العنوان النصر الأعظم
الكاتب د. نجيب الكيلاني
تاريخ النشر الثلاثاء 19-مايو-1970
مشاهدات 24
نشر في العدد 10
نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 19-مايو-1970
قصة إسلامية بقلم الدكتور: نجيب الكيلاني
لو أن الحقد الذي يعشش في قلب (عدي بن حاتم الطائي) وُزِّع على البوادي والحواضر في أنحاء الجزيرة العربية لما وسعته، ولو استطاع أن يؤلب العالم بأسره ضد (محمد) لما توانى لحظة واحدة. -آه- إن الحقيقة المرة الأليمة تصفعه دون رحمة، انتصر محمد، فتحت له (مكة) أبوابها، استسلمت (هوازن) بعد معركة ضارية، قبائل العرب تتساقط، وتذعن لسلطان الدين الجديد، الإسلام يبدو كقوة خارقة لا تقهر.
ترى ما السر في ذلك؟؟ أين تكمن القوة؟؟ أهي في استهانة الرجال بالموت، أم في توقهم للغلبة؟؟ أم رغبة في نيل السبايا والغنائم؟؟ لا.. لا.
هذه أو بعضها مظاهر ثانوية لأمر خطير، إنها المبادئ، وعدي بن حاتم يعرف ما هي المبادئ، يعرفها منذ أن اعتنق المسيحية، وقرأ بعضًا من تاريخها، وسمع الكثير عن مبادئها، وهو واحد من العرب القلائل الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام، وتذكر عدي بن حاتم تلك الساعات الرهيبة، التي أتي فيها علي بن أبي طالب موفدًا من قبل محمد، ليحطم الصنم الذي تعبده قبائل (طيئ)، إنه يوم لا يُنسى، لا من أجل الصنم الذي تحطّم، فعدي بن حاتم يحتقر الأصنام وعبادتها وعبدتها، ولكن من أجل المعركة التي خسرها قومه، وسيق كثير منهم أسارى وسبايا، وبينهم أخته، ترى كيف حالها الآن؟ أهكذا تساق ابنة (حاتم الطائي)، سيد العرب وأعلاهم ذكرًا، وأشرفهم كرمًا وأريحية، تساق مع السبايا؟ وما مصير عدي نفسه إذا بقي في هذه الأرض؟ الأمر واضح غاية الوضوح، إما أن يقتل في خضم هذا الطوفان الذي لا يرحم، أو يساق أسيرا کأخته، وحتى لو تركه المسلمون فسيبقى منعزلًا بعقيدته، عاجزًا عن تحدي القوى الجديدة، مستشعرًا معاني اليأس والمرارة والانهزام، وإما أن يعتنق الإسلام وهذا مستحيل.
ودلفت زوجته شاحبة الوجه، ترتسم على وجهها علامات الحيرة، وقالت في أدب بالغ وقلق:
- ألا تعتقد أن الرجل على حق؟
قهقه في عصبية، ثم جمدت ملامحه، وهتف:
- (الآن الهزيمة قد حاقت بنا، وأصبح عدونا مالكًا لمصائرنا، نعود كالجبناء الأذلاء، ونقر بأنه على حق؟ مستحيل، ليس هذا من خلق عدي وأنت تعرفين من أنا؟).
همست في رقة:
- (لا أعني ذلك بالتأكيد، ولكن الأحداث عندما تتأزم، ويطل الخطر يكون ذلك مدعاة لإعادة التفكير بحزم وتعقل، دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى الجانبية).
قال عدي دون تردد:
- إن (عدي بن حاتم الطائي) لن تسوقه الأحداث رغم أنفه، أنا سيد ابن سید، ولن تزيدني الهزيمة إلا إصرارًا وعنادًا، هكذا أنا، والجميع يعرفون.
أدركت زوجته أنه يعاني أزمة كبرياء بالدرجة الأولى، وأن وقوع أخته في الأسر يملأ قلبه مزيدًا من التمرد والعناد، وسمعته يقول:
-كان أبي يملك الكثير، رفع اسم العرب عاليًا، أصبح الكرم الحاتمي مضرب الأمثال، ولن أضع هذا المجد العريض تحت النعال، وسأذهب إلى نصارى الشام، وأعود بجيش لجب يحيل الجزيرة إلى رقعة من النيران المشتعلة، عندئذ يعرفون من أنا؟
وأصدر عدي أوامره على الفور بأن تستعد زوجته وولده للرحيل، وأن يأخذ معه إبله وأمواله، وينطلق إلى الشمال، قاصدًا الشام، كان يشعر وهو يشق الفيافي والقفار أن يصنع لنفسه مجدًا كمجد أبيه، وأنه يتحدى نوازع الخوف والاستسلام، لم تكن تطرأ على ذهنه في تلك الأوقات القضية الحقيقية التي يدور من حولها الصراع، قضية الحق والباطل، والخير والشر، تحول إلى رجل دنيا لا يفكر بغير الكبرياء والكرامة والتحدي، لم يخطر بباله أنه ضحية أوهام بعيدة كل البعد عن القضية الكبرى الأصيلة.
وأفاق إلى نفسه على صوت زوجته وهي تقول:
- (ماذا تكره في محمد؟) صدمه السؤال لأول وهلة، يبدو أنه لم يطف على ذهنه من قبل، فهتف في عصبية:
- (إنني أكره من أشاء وأحب من أشاء، هذا حقي).
- (لكنك تحب العدل يا عدي بن حاتم).
- (العدل؟ ماذا تقصدين)؟؟
- (إذا كان محمد على حق فواجب عليك ألا تكرهه).
- (هذا منطق ظاهره الصدق، وباطنه الخداع، لماذا حمل محمد سیفه وحارب؟ لماذا يسوق الناس أسارى)؟
ابتلعت ريقها، وقالت في ثقة:
- (هل نسيت؟ لقد عذّبت قريش أنصاره، قتلت المؤمنين به، اعتدت على ابنته، دبّروا قتله، أخرجوه من بلده، حشدوا له اليهود والقبائل وخرجوا لسحقه، لماذا لم تغضب يا عدي من أجل هذا الانحراف إن كنت منصفًا حقًّا؟ لم يعتدِ محمد على أحد، أراد أن يقول كلمة الله للناس، فحاربوه ونفوه، وأقاموا حوله أسوارًا من الظلم والاضطهاد والكراهية فخرج ليزيل العوائق؛ ليصل بكلمة الله إلى الناس؛ خرج ليفتح الطريق إلى الحرية والحب والنور لمن شاء، وأخذ بعض المجرمين بما أجرموا، وعفا عن الكثيرين حتى نصيبه في الغنائم وزّعه على أعداء الأمس).
صرخ عدي مهتاجًا:
-(إن فيك وقاحة وسوء أدب، أغلقي فمك يا امرأة).
الحقيقة أن كلمات زوجته أدارت رأسه، جرته على الرغم منه إلى عاصفة مزمجرة من التفكير المضطرم، وأخذ يتذكر القصة من بدايتها، ماذا كان يقول محمد؟ ماذا عن دعوته إلى توحيد الله؟ إيمان محمد بعيسى والنبيين من قبل، القرآن وما فيه من تشريع وآداب وحكايات صادقة صائبة عن الأولين، نسق الحياة الذي يدعو إليه، سلوك محمد وسلوك رجاله، المعارك الطويلة التي خاضها نبي الله، الأيام المشهودة التي هزت الأرض هزًّا عنيفًا.
لكن عدي أخذ يضرب ناقته بعنف وقسوة، كي يصل إلى الشام في أقصر وقت ممكن وصورة أخته التي أخذوها ضمن السبايا تنتصب في خیاله كشاهد لا يدحض، كانت البناية التي حبست فيها السبايا بالقرب من باب مسجد الرسول، ومر بها النبي يومًا فقامت إليه أخت عدي بنت حاتم الطائي، وقالت:
- (یا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الرافد، فامنن عليّ مَنّ الله عليك).
وأعرض عنها النبي في بداية الأمر، حين علم أن رافدها أو المنفق عليها، هو عدي بن حاتم الفار من الله ورسوله، والذي لم يكن يخفي كراهيته وكيده للرسول خاصة والمسلمين عامة، والذي ذهب إلى الشام ليؤلب النصارى، ويفتح الطريق لفتن لا يعلم إلا الله مداها، لكن المرأة راجعت الرسول مرة أخرى، وأخذت تحدثه عن أبيها وكرمه الذي أعلى شأن العرب، وصار مضرب الأمثال في المروءة والنجدة.
ابتسم الرسول، وأمر بأن تكسى كسوة حسنة، وأن تزود بكل ما تحتاج إليه من مال وطعام وراحلة، وطلب أن تحمل فورًا إلى أخيها في بلاد الشام.
وعاش عدي فترة من الزمن وهو نهب لكثير من الانفعالات والمشاعر، أخذ يرقب ما يجري في بلاد الشام، يلتقي بالكهان والرهبان والقسس، ويرى كيف يعيش الناس وكيف يفكرون، غاص إلى الأعماق بفكره المشتعل، لم يعد يهنأ له نوم، أو يلذ له طعام، ضاقت الدنيا برغم سعتها وجمالها واطمئنانها، ومن آن لآخر يطن في رأسه ذلك السؤال الذي سألته امرأته ذات يوم (ماذا تكره في محمد؟)، وكثيرًا ما كان يشعر بشيء من الخزي، حتى كاد أن يعلن أن الفساد قد غلل فكره، وأعمى قلبه، لكنّ كبرياءه كان يتصدى له، فيهزم إرادة الخير فيه، وكثيرًا ما تراوده ذكرى أخته الأسيرة، فيغلي الدم في عروقه، وينسى أن محمدًا يعامل أعداءه بالمثل، وإنه أحن على الرجال والنساء والأطفال من الأم على وليدها.
وذهل عدي حينما رأى أخته تهبط عليه فجأة، ترتدي ثيابًا ثمينة، ويشرق وجهها بالحب والنور والسعادة، وأخذ يستمع لكل ما جرى لها وهو لا يكاد يصدق.
وفي اليوم التالي صحا عدي بن حاتم الطائي من نومه مبكرًا، ووجهه يتهلل بشرًا، وطاقة من النشاط البادي تدب في جسده كله، قالت زوجته وهي تراه على هذه الصورة الجديدة:
- (ماذا جرى؟)
- (لقد انتصرت)
- (ماذا تعني؟ هل سيزحف جيش من الشام إلى المدينة؟)
ابتسم ابتسامة رائقة لم ترها زوجته منذ سنين طويلة، وقال:
- (يقول محمد عن رب العزة، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته وأنا يا امرأة،قد وجدت الطريق، كانت حياتي يكتنفها الظلام والقلق والعناد، وفجأة أشرق النور في قلبي، لقد عرفت الطريق وليس في الدنيا نصر أعظم من هذا النصر).
وشرد بضع لحظات، ثم قال وكأنه يعانق حلمًا بديعًا فاتنًا:
- غدًا، عند مطلع الفجر، نشد الرحال إلى نبي الله، وفي الأرض الحبيبة نسكب دموع الندم والتوبة، ونعانق صاحب القلب الكبير، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم.
دكتور/ نجيب الكيلاني
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

