; الإنسان بين الحقيقة الإيمانية والاستخلاف في الأرض | مجلة المجتمع

العنوان الإنسان بين الحقيقة الإيمانية والاستخلاف في الأرض

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1978

مشاهدات 21

نشر في العدد 413

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 26-سبتمبر-1978

  • تحكيم المنهج الإلهي في الحياة يحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن

عندما خلق الله -سبحانه- آدم -عليه السلام- أعلن لملائكته المراد من ذلك فقال جل وعلا: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ﴾ (البقرة : 35). واستخلاف الإنسان في هذه الأرض ليس مطلقا، فقد قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (النور: 55) ومن هذه الآية يستدل المسلم على أن الاستخلاف وعد من الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والمقصود بذلك أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وحاشا من أن يخلف وعدًا قطعه على نفسه وهو مالك الملك ذو الجلال والإكرام.

لكن، ما هو المقصود بالاستخلاف؟ وما حقيقة الوعد به للمؤمنين؟ لنعد إلى الآية الكريمة كاملة:﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. (النور:55)

إذًا فالاستخلاف مشروط بالإيمان، وحقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله للمؤمنين حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله، فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله، لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله، وهي طاعة الله، واستسلام لأمره في كل صغيرة وكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة، ألا وهو تبع لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من عند الله.

هذا هو الإيمان الذي يستغرق الإنسان لله، بخواطره وأشواقه وميوله وحركاته وسلوكه مع ربه في أهله مع الناس جميعًا، على أن يتوجه بهذا كله متجردًا إلى الله ليتحقق فيه قوله تعالى:﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ﴾ (النور : 55). والشرك مداخل وألوان كثيرة، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله. 

ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض، فإذا وضح مفهوم الإيمان وحقيقته كشرط للاستخلاف، فما حقيقة الاستخلاف في الأرض إذا؟ 

وحقيقة الاستخلاف في الأرض ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، وإنما هي هذا كله شريطة استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه، ونصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله - سبحانه-.

إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان. 

وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض ليحققوا النهج الذي أراده الله، ويقرروا العدل الذي أراده الله، ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله، فإما الذين يملكون يفسدون في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله، ولعل الذي يقود إلى هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى:﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ﴾ (النور : 55) وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها فقد وعدهم الله إذا أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجمل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض، ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرضية، ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة ومن رصيد وطاقة مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله.

أما معنى يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، فلقد كانت الجماعة المسلمة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خائفة لا تأمن، ولا يضع أفرادها سلاحهم حتى بعد الهجرة، وقد ورد حول هذه الآية أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، سرًا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمر الله بالقتال فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لن تصبروا إلا يسيرًا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة» وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فآمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل الله عليهم الخوف، فاتخذوا الحجرة والشرط، وغيروا فغير بهم. 

لقد تحقق وعد الله، وظل محققا وواقعًا ما قام المسلمون على شرط الله ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ﴾ (النور: 55). لا من الآلهة ، ولا من الشهوات ويؤمنون ويعملون صالحًا، ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وإنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن، لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة، أو في تكاليفه الضخمة، حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، واجتازت الابتلاء، وخافت فطلبت الأمان، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف، كل ذلك بوسائله التي أرادها الله، وبشروطه التي قررها الله، تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعًا، وقد بين القرآن عدة المسلم المؤمن المقصود بالاستخلاف، ففي تعقيبه على هذا الوعد، أمر بالصلاة والزكاة والطاعة، وطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم- أمته ألا يحسبوا حسابًا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم، قال تعالى:﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (النور: 57:56) .

هذه هي العدة، اتصال بالله، وتقويم القلب بإقامة الصلاة، والاستعلاء على الشح وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول والرضى بحكمه، وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة، وتحقيق النهج الذي أراده للحياة وبهذا يرحم الله المؤمنين في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال، وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال.

وفي الوقت الذي يستقيم فيه المسلمون على نهج الله، فلا خوف عليهم من قوة الكافرين، فما هؤلاء بمعجزين في الأرض، وقوتهم الظاهرة لا تستطيع أن تقف لرصد المؤمنين وضربهم في الطريق، فالمؤمنون أقوياء بإيمانهم، أقوياء بنظامهم، أقوياء بعدتهم، وإذا كانت عدتهم لا تضاهي عدة أعداء الدين والإسلام والإيمان، فإن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب.

إن الإسلام حقيقة ضخمة، لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في الاستخلاف، ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية، وهو يدرك شروطها على حقيقتها قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب، وقبل أن يستبطئ وقوعها في حالة من الحالات.

إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكمت هذا لنهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها، ألا تحقق، وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن، وما من مرة خلفت عن هذا النهج، إلا تخلفت وصارت في ذيل الركب ومؤخرة القافلة، وذلت وطرد دينها معها من الهيمنة البشرية، واستبد بها الخوف، وتخطفها الأعداء.

إلا أن عهد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط، ومن أوفى بعهده من الله؟

إن أمتنا في العهود الحالية، لهي في ذيل الأمم، فلقد سطا لصوص السلطة والنفع الشخصي والغراب الدنيوية الفانية على السلطة، وزيفوا مفهومات حق الاستخلاف، وصاروا طواغيت يسيرون على سفن فرعون وغيره، فكان ذلك وبالا على الأمة جمعاء، الأمر الذي وصل بالأمة إلى أن تخضع للواقع الذي يفرضه عليها عدوها اللدود وهو يغزو أرضها ويحطم كيانها، ولن تعود لأمتنا أمجادها إلا بعودتها إلى هذا الدين، محققة طبيعة الإيمان الذي ارتضاه الله لنا، والحمد لله رب العالمين.

الرابط المختصر :