العنوان بلا حدود .. جذور المواجهات الدموية في كراتشي
الكاتب أحمد منصور
تاريخ النشر الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
مشاهدات 11
نشر في العدد 1171
نشر في الصفحة 25
الثلاثاء 17-أكتوبر-1995
حينما زرت كراتشي لأول مرة في عام 1987م شعرت بعد جولات قمت بها في أحيائها المختلفة أني أمام مجتمع متباين بشكل لم أكن أتصوره، وبدا هذا التباين لي بشكل بارز بين الأحياء الراقية التي يعيش أهلها فيما يشبه القصور، وبين الأحياء السكنية المبنية، من الصفيح والكرتون والتي أشبه ما تكون بأوكار النمل من كثرة المقيمين فيها.
وحينما دعيت في عام 1988م لحضور مؤتمر في جامعة كراتشي طالعت الصحف الباكستانية صبيحة يوم المؤتمر، فوجدت أن قرارًا صدر من رئيس الجامعة بإغلاقها لمدة ثلاثة أيام، بعدما نشبت صراعات بين الجهة المنظمة للمؤتمر، وجهة أخرى منافسة لها داخل الجامعة، وحتى لا تحدث مصادمات بين الجانبين قرر رئيس الجامعة إغلاقها حتى لا يتحمل المسؤولية.
إلا أني وجدت أحد منظمي المؤتمر يأتي إلى الفندق ويبلغني بأن أستعد للذهاب إلى المؤتمر، فقلت له لقد اطلعت على الصحف، وفهمت منها أن المؤتمر قد ألغي، وأن الجامعة قد أغلقت قال: لا.. عليك من الصحف، وسترى الآن أن إغلاق الجامعة ليس سوى تعطيل للدراسة فقط أما الطلبة فكلهم يملئون الجامعة قلت له: والصدامات التي يمكن أن تحدث؟ قال: لا عليك لقد أخذنا استعداداتنا.
وحتى تلك اللحظة كنت أعتقد أن الصدامات يمكن أن تكون بالعصي والحجارة مثلا، ولكني حينما وصلت إلى مبنى الجامعة، وتحديدا إلى مبنى كلية الهندسة التي كان سيعقد فيها المؤتمر، ذهلت من هول ما رأيت فقد استقبلنا مئات الطلبة بالهتافات والشعارات وكلهم مسلحون بالبنادق أو الأسلحة الأوتوماتيكية أو المسدسات، حيث أحاطوا بالمدعوين الذين كان على رأسهم المهندس أحمد شاه أحمد زي -رئيس حكومة أفغانستان الحالي، ورئيس حكومة المجاهدين المؤقتة- التي كانت قد أعلنت في ذلك الوقت.
فشعرت أني ذاهب إلى ساحة معركة، وليس إلى مؤتمر داخل أسوار الجامعة، يتحاور الناس فيه بالكلمات، وليس بالرصاص، لذلك قلت لمرافقي الباكستاني -وأنا مأخوذ بما أرى- يبدو أن الاستعدادات على أشدها؟ قال وهو يفتخر: لقد رتبنا كل شيء، وهذه هنا هي الطريقة المتبعة لكي يثبت كل فصيل سياسي قوته ومدى قدرته على إثبات وجوده، ثم أشار إلى أسطح مباني الكلية فوجدت منصوبًا عليها رشاشات ثقيلة موجهة إلى الساحة وإلى الشوارع المحيطة بالجامعة.
فقلت له وقد بدأ القلق يملأ جنبات نفسي: ما شاء الله.. هل أحضرتم الجيش الباكستاني لتأمين المؤتمر؟ ضحك بصوت عال وقال: أي جيش يا سيدي؟ إنهم زملاؤنا قلت له متعجبًا ومن أين لكم بهذه الأسلحة الثقيلة؟ قال وهو يدخلني إلى قاعة المؤتمر: كل ما تريده يمكنك الحصول عليه في كراتشي.
وأذكر أن الحكومة قد أصدرت بعد ذلك قرارًا بمنع دخول السلاح إلى الجامعة بعدما قتل عشرات من الطلبة في مواجهات مسلحة بينهم داخل الجامعة، وبعد قرار الحظر شنت الشرطة حملة تفتيش على السكن الجامعي للطلبة، فأخرجت منه أكثر من ألف قطعة سلاح كانت في غرف معيشة الطلبة داخل الجامعة بينها رشاشات ثقيلة.
كانت هذه الصورة كفيلة بأن أفهم التركيبة المعقدة للمنطقة عمومًا، وكراتشي على وجه الخصوص، تلك المدينة الكبيرة التي تغص باثنتي عشرة مليون نسمة، وتختلط فيها على عادة الموانئ والمدن الساحلية عرقيات وتداخلات اثنية وحضارية جعلتها تعيش على فوهة بركان منذ اندلاع أحداث العنف بها بين المهاجرين والحكومة التي بدأت عام 1992م، ولا زالت مستمرة حتى الآن إلا أن المواجهة تزايدت وارتفعت حدتها منذ أكتوبر من العام الماضي 1994م، حيث بلغ عدد القتلى خلال عام واحد ما يقرب من ألفي قتيل.
وتعود مشكلة المهاجرين إلى عام 1947م وهو عام تأسيس باكستان وفصلها عن الهند لتصبح موطنًا للمسلمين، فهاجرت أعداد كبيرة من مسلمي الهند إلى باكستان، وفي نفس الوقت هاجرت أعداد كبيرة من غير المسلمين الذين كانوا يقيمون في باكستان إلى الهند، ولقرب كراتشي من حدود الهند وكونها مدينة ساحلية، فقد هاجرت إليها وتركزت فيها النسبة العليا من المهاجرين المسلمين الهنود، وقد شهدت كراتشي نموًا سكانيًّا كبيرًا منذ عام 1947م وحتى الآن، ففي عام 1947م كان عدد سكانها 400 ألف نسمة فقط ثم ارتفع في عام 1961م إلى مليونين، وفي عام 1972 إلى ثلاثة ملايين ونصف، أما اليوم فقد وصل عدد سكانها إلى 12 مليون نسمة، ومع هذا النمو المطرد لسكان كراتشي فقد شعر السنديون وهم السكان الأصليون أن المهاجرين قد بدءوا يفوقونهم من حيث الكثافة السكانية، والمهارات الحرفية والتجارية، ومستوى التعليم، وحتى الوظائف الحكومية فشكلوا في أوائل السبعينيات حركة قومية تدعى جیاسند، استطاعت أن تؤثر على رئيس الوزراء في ذلك الوقت ذو الفقار علي بوتو، الذي أصدر قوانين جديدة تمنح السنديين أفضلية على المهاجرين سواء في الوظائف الحكومية أو فرص التعليم، مما أدى إلى تفاقم العنصرية بين الطرفين وشعور المهاجرين أنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية في مجتمع قائم على الطبقية والإقطاع.
وقد حدث تحول في تاريخ المهاجرين في عام 1948م، وذلك حينما رفضت إحدى الجامعات الباكستانية قبول أوراق أحد الطلبة المهاجرين بحجة أن الحصص المقررة للمهاجرين في مجال التعليم قد استنفدت، فما كان من هذا الطالب الذي كان يدعى ألطاف حسين إلا أن شكل تنظيمًا للطلبة المهاجرين هدفه الدفاع عن حقوقهم، وسرعان ما تطور هذا التنظيم الطلابي إلى حزب سياسي أعلن عن قيامه في عام 1983م، وأصبح ألطاف حسين هو مؤسس وزعيم حركة المهاجرين القومية، وهو يقيم الآن في بريطانيا بسبب ملاحقته من القضاء الباكستاني منذ عام 1992م، بتهمة القيام بعمليات هجومية ضد مصالح حكومية، حيث اندلعت المواجهات الدموية بقوة بين الحكومة وحركة المهاجرين منذ ذلك الوقت.
وقد أدت عمليات العنف والإضراب المستمر في كراتشي منذ أكتوبر الماضي، 1994م، وحتى الآن إلى شلل الحياة في الإقليم والتأثير على الحركة الصناعية والتجارية في باكستان كلها؛ لأن كراتشي تعتبر مركز التجارة والصناعة الرئيسي في البلاد.
ويقول ألطاف حسين -زعيم حركة المهاجرين القومية المقيم في بريطانيا- إن المهاجرين يبلغ عددهم 22 مليون نسمة من مجموع سكان باكستان الذي يبلغ مائة مليون، ويطالب المهاجرون بثمانية عشر مطلبًا من أهمها إعادة النظر في قانون الحصص الذي تم تشريعه في عام 1973م، والذي يحرم كثيرًا منهم من فرص التعليم والتعيين في مؤسسات الدولة، ويطالبون بإلغاء هذا القانون والاعتماد فقط على الكفاءات الشخصية.
كما يطالب المهاجرون بإعادة النظر في توزيع الوظائف العليا في إقليم السند، حيث يقولون بأنهم يشكلون ما نسبته 50% من سكان الإقليم و80% من سكان مدينة كراتشي، كذلك يطالبون بإعادة تحديد الدوائر الانتخابية في الإقليم بما يضمن لهم تمثيلًا عادلًا في البرلمان، كما يطالبون الحكومة بإعطاء مدينة كراتشي أهمية في الخدمات والبنية الأساسية التي لم تتطور مع نمو سكان المدينة التي تزود باكستان بما يقرب من 70٪ من دخلها القومي، ورغم أن لب المطالب يبدو وجيها إلا أن التركيبة العرقية والطبقية في البلاد، وإصرار الطرفين على اعتماد طريقة لحل المشكلة لن يؤدي إلا إلى مزيد من سفك الدماء.
إن جذور مشكلة المواجهات الدائرة في كراتشي تعود إلى سبب رئيسي يتعلق بالمنتصرين في الحرب العالمية الثانية وعلى رأسهم بريطانيا والولايات المتحدة، لأنهم حينما أعادوا رسم خريطة العالم من جديد بعد انتهاء الحرب، تفننوا وهم يمزقون خريطة العالم الإسلامي، وحرصوا ألا يتركوا مكانًا فيه ينعم بالاستقرار، فجعلوا المشكلات الحدودية والعرقية لبًّا لصراع لا ينتهي بين المسلمين، ويبدو أن شعوب العالم الإسلامي ستظل تتجرع المرارة حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده .
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل