; الناموس (الحلقة الثانية) | مجلة المجتمع

العنوان الناموس (الحلقة الثانية)

الكاتب إبراهيم عاصي

تاريخ النشر الثلاثاء 26-يونيو-1979

مشاهدات 13

نشر في العدد 451

نشر في الصفحة 38

الثلاثاء 26-يونيو-1979

لاحظ الطبيب حماسة النجيب المتدفقة، وحفظه الأمين، ورغبته الجامحة في عرض نموذج خطابي آخر، فرد عليه مسايرًا:

- يبدو أنني في حاجة إلى مقطع آخر، مقطع صغير، ولكن من خطبة أخرى، فلعل الصورة تكتمل لدي عن دوافع المرض السيكولوجية، التي أنا بصدد استجماع عناصرها، وربما أكون قد اقتربت منها كثيرًا.

هش النجيب وبش لهذا الطلب الجديد، وتواضع للطبيب فسأله:

- أتختار الموضوع أنت أم أنا؟

- لا.. أنا طبعًا.

- تفضل واطلب.

- ليكن المقطع الآن من أحدث خطبه، من الخطبة «الأسمنتية».

ومرة ثانية، تنحنح النجيب.. أصلح من هيئة وقوفه.. قلص عضلات وجهه ويديه.. أخذ وضعية الجد الصارم.. جحظت عيناه.. انفتح فمه.. تخيل نفسه على باب إحدى المؤسسات الاستهلاكية حيث الجماهيرية متراصة متدافعة.. عمالًا، وفلاحين، وأبناء قرى، وأرامل يرتجفن من البرد.. و«دراويش» بسطاء.. وتصور النجيب نفسه أمامهم يرى ضجرهم وتململهم واحتقار الموظفين لهم!

وتوهم أنه يسمع الصخب والشتائم يتبادلونها فيما بينهم أو تنهال من الداخل عليهم، وأنه يشاهد التدافع، ويعاين المشاجرات والمعارك اليدوية واللسانية! وتخيل النجيب نفسه أنه هو الناموس تتلهف الجماهير لسماع خطابه فانفجر هادرًا:

«يا جماهير شعبنا ‎ العظيم: ما هذا التزاحم والصراخ؟ ما هذه الشتائم؟ ما هذا الهرج والمرج؟ أنسيتم أننا ما نزال في جوف المعركة، وأن معركتنا طويلة.. طويلة، وأن الوطن بحاجة إليكم.. إلى أصواتكم.. إلى‏ أعصابكم.. إلى‏ ألسنتكم؟!

ما رأيكم لو أن سائحًا أجنبيًّا مر الآن بقربكم؟ ألا يكون هذا بهدلة لكم؟! هذا إذا شاهدكم، فكيف لو أنه التقط صوركم؟!

يا خجلتاه! أمن أجل أكياس ورق فيها تراب مطحون أنتم تقتلون وتقتلون؟ يا ويحكم، أليس عندكم أعمال وواجبات؟ أليس وراءكم مشاغل ومسئوليات؟ تجاه ‎أمتكم‏ الأبية، ووطنكم الغالي المفدى، وأولادكم الأعزاء؟

فكيف طاوعتكم ضمائركم إذًا أن تتجاهلوا ذلك كله، وتحتشدوا هنا منذ طلوع الشمس؟ أذلك كله من أجل أكياس التراب المطحون؟! تبًّا لكم! تبًّا لكم! عودوا إلى قراكم.. عودوا إلى دكاكينكم.. ارجعوا إلى ورشاتكم وبيوتكم، واعلموا أنه ليس بالأسمنت وحده يحيا الإنسان.. ثقوا بنا..‏ ثقوا بهم، بمن فوقكم.. ثقوا بأنهم يسهرون من أجلكم وعلى راحتكم الليالي الطوال.. وأنهم يخططون ويدبرون، وأن اختفاء التراب المطحون ليس اعتباطًا، وإنما هو بحسبان!!

فإذا كثر الأسمنت كثر البناء.. وإذا كثر البناء كثرت البيوت.. وإذا‏ كثرت البيوت كثر الزواج.. وإذا كثر الزواج كثر النسل والأولاد الشرعيون..‏ ثم تضيق البيوت، وتصير أزمة سكن جديدة شديدة، وتصير أزمة غذاء.. ونحن دولة مواجهة كما تعلمون!! أفلا تفهمون‎؟!

عودوا.. عودوا إلى العراء.. إلى الأكواخ، وليسقط الأسمنت المسلح ولتحيا الخيام».

وهنا رفع الطبيب يده قائلًا: كفى..‏ كفى.. ومضى في تدوين المزيد من الملاحظات.

-4-

المحقق يبدو عليه الضيق الشديد. ترك مقعده خلف المكتب، وأخذ يذرع أرض الغرفة جيئة وذهابًا بخطوات عصبية!

أشعل سيجارة غليظة ومضى ينفث دخانها الأزرق،‏ النفاذ الرائحة، بنزق وكبرياء!

الناموس مقيد اليدين، مشدود الوثاق إلى أحد الجدران!! بعض اللفائف البيض تحيط برأسه! وجهه خارطة تنوعت فيها الألوان والأشكال! جزعه مكشوف وتظهر فيه قروح عميقة، وخطوط زرق. بعضها ينزل طولانيًّا، وبعضها الآخر يلتف عرضانيًّا!

اثنان من الصناديد الأشداء المسلحين بقضبان الخيزران والسياط يقفان إلى جواره.. أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله!

لا شيء غير الصمت في الغرفة الأرضية السردابية.. هذا الصمت يزيد من رهبته خطوات المحقق الرتيبة، ذي المداس الثقيل. ويضاعف من هوله زفرات الناموس ينفثها كشخير المذبوح عميقة كليلة، حينًا بعد حين.

وفجأة نطق المحقق:

- سأبقيك هكذا حتى الموت يا أيها النذل! ولن تخرج من هنا إلا على قفاك! تحملناك كثيرًا فلم تستح! صبرنا عليك سنوات وأنت تتمادى! أظننتنا ضعافًا لا نقوى عليك؟ أم حسبتنا عميانًا لا نراك، وطرشًا لا نسمعك؟ خسئت يا خائن.. التقارير التي ظلت تتوارد علينا بحقك ملأت عدة أضابير! عملاؤنا ومندوبونا تعبت أيديهم من كثرة ما نقلوا عنك، وكلت أرجلهم من كثرة ما تابعوك!

الناموس صامت لا يجيب! ذاهل لا يرد‎.‏ مضطرب الأنفاس والنظرات، ويبدو عليه الإعياء الشديد. غير أن المحقق ظل يتابع قائلًا:

- شفع لك عندنا في البداية ماضيك النضالي البراق! وشفع لك فيما بعد ما سمعناه عن تعبك العصبي.. ثم شفع لك ما بلغنا عن جنونك.. ولكن، لا.. كل شىء له حد! حتى الجنون عندنا له حد..‏ ولا يمكن أن نتسامح مع أي مجنون فيما لو فعل فعلتك وتجاوز حده!

الناموس يتململ.. يئن.. يتوجع.. يتلوى.. في فمه كلام على ما يظهر؛ بيد أنه لا يقوى على الإفصاح عنه! والمحقق ماض في تهديده ووعيده:

- ‏لقد غفرنا لك كل جنونياتك‎.. تجاهلنا جميع خطبك الهستيرية التي ‏نحتفظ بتسجيلاتها كاملة‎.. أما أن يصل بك الأمر إلى حد التعرض‎ للسلطان وأعوانه، والهتاف ضدهم،‎ فهذا عمل لا يمكن تجاهله ولا غفرانه.‎ أفهمت يا معتوه؟ أفهمت يا‎.. يا كلب‎؟!

الصدمات الكهربائية كانت في الماضي إحدى الوسائل المتبعة مع الناموس لإعادته إلى شيء من توازنه ‎النفسي ولو لبعض الوقت.. ما يشبه الصدمة الكهربائية أصابه لدى سماعه آخر كلمة تحقير! عندها انطلق لسانه الثقيل من عقاله، فصرخ بصوت ملؤه اليأس والتحدي:

- أنا لست كلبًا يا محترم! ولكنني مع ذلك لست ضد الكلاب الحقيقية! أنا‏ أحترم كل «حقيقي» كائنًا من كان.. وأنا ما هتفت أبدًا ضد السلطان!

فوجئ المحقق -على ما يبدو- بهذا الكلام الفوقاني غير المنتظر، فأضاع أفكاره وبداهته لفترة، ثم استعادهما بعد شيء من التلعثم حاول أن يغطي عليه برفع طبقة صوته لحد الصراخ والانفجار:

- أنت كذاب.. صفيق.. عملاؤنا لا يكذبون..‏ مندوبونا نزهاء، شرفاء! خطبتك التي قطعناها عليك هتفت فيها صراحة ضد أعوان السلطان أكثر من مرة.. وهذا الهتاف الذي كان ينقل إلينا أولًا بأول هو الذي ألجأنا إلى اعتقالك واستضافتك عندنا هذه الأيام الطويلة، يا مارق.. يا مجرم!

- بل المجرم هو الذي حرف كلامي يا محترم.

- وتدعي أن كلامك محرف أيضًا يا مجنون؟!

‏- نعم محرف.. أنا هتفت ضد «أعوان الشيطان» ‏وليس ضد «أعوان السلطان»، ومندوبوكم الشرفاء هم الذين نقلوا عني غلطًا أو‏ سمعوا خطأ!

- اخرس يا خائن.. يا جبان.. لا تتحايل.. لا تتنصل.. فالنتيجة واحدة!

- أصر على كلامي يا محترم.

‏- أنت مدان في جميع الحالات، حتى لو كنت تسقط أعوان الشيطان! أفلا ترى أن الوقع الصوتي للعبارتين واحد؟ وأن‏ الجماهير الخبيثة الجاحدة لم تعد تفرق بين الكلمتين؟! تبقى الجريمة هي الجريمة، ولا مفر من مزيد من العقاب!

رجع الناموس إلى شروده وصمته كما كان.. بان عليه أنه أصبح لا يعي ما حوله، ولا يميز من معه! أوشك نفسه على الانقطاع، وازداد الشحوب اتساعًا في المساحات غير المشوهة من وجهه.. أحس المحقق بشيء ما، وقدر بحاسته الخبيرة أن الرجل بات على حافة التلاشي، وأنها قد تكون القاضية! فقطع الحديث معه حالًا، ثم أمر الجلادين قائلًا: فكوا القيود عن يديه ورجليه دون إبطاء، واعتنوا به صحيًّا ريثما يتم تسليمه إلى أهله.

-5-

دكتور.. نرجوك يا دكتور أن ترشدنا إلى علاج فعال.. المسكنات انعدم مفعولها تمامًا معه!! لقد عاد إلى سابق حالته.. عاد إلى التجوال والخطب.. ورجع إلى الهذيان والشرود.. جسمه في طريقه إلى الفناء السربع.. شهيته إلى الطعام في تراجع مستمر.. الصدمة الأخيرة -تعني الاعتقال- زادته سوءًا على سوء!! هتافاته ضد أعوان الشيطان لا تنقطع ونخشى أن يقبضوا عليه من جديد بالتهمة نفسها!

حاولنا المستحيل لكي نصحبه معنا إلى هنا، إلى العيادة فلم يطاوعنا هذه المرة! أطرق الطبيب مليًّا.. رفع نظارته عن عينه بلا سبب، ثم أعادها بحركة آلية لا شعورية! يلاحظ أن كلامًا ما قد انزلق من ذهنه إلى لسانه.. لكن لسانه لا يزال حبيسًا! ربما كان السبب في انحباس لسانه هو عدم نضج الجواب لديه بالشكل الكافي! وربما كان تخوفًا من طبيعة الجواب نفسه تجاه من كان المريض في ضيافتهم قبل أيام!

غير أنه أخيرًا نطق بكل اطمئنان فقال: «لا تندهشوا يا سادة إذا قلت لكم: دعوه وشأنه ولا تعترضوا سبيله بشيء بعد الآن؛ لأن مريضكم هو المعافى الوحيد بيننا نحن الذين نعيش على أوهام صحة نفسية كاذبة، وتوازن عقلي خادع وجبان!».

تمت

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الناموس (الجزء الأول)

نشر في العدد 450

14

الثلاثاء 19-يونيو-1979

هل من إحياء جديدة وعزمة أكيدة؟

نشر في العدد 1227

11

الثلاثاء 26-نوفمبر-1996