العنوان الإسلاميون وفكرة الدولة الحديثة
الكاتب راشد الغنوشي
تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999
مشاهدات 19
نشر في العدد 1350
نشر في الصفحة 48
الثلاثاء 18-مايو-1999
- الدولة في البلاد الإسلامية التي قطعت شوطًا في الحداثة الشكلية المزيفة غول حقيقي يجرد المواطن من كل سلاح وحماية.. لقد تركت عمليات التحديث المجتمع حصيدًا وحطامًا تتلاعب به أجهزة الدولة
- في السابق كان الهيكل الاجتماعي الإسلامي قائمًا وكان الخلل يقتصر على بعض الأجزاء التي كانت تجبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأسلوب الفردي أما الآن فالأمر أعظم من أن يعالج بالأساليب التقليدية الجزئية
- في المجتمعات العربية التقليدية الدولة ليست وحدها الكيان المنظم أمام أشتات من الناس يتمتها الحداثة وإنما هي تتعامل مع المجتمع كوحدات منظمة فتخاطب الأفراد من خلال قبائلهم وسائر المؤسسات التقليدية التي تؤطرهم
قطعًا لسنا من دعاة المذهب الفوضوي في موضوع الدولة تحريضًا على الخلاص منها فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤسسًا لدين ودولة، بل قل لدين وحكومة هي في خدمته وأهله، فلا يسع منتميًا لدعوة هذا النبي العظيم أن يعرض عن سبيله داعيًا إلى دين بلا أداة تنهض بالذب عنه وحماية أهله من الفتنة وإقامة شرائعه كمن يكتفي بالدعوة إلى الصلاة دون إقامة مسجد وإمام ومؤذن وترتيب نفقاته وصيانته، ولذلك كان الدفاع عن أصالة الحكم في الإسلام أهم ساحة تطاحن فيها دعاة الإحياء الإسلامي منذ قرن أو يزيد بأثر دعوات الاستشراق ومن تأثر بها من أبناء الإسلام ممن طلعوا على الأمة بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنًا من الحكم الإسلامي المتواصل بلا انقطاع بقرية عدم أصالة الحكم في الإسلام وأنه من الزوائد المقحمة عليه إقحامًا نابيًا عن طبيعته بما يفرض تحرره من هذه الزائدة، فتلك طبيعته ومصلحته!!
ولقد انبرى لدحض هذه الفرية فطاحل العلم الإسلامي واشتدوا في مطاردتها حتى انكشفت وافتضح أمرها ومقصدها الشرير في تحريف الكلم عن مواضعه، وتوهين أمر هذا الدين والكيد له ولأهله، ولقد مثلت تلك الهجمة على الإسلام والقومية في وجهها منطلقًا للحركة الإسلامية المعاصرة وانتشار صحوة الإسلام في أرجاء الأرض دعوة إلى تجديد التدين الإسلامي وإحيائه في كل أبعاده، وأساسًا أبعاده السياسية الاجتماعية كقوة تنظيم للجماعة على اعتبار أن هذا الجانب هو أكثر الجوانب التي تعرضت للهجوم وخطر التقويض من طرف أعداء الإسلام وبعض أبنائه المفتونين أو الجاهلين أو المغرر بهم، ولاسيما أن هذه الدعوة الخبيثة ظهرت في سياقات تاريخية ارتبطت بسقوط آخر شكل للحكم الإسلامي ممثلًا في الخلافة العثمانية تحت وطأة الأساطيل الغربية وبيد بعض الأبناء العاقين، فكانت تلك الدعوة الخبيثة تمهيدًا لذلك الزلزال أو تهوينًا. من شأنه وصرفًا لأنظار المسلمين التي احترقت قلوبهم على انهيار ذلك الركن الإسلامي العظيم وترك أمر الإسلام في العراء نهبًا مقسمًا. فكانت الدعوة الخبيثة ربتًا عليهم وتخديرًا لهم حتى لا تنبعث من تلك الحرقة دعوة إلى تجديد البناء، غير أن الله يأبى إلا أن يتم نوره، فما عتمت أرض الإسلام حتى اشتعلت أطرافها بالدعوة إلى إعادة ترتيب صفوف الأمة في شكل جماعات وأحزاب جعلت قضيتها المركزية لا مجرد إحياء العقائد وشعائر الصلاة والصوم والحج وإقامة المساجد -إذ مركز هجوم العدو لم يكن على هذه الجبهات وإن كان الإسلام كله مستهدفًا نهاية- وإنما على جبهة أخرى هي قوة الاجتماع الإسلامي وأداته التنظيمية أي الحكم، ولذلك كان الدفاع عن أصالة الحكم في الإسلام أهم محور لدفاع الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر، حتى إذا نجح مخطط العدو في الوصول إلى ما أراد مرت الحركة الإصلاحية مع الإمام البنا إلى طور جديد بعد بضع سنوات فقط من سقوط الخلافة إلى إقامة أداة تنظيمية مهمتها الرئيسة إعادة تنظيم صفوف المسلمين وتوعيتهم، وتعبئتهم من أجل إقامة البناء الإسلامي السياسي الذي أتى عليه الغزو الأجنبي وفشت هذه الصحوة في أمة الإسلام المعاصر جاعلة من إعادة بعث الكيان الإسلامي السياسي جوهر وهدف الإحياء الإسلامي، وذلك ما ميز الإصلاح الإسلامي الحديث عن أمثاله في القديم، حيث كان قد غلب عليه الطابع الفردي والمضمون الجزئي من خلال عالم جريء ينهض في وجه حاكم ظالم يباشره بالنصح والتحذير من التمادي في ظلمه ويذكره بما هو مقر به من قواعد الشريعة الغراء متعهدًا أمام الأمة برعايته وإقامة حدوده وإعلاء كلمته.
انهيار الهيكل الاجتماعي الإسلامي
لقد كان الهيكل الاجتماعي الإسلامي قائمًا وإنما الخلل يقتصر على بعض الأجزاء فكانت تجبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأسلوب الفردي آنف الذكر، أما وقد انهار ذلك الهيكل تحت سنابك الغزاة وفرضوا بديلًا له بالحديد والنار متمردًا على الشريعة دافعًا لها وحاصرًا لها في زوايا ضيقة بعد أن كانت صاحبة السيادة العليا فوق الحاكم والمحكوم وإذن فالأمر جلل وأعظم من أن يعالج بالأساليب التقليدية الجزئية على طريقة العلماء المعروفة كما توهم البعض عائبين على الحركة الإسلامية شدة تسيسها وسيطرة هم الدولة على عملها بما أوقعها في مصادمات دامية لكأنها بلا نهاية مع الحكومات العلمانية القائمة، بينما لم يكن الأمر كذلك عبر التاريخ فلماذا لا تؤوب الحركة الإسلامية المعاصرة إلى نهج أسلافها من العلماء في الإصلاح؟ لقد ذهل هؤلاء الطيبون عن طبيعة التحولات الجذرية التي نجمت عن سقوط الخلافة وقيام الدولة القطرية العلمانية وعن طبيعة الشرعية التي قامت عليها هذه الدولة والمستندة أساسًا لا إلى المعادلة القديمة تعاقد بين العلماء والحكام على التزام الحاكم بالشريعة مقابل تعهد العلماء بدعوة الأمة إلى طاعته، فإذا خاس قليلًا أو كثيرًا بتعهده سل عليه العلماء سيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد يبلغ الأمر أن يتظاهروا عليه مع الجماهير وحتى أن يعينوا على استبداله، ويسبب هذا التعاقد لم يحتج الحاكم إلى استخدام أقدار كبيرة من العنف، أما الدولة الحديثة في أمتنا فقد قامت أساسًا على العنف الذي ورثته. عن المحتل الأجنبي الأج كما ورثت إدارته وأيديولوجيته وأسلوبه في الحكم وغربته عن الناس ولاسيما في الدول التي مضت فيها حركة التحديث شوطًا بعيدًا في تفكيك البناءات التقليدية وتضخمت فيها مؤسسات الدولة وامتدت على حساب المجتمع الأهلي، فارضة عليه الحصار واغتصاب الولاء من أجل إحكام القبضة على حركة المجتمع والسيطرة على ردود أفعالها بتجفيف ينابيعها سلفًا والاستعداد لقمعها واجتثاثها عند حصولها، إن الدولة في هذا النمط خارجة عن مجتمعها مستقلة عنه، أداة قمع وتأطير له، لا تمثله في الخارج بل تمثل الخارج لديه، إنها كما أسلفت التنين الذي بشر به هويز وهي الفرعون الذي وصفه القرآن رمزًا للشر و حاكيًا مقالاته الشهيرة﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ﴾ أو ﴿أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ﴾ أو﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ أو﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى﴾ بل إن فرعون قد عبر أحيانًا عن شيء من الديمقراطية عندما قبل المبارزة بين سحرته وبين موسى على ملأ من الناس ولكنه لم يقبل نتيجة المبارزة تمامًا كما يفعل بعض الدول الحديثة التي تنظم انتخابات ثم لا تلتزم بنتائجها بل تعاقب الفائزين.
سيطرة مطلقة
إن هذا النمط من الدولة هو من الشمول والامتداد ألا يند عن سلطانها أي منشط اجتماعي مهما قل خطره مثل نوادي الرياضة أو الترفيه والفن ناهيك بالنقابات والمدارس والمساجد والأحزاب وسائر مؤسسات المجتمع وخصوصيات الأفراد فكل ذلك يحتاج إلى إذن من الدولة مسبق وإلا ألغي وعوقب المبادر المفتات الحاكم مطلق الإرادة واليد، وليس فقط هو فوق القانون لأنه هو القانون ذاته وهو مؤهل لأن يقدم الفتوى في كل شيء حتى في ثوابت الدين، أولم يدع بورقيبة شعبه إلى انتهاك حرمة رمضان بزعم أننا في حالة جهاد فلنفطر لنتقوى على عدونا التخلف!! وحمل الناس بقوة الدولة على ذلك وألغي في تنظيم أوقات العمل أي اعتبار الحلول رمضان ولوحق كل موظف ضبط متلبسًا بالصيام تمامًا كما طارد ولا يزال صاحبات الزي الإسلامي وأصحاب القمصان الطويلة واللحي، بل إن أحد قضاته طلب الحكم بالإعدام على أحد الشيوخ استنادًا إلى حيثيات منها أن الشيخ هو الشيخ الرحموني سمح لنفسه أن يفسر القرآن على خلاف ما فسره فخامة الرئيس وأعدم الشيخ فعلًا - رحمه الله - صحيح أن هذه الأمثلة تعبر عن الحالات المتطرفة للدولة المنعوتة بالحداثة في البلاد الإسلامية ولكن أمثالها كثير، غير أن الثابت أن ما يسمى بمنطق الدولة في الفكر السياسي الغربي كما تبلور عند هوبز ومكيافيلي يجعل ما تقدره من مصلحتها العليا هو السلطة التي لا تعلوها ولا تزاحمها ولا تجاورها سلطة وهو مفهوم السيادة، هو بالضبط المنطق الذي يحكم الدولة القطرية في بلاد الإسلام، وإذا كان هذا المنطق المستورد قد خفف من وطأته في الغرب التعاقد بين الدولة والمجتمع وتقيد إرادة الحاكم بمقتضيات ذلك التعاقد الذي ضبطته قوانين ودساتير حدث من سلطة الحاكم وزاحمته وراقبته بسلطات أخرى مستقلة عنه فلم تبق الدولة هي رأسها وإنما كيان غاية في التعقيد فإن الدولة في بلاد الإسلام - وخاصة التي استلهمت النموذج الفرنسي والنازي والشيوعي كما هو حال الدولة في البلاد التي قطعت أشواطًا في الحداثة الشكلية المزيفة غول حقيقي وكابوس يجثم على قلب المواطن ويجرده من كل سلاح وحماية، لقد تركت عمليات التحديث المجتمع حصيدًا وحطامًا وذرات رمال تتلاعب بها أجهزة الدولة في حال شبه شلل تام عن المقاومة والاعتراض فضلًا عن ممارسة سيادته عليها فعلى قدر ما تزداد الدولة تعملقًا وقدرة على التأطير والإخضاع والقمع على قدر ما يتذرر مجتمعها أكثر فأكثر بما جعل الناس شتاتًا لا يجمعه ولا يفرقه شيء غير الدولة، الناس أمامها يكادون يشبهون حالة الميت بين يدي مغسله. ولأني قادم من دولة اكتوى أهلها ولا يزالون بنار تجربة تحديث فوقي غاية في العنف فقد هالني إعجابًا مشهد مجتمع آخر لم يشهد مثل هذه النكبة هو المجتمع اليمني في أول زيارة له في بداية التسعينيات، لقد وقعت عيني على نسخة قريبة من الأصل لما كانت عليه مجتمعاتنا قبل أن تبتلى بتجارب التحديث الأهوج لقد رأيت مجتمعًا قد نجح في المحافظة على بناءاته التقليدية كالقبيلة، والوقف والمسجد، والعلماء والقضاة.
في مثل هذا المجتمع لا تجد الدولة نفسها كما هو الحال في المجتمعات التي حطم فيها التحديث مؤسساتها التقليدية بزعم التهيئة لقيام مؤسسات حديثة فلا القديم استبقينا ولا الحديث وجد أساسًا ينهض عليه، بما جعل الدولة اللاعب الوحيد فتفرعنت، أما في نمط المجتمع اليمني وأمثاله في الخليج فالدولة ليست وحدها الكيان المنظم أمام أشتات من الناس يتمتها الحداثة وإنما هي تتعامل مع المجتمع كوحدات منظمة تنظيمًا طبيعيًا، فتخاطب الأفراد من خلال قبائلهم وسائر المؤسسات التقليدية التي تؤطرهم، إنهم هنا ليسوا يتامى ولا معزولين بل لهم كلمة مع دولتهم، إن ها هنا نوعًا من التوازن يتعذر معه بل يستحيل الحكم المطلق، إن المجتمع التقليدي هنا يعطي لأفراده حماية من تغول الدولة ولذلك رأينا أصحاب أيديولوجيات الدولة المطلقة كالشيوعيين لا يتوانون عن مناصبة تلك البناءات التقليدية العداء فاستهدفوها بالتدمير لما حكموا حتى يزيلوا كل عقبة من طريق تعطشهم للاستبداد والحكم المطلق وأخذ حريتهم كاملة في إعادة تشكيل المجتمع بحسب أهوائهم الأيديولوجية، وعلى ضخامة التضحيات من أجل فرض مناهجهم التحديثية لم يفعلوا في النهاية شيئًا غير أن نجاحهم كان باهرًا في التدمير والتقويض التام لكل ما هو قائم، ولذلك عبرت لضيوفي اليمنيين الذين سعدت بإقامتي بينهم ويوافر كرمهم والأمسيات الطويلة حديثًا مع نخبهم على اختلاف توجهاتهم - عبرت لهم عن إعجابي بنمط حياتهم وغبطهم على ما يتمتعون به من حرية ليست منا عليهم من حاكم وإنما هو نمط بنيانهم الاجتماعي فليحافظوا عليه حتى لا يذلوا كما ذل إخوانهم المبتلون بتجارب التحديث الأهوج، وإن أشد ما أعجبني في ذلك المجتمع محافظته على بنيته القبلية وإصراره على حق أفراده في حمل السلاح، ولماذا لا يعيب الحداثة الأمريكية سماحها لأهلها باقتناء السلاح وهو حق نص عليه الدستور الأمريكي بينما تصر الحداثة المزيفة على تجريد مجتمعاتنا من كل حماية؟ إن تعريف الدولة بانفرادها بحق حمل السلاح وممارسة العنف ذلك مما نعيبه على هذا النمط من الحداثة وذلك ما جعلنا نحن الذين شوى التحديث الأهوج أكبادهم ودمر كل ملجأ يمكن أن يتحصنوا به من بأس الدولة والحد من تغولها، ننصح إخواننا في البلاد التي لم تبتل بمثل هذه الكارثة أن يترفقوا في نقد بنيات مجتمعاتهم التقليدية بل أن يحافظوا عليها حصنًا لحرياتهم مكتفين بتشذيب سوءاتها.
معززينها بأشكال حديثة للتأطير الاجتماعي والسياسي كالأحزاب والنقابات.. إلخ، فذلك أغنى وأقنى والله أعلم.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
مجلة »العربي« تناقض القرآن الكريم وتزعم أن موسى مصري وليس من بني إسرائيل!!
نشر في العدد 242
15
الثلاثاء 25-مارس-1975