; الوقف.. والتنمية المستدامة | مجلة المجتمع

العنوان الوقف.. والتنمية المستدامة

الكاتب د. أشرف دوابه

تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-2017

مشاهدات 41

نشر في العدد 2110

نشر في الصفحة 67

الثلاثاء 01-أغسطس-2017

الوقف.. والتنمية المستدامة

يعتبر الوقف الإسلامي نظاماً نشأ وتطور في ظل الحضارة الإسلامية، وقد عرفت الأوقاف منذ عهد النبوة وعبر العصور الإسلامية نموّاً وتنوّعاً واتساعاً، حيث لم تقتصر على العناية بفئات المجتمع فحسب، بل تعدتها إلى العناية بكل ما يعتمد عليه الناس في معيشتهم، فقد انتشر الوقف ليغطي مختلف جوانب الحياة من النواحي الدينية، والعلمية، والثقافية، والصحية، والإنسانية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والخدمية.

وإذا كانت الأمم المتحدة تنظر للتنمية المستدامة على أنها «التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها»، فإن التنمية المستدامة في الإسلام تتعدى المنظور المادي إلى مفهوم يجمع بين التنمية الروحية والمادية، ويُعلي من شأن النفس الإنسانية، ويضعها موضع التكريم اللائق بها، والذي يُمَكِّنها من أداء دورها في تعمير الكون وتحقيق العبودية الخالصة لخالق هذا الكون وحده؛ (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ {4}) (قريش).

التنمية  في الإسلام

وبذلك عرف الإسلام التنمية المستدامة قبل أن يعرفها الغرب بعشرات القرون؛ فالأجيال القادمة في المنهج الإسلامي لها حق في ثروات الأجيال الحاضرة، وتطبيقاً لذلك حث الإسلام الآباء على ترك أولادهم أغنياء لا فقراء؛ ففي الحديث الشريف: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» (رواه البخاري)، «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، ويشير القرآن الكريم إلى الترابط بين الأجيال في صورة من التراحم والتعاطف في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (الحشر:10)، ولقد استند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذه الآية في عدم تقسيم أراضي العراق على الفاتحين، بل فرض عليها الخراج لمصلحة الأجيال المتعاقبة، وقال لمن خلفه: «تريدون أن يأتي آخر الزمان ناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم؟».

إن الإسلام بقدر حرصه على تحقيق النفع للأجيال الحالية فإنه يضع نصب عينيه منافع الأجيال القادمة، ومن ثم يجعل من التنمية المستدامة واقعاً عملياً ملموساً، فتكون الأمة على مر العصور حلقات متماسكة يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجني خلفها، ويعمل خلفها على نهج سلفها.

لقد كان للوقف دور بارز في تحقيق التنمية المستدامة في تاريخ أمة الإسلام، بقدرته على الربط بين الواقفين والموقوف عليهم حالاً ومستقبلاً، بصورة تجمع بين المنافع الشخصية والمنافع العامة؛ فهو يديم الثواب لصاحبه بعد موته، ويرسخ قيم التكافل والتضامن والأخوة والمحبة بين طبقات المجتمع وأبنائه، ويعود على المجتمع بالخير الكثير، من خلال ما يوفره من موارد مالية ثابتة ودائمة لتلبية حاجات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، وبما تتضمنه تلك الحاجات من حاجات دينية وتربوية وغذائية وصحية وأمنية وغيرها.

الوقف في التاريخ المعاصر

وفي ظل فقه النص وواقع العصر والسعي نحو تحقيق التنمية المستدامة، تبدو أهمية إيلاء العناية اللازمة للوقف، فقد شهدت البيئة المحيطة بالوقف في التاريخ المعاصر العديد من المتغيرات التي يمكن له الاستفادة من منافعها، وفي مقدمتها الاستفادة من التطور السريع والمتنامي في أدوات التمويل والاستثمار، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، مع مواجهة التحديات الخاصة بتجفيف منابع العمل الخيري الإسلامي.

فالعالم يشهد تطوراً عجيباً وسريعاً في أدوات التمويل والاستثمار، حيث يكثر الجديد منها ويتزايد يوماً بعد يوم، وتعتبر صناديق الاستثمار والشركات المساهمة من أهم الأشكال والأوعية التمويلية والاستثمارية التي تشهد تطوراً سريعاً ونمواً متزايداً، وهي تتوافق مع الوقف من حيث تميزها بشخصية قانونية مستقلة، والفصل بين الإدارة والملكية، وعدم محدودية عمرها في الغالب، وقدرتها على جمع الأموال واستثمارها، فضلاً عن تفعيل الصكوك الوقفية الخيرية والاستثمارية؛ مما ييسر السبل لتمويل واستثمار الأموال الوقفية.

الوقف و المجتمع المدني

إن تقوية مؤسسات المجتمع المدني أمر أساس وضروري لإحداث التنمية المستدامة والتقدم والاستقرار، وإن تأصيل مفهوم الخير الإسلامي لخدمة المجتمع وتطويره يمثل أحد أسس تقوية مؤسسات المجتمع المدني، مع أهمية دور المنظمات الأهلية في القيام بدور رئيس وفاعل في الارتقاء بالخدمات العامة، ومحاصرة دائرة الفقر والجهل والمرض والبطالة في المجتمعات الإسلامية. 

لقد حدثت تغيرات كثيرة في الممارسات والنشاطات المالية والاقتصادية للمجتمعات الإسلامية وغيرها، مما ساعد على تميز حاجات ومصالح جديدة في ميدان أعمال البر، بل كانت هي الأساس الذي استدعى ظهور أشكال جديدة من البر، لم تكن معروفة ولا مألوفة من قبل، وأدت أيضاً إلى ظهور أهداف جديدة تفصيلية للأوقاف لم تكن ظاهرة في نية الواقف من قبل، وكل هذا يؤكد أهمية تفعيل التمويل بالوقف للقيام بدوره الجوهري في تحقيق التنمية المستدامة.

ولا ينكر منصف دور دولة الكويت الريادي في الوقف وتحويله من مراتع الجمود إلى حركة الحياة، حتى بات النموذج الكويتي في الوقف نموذجاً عالمياً يقتدى به، فقد تميز في نشأته وتكوينه، وبرع في إدارته وانتشاره إلى ربوع المعمورة، كما كان اهتمامه بالجانب العلمي للوقف متميزاً، حتى إنه يمكن القول: إنه إذا ذكر الوقف ذكرت تجربة الكويت التي نأمل أن تزداد قوة فوق قوة، وألا توقفها حدود، وتستمر برشد نحو هدفها المنشود في تحقيق قيمة التكافل الاجتماعي والعمل التنموي داخل دولة الكويت وخارجها.

الرابط المختصر :