العنوان الهضيبي … مُعلم الصمت الشامخ
الكاتب ا. محمد سالم الراشد
تاريخ النشر الثلاثاء 20-نوفمبر-1973
مشاهدات 23
نشر في العدد 176
نشر في الصفحة 14
الثلاثاء 20-نوفمبر-1973
الهضيبي … مُعلم الصمت الشامخ
بقلم محمد أحمد الراشد
يخطئ زعماء الأحزاب السياسية العرفية، وقادة الأفكار الأرضية، والحاكمون أجساد الناس بقوانين الجاهلية خطأ عظيمًا حين تقديرهم مدى النجاح الذي يحققونه. يفهمون أن تسلطهم وقمعهم للمخالفين يصفانهم بالنجاح التاريخي ويؤهلانهم لاستمرار وتأثير.
وليس أمرهم كما فهموا أو زعموا، فإن مبلغ زعامتهم وفكرهم وحكمهم لا يتعدى نهاية غلبتهم وبداية سطوة منافس لهم من أنفسهم جديد، تذروهم رياح الأيام، ويظل قادة دعوة الإسلام أقوى منهم دومًا فإن الناجح من ملك العصر، وحكم القلوب وكانت له النهايات.
قد يكون القائد المسلم سجينًا، ممنوعًا بضيق الجدران وأثقال الحديد عن الحركة لكن روحه التي بين جنبيه تظل أوسع من عوالم سجانة.
وقد لا يؤثر عنه حرف مقابل كل خطبة يخدع بها الطاغية أتباعه، لكن صمته يظل أقوى من بلاغة الباطل.
إنه الصمت عن حروف اللين، يهب القائد المسلم قوته.
ويومها في زمن التابعين فخر المحدث الفقيه إبراهيم التميمي بمنقبة الربيع بن خثيم فرواها للأجيال وقال: «أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عامًا ما سمع منه كلمة تعاب» «١»
يفخر أن صان الربيع لسانه عشرين عامًا من أعوام العافية والرخاء.
واليوم، نفخر نحن دعاة الإسلام، بمنقبة الهضيبي، ونرويها للأجيال: إن قائدنا خبرناه عشرين عامًا، من أعوام المحنة والسجن، ما سمعنا منه كلمة من اللين، أو حرفًا يعاب.
وهذا هو الصمت الصعب لا صمت الزهاد. كانت حاجة المعركة إلى قائد يعلم الدعاة الصمت الشامخ والاستعلاء على كلمة العيب. ولم تكن الحاجة إلى قائد خطيب وكاتب.
كانت الحاجة إلى: الرجل الكامل فالكتب:
«إنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم، إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع» «2»
وكان الهضيبي رحمه الله ذلك الكامل.
كان صوابًا، ختم له بموقف ثبات صواب سيظل ينتهي الى أرواح دعاة الإسلام في كل مكان وكل جيل يمدها بالتثبيت.
ولم يكتب الهضيبي إلا كلمات، لكنه كان أقوى من العلم وكتابات الكتاب فـي التأثير، بما خلف من مواقف صلابة تفسر حقائق المعركة الإسلامية مع صور الجاهلية الحديثة.
كان كمالًا لم تنقص منه أنصاف الحلول. فاصَلَ، وحفظ للدعوة معسكرها المستقل، وأبى كل محاولة للتقريب، وأدرك أنه الوادي السحيق يقوم بيننا وبينهم، ذاك الوادي الذي يجب أن تشير إليه خوارط الدعاة، وتبين عمقه واستحالة نصب الجسور بين جانبيه.
الوادي الذي رآه بديع الزمان النورسي ووصفه في مثانيه العربية، يبين من خلال وصفه فقه ثبات أمثال الهضيبي من القادة على المفاصلة المستعلية.
نداء عربي ينبعث من جبال تركيا، يخاطب محذرًا أيها الدعاة:
«لا تتقربوا إلى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبه، ظنًا منكم إنكم تصيرون جسرا بيننا وبينهم، تملؤون الوادي بيننا.
كلا، إن المسافة بيننا في غاية العمق، لا تملؤونه، بل تلتحقون بهم أو تضلون ضلالًا بعيدًا» «3»
يدعوهم بالمدنيين، هؤلاء أهل الجاهلية جريًا مع الاصطلاح القديم، في نظرية في المفاصلة واضحة، أيام اشتداد جبروت أتاتورك.
يرى التقرب، والتسامح خطوة التحاق بالكفر لا محالة. ولذلك لها كان ذاك الوادي الذي في غاية العمق حقيقة: وجب أن يشرف عليه جبل في غاية الشموخ، يجسد العمق.
القلب الجبل الذي لا يزيله شيء.
أول: القلوب التي وصفها السري السقطي، فإنه رأى أن:
«القلوب ثلاثة: قلب مثل الجبل لا يزيله شيء، وقلب مثل النخلة، أصلها ثابت والريح تميلها.
وقلب كالريشة، يميل مع الريح يمينًا وشمالًا» «٤»
فكان قلب الهضيبي تلك الهضبة وذاك الجبل، لم يزله عن جوهر الدعوة الذي عرفت به تهديد أو حبال تلف مرة بعد مرة حول أعناق الذين معه، ولم تمل به ريح إغراء أو تقذفه اليمين والشمال.
وقد يربأ البعض بأنفسهم عن ميل غير منتظم كميل الريشة حين تطير بها الريح في الفلاة وتقعد، ويرون الفضيحة في ذلك الصعود والهبوط الذي لا تضبطه الموازين، فيفلسفوا لأنفسهم صعودًا وهبوطًا تنظمهما مقاييس الهندسة في منظر جميل من الدوران، مبررًا مقننًا. لكنه يبقى دورانًا ليس بثبات.
ولذلك أباه الهضيبي أيضًا، واختار لنفسه المحل الواحد الثابت، وكان المركز لم يشأ أن يتناقله صداع الأهواء والأماني والرخص، ولا أن يصيبه دوار الدوران. ينفذ وصية صاحبه عبد الوهاب عزام في مثانيه:
فاثبتن، والزمان بالناس ماض
والزم القطب لا يصيبك الدوار
«٥»
فلزم القطب الثابت، والضعفاء من حوله يدورون.
والتزم القطب الكاتب والبعض لدقيق حروفه لا يفهمون.
ثم أتم ثباته في القطب بإغماض الجفن فإن المكوث في المركز غير كاف للوقاية من الصداع ومجرد النظر ورؤية الدوران تدير الرأس أيضًا وتأتي بالدوار.
فثالثة، كانت المثاني تناديه، كأن القدر ناسب بين المرشد القائد الثاني، ونصائح مختلف المثاني، لكنها المثاني الفارسية هذه المرة:
أن يدع الحرص ويقنع ويزهد، ويغمض جفنه عن عرض الدنيا ومتاعها، فإن الصدف لا يحفل باللؤلؤ الثمين ما لم يغتمض.
ولقد لبى الهضيبي رحمه الله، وأغمض جفنه في بدايته عن الزوائل، وزهد حق الزهد، وخاف الله ولم يخف طاغية، فغمض جفنه في نهايته على ثبات ومفاصلة وكلمة صلبة عالية.
وبقي على من يخلفه في القيادة أن يواصل هذا الثبات المغتمض الصامت، في شموخ أمام وادي المفاصلة العميق، وأن يردد مع سيد:
أخي ستبيد جيوش الظلام
ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك أشواقها
تر الفجر يرمقنا من بعيد
فذلك الذي أكده هرقل لأبي سفيان رضي الله عنه حين قال:
«سألتك: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول، كذلك الرسل، تبتلى، ثم يكون لهم العاقبة» «٦».
وكذلك أيضًا أتباع الرسل في كل قرن أيضًا، يبتلون، ثم تكون لهم العاقبة.
بل هو الابتلاء طريق التمكين، كما قرر الشافعي لما سئل:
«أيما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟»
كأن دعوة الإسلام وصلت يومًا ما بلا تمحيص وتدريب وراء القضبان وتحت المشانق، وفوق أمشاط الحديد.
فقال الشافعي:
«لا يمكن حتى يبتلى» «۷»
حتمًا مفروضًا.
قد يطول هذا الابتلاء وسير الظلماء أو يقصر كيفما شاءت حكمة الله لكن المهم أن يقوم في هذا الطريق مؤذن بعد مؤذن، يهدون الناس ممشاهم.
كلما أظلم الطريق وأعيا
وتناجت بيأسها الركبان
أبصر الركب للمنازل نارًا
وهداهم إلى الديار أذان
«٨»
ولقد رفع الإمام حسن البنا رحمه الله صوتًا عاليًا بأذان أيقظ النيام، وخلفه الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله فوفي وصدع بأذان ثان أزال عن القلوب وحشة الطريق.
وكأنه لمثل هذا اليوم كان نداء داعية اليمن القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله، قتيل طريق الابتلاء هذا، يريد أذانًا ثالثًا:
يا دعاة الإسلام تاريخكم ضـ
خم ولكن هل فيكم من يعيده؟
ورنت من نوافذ الزمن الـــ
خالي إليكم عيونه وشهوده
فلقد أخذ الهضيبي مكانه بجدارة في هذا التاريخ الضخم المشرف.
وأن العيون لتتطلع إلى هذه الدعوة الرائدة المباركة اليوم، بعد نصف قرن من مولدها:
هل فيها من يعيد تاريخ قادتها؟ ذلك المأمول إن شاء الله وبعونه، فإنها دعوة معطاءة وهبت رجالها لفلسطين وللقنال ولمعركة الحرية في مصر. وأيسر من ذلك أن تهب ثالثة رجلًا للصمت الشامخ يفتح الله على يديه.
«1» طبقات ابن سعد 6/١٨٥
«2» وحي القلم 3/٥١
«3» المثنوي العربي للنورسي /۱۷۱
«4» طبقات السلمي /٥٣
«5» ديوان المثاني /85
«6» صحيح البخاري 4/٢٣
«7» زاد المعاد 2/٤١
«8» دیوان المثاني /٣٢
«9» مجلة المسلمون / السنة الأولى / العدد الثامن.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل