ومحرك التنمية.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالمصارف وبيوت التمويل الإسلامية وإسهامها في التصحيح الإسلامي للمسار الاقتصادي
نشر في العدد 385
10
الثلاثاء 07-فبراير-1978