العنوان بين جهل معظم الغربيين وتنطع بعض المسلمين.. معركة الحجاب... الدور على إسبانيا
الكاتب نوال السباعي
تاريخ النشر السبت 09-مارس-2002
مشاهدات 20
نشر في العدد 1491
نشر في الصفحة 38
السبت 09-مارس-2002
حوار ساخن ملتهب، وخطير على كل المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية فجره في إسبانيا، وضع فتاة مغربية صغيرة في الثالثة عشرة من عمرها، قال والدها: إنها لم تقبل أولا في إحدى المدارس الدينية في «الإسكوريال» إحدى ضواحي مدينة مدريد، ثم رفض قبولها بعد ذلك في مدرسة حكومية مجاورة، مما دعا جمعية الدفاع عن حقوق العمال المغاربة «A.T.M.E.» التي يتزعمها أحد أبرز المحامين، الذين ينتمون إلى الحزب الشيوعي المغربي، إلى عقد مؤتمر صحفي طالب فيه بحقوق الفتاة الدستورية، وعلى رأسها حق الالتحاق بالمدرسة، وعدم منعها من فرصتها في تلقي التربية والتعليم اللازمين وبحجابها؛ حيث قال: إنه لا يوجد في الدستور الإسباني ولا القوانين ما يمنع الفتاة من ارتداء حجابها إن أرادت.
كما هدد بنقل المسألة إلى المحكمة الدستورية العليا في البلاد، مما دفع الحكومة المحلية في مقاطعة مدريد وضواحيها إلى إصدار أمر ملزم للمدرسة الحكومية بقبول الفتاة بحجابها دون قيد أو شرط هذا الحكم، وبدلًا من أن ينهي المشكلة، فجر صمام الصمت في المجتمع الإسباني على جميع المستويات وفي كل الاتجاهات، بدءًا بالوزراء. مرورًا بوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، بحيث احتلت القضية الاهتمام الرئيس في صدر صفحات نشرات الأخبار وطبعات الصحف ومواقع الإنترنت الأيام عدة، حتى تجاوز عدد المتحاورين حول القضية في غرف الدردشة الإسبانية بعد ساعتين فقط من صدور أمر المحكمة المحلية في مقاطعة مدريد مليون محاور، كانت نسبة الغاضبين منهم من الذين يؤيدون إرغام الفتاة على نزع حجابها لدى دخول المدرسة ٦٨%، ثم قفزت النسبة بعد خمسة أيام إلى ٨٦% من الذين يصرون على إرغام المهاجرين على التزام عادات وتقاليد البلاد التي يعيشون فيها.
وقد اعتبر الشعب الإسباني الأمر الصادر بحق الفتاة، ودخولها المدرسة بالحجاب تحت حراسة أمنية مشددة هزيمة للوجود الثقافي الإسباني على أرض إسبانيا، وعبر كثيرون من الإسبان عن مخاوفهم من أن يصبحوا أقلية في بلادهم خاصة، وقد نقلت روايات عن أن بعض الشباب من المهاجرين المغاربة في مناطق ازدحام المهاجرين في مدن مثل «ألكانتة» و«ألمرية»، وصاروا يتعرضون للنساء الإسبانيات، ويوجهون إليهن الإهانات والشتائم؛ لأنهن يدخن السجائر أو يذهبن إلى البحر للاستحمام، وقد عبرت مئات الآلاف من مداخلات الإنترنت عن غضب إسباني عارم على كل ما هو إسلامي، وترددت عبارات مثل« ليرحلوا إلى بلادهم ليلتزموا هنالك البرقع والشادور، وليتركوا بلادنا» أو «على الذي يهاجر إلى إسبانيا أن يلتزم قوانيننا وأعرافنا وقواعد السلوك المتعارف عليها هاهنا»، أو «كفى تساهلًا مع المهاجرين» أو «يجب ذبح هذه الموريتا - تصغير كلمة مورا – وأبيها؛ لكي يعرف هؤلاء الدخلاء حدودهم أو هذا الحجاب ليس إلا الجزء الصغير جدًّا الظاهر على سطح الماء من جبل الجليد الضخم المختفي تحته!.
الصحف الإسبانية نشرت دراسات وتحقيقات عن معاملة غير المسلمين أو الأجانب في بعض البلاد العربية، واستعمل هذا الموضوع كسلاح في مواجهة حجاب المرأة المسلمة في إسبانيا، بل كان هناك اتفاق بين جميع مثقفي وسياسيي إسبانيا - على أن الحجاب رمز لقهر المرأة، وأنه لا توجد على وجه الأرض امرأة واحدة ترضى أن تلتزم الحجاب باختيارها وحريتها!، حدث ذلك دون أن يسمح لمسلمة واحدة أن تعبر عن رأيها في وسائل الإعلام، اللهم إلا ما كان من قيام عدد من الفتيات المسلمات من الجيل الثاني، بإجراء بعض المقابلات التلفزيونية السريعة، والتحقيقات الصحفية العابرة، والتي ضربن فيها أروع الأمثلة عن الفتاة المسلمة المولودة في إسبانيا وتمسكها بدينها مع اندماجها في المجتمع الإسباني، الشيء الذي لم يفعل فعله المرجو؛ بسبب التيار العدائي الجارف للإسلام والمسلمين باسم معاداة الحجاب وأهله، ودون أن نرى أي ناطق أو ناطقة باسم المسلمين يتصدى للرد على مثل هذه الهجمة التي فاقت في حدتها وخطورتها تلك التي عاناها المسلمون عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وقد تجاهلت تلك الحملة الضغط النفسي الهائل، الذي تتعرض له الجاليات العربية والإسلامية، والذي قد يتسبب إذا استمر في هذا الاتجاه في ولادة تيار جديد من الإرهاب المضاد الشيء الذي لا يرغب فيه أحد من الطرفين.
لقد لعبت وسائل الاعلام في قضية الحجاب هذه-كما بعد الحادي عشر من سبتمبر-دورًا بالغ الخطورة في تعبئة الرأي العام ضد الإسلام دينًا وثقافة وإنسانًا متمثلًا في «قطعة قماش» -كما سمتها الصحف الإسبانية -؛ لأنها حاولت تبني موقف الشارع الذي يعاني رفضًا وعنصرية متناميين في بلد لم يستطع بعد هضم هذا الارتفاع الهائل والسريع في عدد المهاجرين، الذي قفز خلال عام واحد من 300.000 ليصبح أكثر من مليون مهاجر.
تسابق لركوب موجة رفض الأجانب
الغريب في الأمر أن وسائل الإعلام – اليمينية، منها واليسارية - التي أرادت أن تتسابق لركوب موجة رفض الأجانب، قامت بإعادة صناعة كراهية، ورفض المهاجرين المنتشرة في الشارع الإسباني؛ لتقدمها للرأي العام من جديد على أنها فكرة صدام الحضارات ملفوفة بحجاب «فاطمة الإدريسي»، وعليها ختم مذهب باسم الدفاع عن حرية المرأة وكرامتها.
وقد تورط في هذه الفضيحة وزراء ومسؤولون في كلا الحزبين الاشتراكي والشعبي المحافظ، وكبار الإعلاميين والصحفيين وصناع الرأي الذين قال كثيرون منهم: «إذا رضخنا لمسألة الحجاب، فسنجد أنفسنا مضطرين بعد حين لإجراء عمليات ختان الإناث في مراكز التأمينات الصحية الاجتماعية».
وكتب أحدهم في صحيفة «البايبس» يقول: أمضت حكومتنا ووسائل إعلامنا أعوامًا وهي تحاول إفهامنا وإقناعنا بخطورة البرقع باعتباره سجنًا غير إنساني للمرأة يحد من حركتها، ويجرح كرامتها، ومافتئنا نحارب ونحتقر ونشمئز من عمليات الختان الرهيبة لفتيات المسلمين، ثم تأتون الآن تريدون أن ترغموا الشعب على قبول الحجاب؟!.
لقد كشفت هذه القضية مدى التخبط والجهل المريع بالإسلام، ومدى الخلط الكبير بين الإسلام وبين ثقافات العديد من الشعوب الإسلامية وعاداتها وتقاليدها التي هي بمجملها بعيدة عن روح الدين الإسلامي، وهذه جريمة يشترك فيها المسلمون بتنطع بعضهم وتقصيرهم وانعدام الكوادر المؤهلة لتقديم الإسلام للعالم، كما يشترك فيها الغربيون وعلى رأس ذلك وسائل الإعلام التي تخلط عن عمد أحيانًا وعن جهل أحيانًا كثيرة بين الأمور، مع وجود نيات خبيثة مبيتة؛ لتأجيج الحقد والعداء والصدام.
ولم تقف القضية عند هذا الحد، بل تفجرت على إثرها قضايا أخرى أشد خطورة، إحداها تتعلق بفتاة مغربية وإخوتها الستة الذين رفض والدهم أن يدخلوا إحدى المدارس الدينية التي قبلتهم رغم وصولهم في منتصف العام الدراسي، وقررت أن تخصص لهم مدرسًا خاصًّا؛ ليعلمهم اللغة الإسبانية، كما لم تلزمهم دروس التربية الدينية الإلزامية - وهو شيء غير معتاد ولا معهود من قبل مدارس الراهبات هذه - فقد خرجت الفتاة لتقول أمام كاميرات الإعلام: إن والدها لا يريد لأبنائه أن يتعلموا الدين المسيحي، كما أن إخوتها يخافون من التماثيل ويبكون، وقد نسي الوالد وأولاده أنهم إنما هاجروا إلى بلد كاثوليكي، وإذا لم يتمكنوا من التأقلم فيه، فإن عليهم أن يعودوا من حيث جاءوا دون أن يتسببوا في استعداء أصحاب البلد على جميع المهاجرين القادمين من البلاد الإسلامية.
وهكذا وجدت الجاليات العربية والإسلامية نفسها مسحوقة نفسيًّا بين تنطع بعض المسلمين وجهلهم بوسائل التعامل مع الآخرين وبطبيعة الحديث في وسائل الإعلام، وبين جهل وسائل الإعلام من جهة أخرى ونيتها الفاسدة المبيتة، وفتحت على هذه الجاليات جبهة غير مرغوب فيها أغرقتها في حالة من الخوف والترقب والاضطراب خاصة في غياب أي نوع من أنواع التنظيم أو التنسيق أو حتى مجرد القدرة على القيام بدور إعلامي يرد عنها الاتهامات، ويعدل من تشويه الصورة في الذهن الإسباني المشحون بالحقد والاستصغار للجار الجنوبي، وفي الشخصية الإسبانية التي تستحي من تاريخ يثير الأسف بل والخجل من وجهة نظر الإسبان؛ حيث استطاع هذا المسلم أن يحكم إسبانيا ثمانية قرون، وقد نسي القوم تمامًا أن هذا المسلم نفسه هو الذي كان قد حكم العالم كله، ونشر حضارة إنسانية نادرة المثيل في أنحاء الأرض بالعدل والرحمة والعلم والمعرفة، ولكنه القانون الأزلي في مداولة الأيام بين الناس.
من الحجاب إلى قضايا المهاجرين
لقد فتحت هذه القضية باب حوار خطير ومسعور، لم يقتصر على قضية الحجاب فحسب، بل امتد ليشمل الحديث عن حقوق المهاجرين التي أن توضع من الآن فصاعدًا موضع البحث والدرس، كذلك فقد وضع هذا الحوار كلًا من الديمقراطية والدستور في إطار مستجدات التعدد الثقافي والديني والعرقي في إسبانيا، التي بدأت تتحول بسرعة غير طبيعية إلى بلد مستقبل للهجرات المتتالية، وبحيث كاد أطفال الإسبان يصبحون أقلية في بعض مناطقهم ومدارسهم وسط هجرات متتالية كثيفة، وقد بلغ الحال ببعض المدارس أن تستقبل بين جنباتها أطفالًا من ۱۲۲ جنسية مختلفة، مما أدى إلى وضع دور المدرسة اليوم تحت مجهر الداعين إلى تعديل شامل للنظام التربوي في ظل غزو حضاري يرون أنه يتناقض مع القناعات الديمقراطية والدستورية للقائمين على هذه المؤسسة التي تعتبر مع وسائل الإعلام حجر الأساس في المجتمع الإسباني الحديث.
كذلك فقد كشف الحوار حول الحجاب عن صراع كان صامتًا نوعًا ما بين المهاجرين من المسلمين والإسبان لينقلب بين عشية وضحاها إلى صراع علني ورفض عام جماعي، بعد أن قضى أكثر من عشرين عامًا في محاضن الصراع الشخصي والصدامات اليومية المعتادة التي طالما جعلت من حياة المسلم الملتزم بدينه أو غير الملتزم نوعًا من المعاناة اليومية النفسية والعصبية والفكرية التي تسم حياته ووجوده وطريقة تفكيره.
الكثير من التساؤلات والكثير من المخاوف المشتركة، ومشاعر الرفض والكراهية المتبادلة والنبذ والعنصرية التي جعلت البعض يتحدث عن هولوكوست غربي جديد ضد المسلمين، والكثير الكثير من الغضب والانتصار للذات والإنسان الإسباني الذي هو اليوم بأمس الحاجة إلى اليد العاملة الأجنبية لكنه لا يريد الاعتراف بحاجته إليها، كما لا يريد أن يعترف بوجودها، وهي التي أصبحت تشكل جزءًا من وجوده، أو أنه يريد لها أن تكون يدًا منحنية؛ لتقبيل يده المنعمة، بهذا النوع الجديد من عبودية القرن الحادي والعشرين الذي يستحل لنفسه استعباد البشر باسم حقوق الإنسان، فما يراه الغرب حقا فهو الحق، وما يظنه سلوكًا إنسانيًّا ملائمًا فهو إذن السلوك الإنساني الملائم، وإذا اعتبر الغرب حجاب المرأة المسلمة نوعًا من التمييز الجنسي ضد النساء فهو كذلك - شاء من شاء وأبى من أبى -.
لقد وصلت معركة الحجاب إلى إسبانيا أخيرا، بعد جولات أخرى لها في كل من ألمانيا ومصر ولبنان وسورية وتونس وفرنسا وتركيا –على التوالي تاريخيًّا- ودون أي نتيجة ترجى باتجاه نزعه أو الخلاص منه، لكن هذه المعركة كانت قد وصلت إلى إسبانيا التي لحقت للتو بركب الدول المستقبلة للهجرات متأخرة وعلى عجل، ودون أن يتهيأ شعبها بسرعة موازية لمثل هذا التغيير الخطير والسريع في بنية بلاد كانت قد قامت أصلًا على فكرة دحر العرب وإخراجهم من الأندلس، ودون أن تكون إسبانيا مهيأة لذلك بتقاليد إنسانية ديمقراطية عريقة تحفظ للجاليات حقوقها الإنسانية على الأقل، والتي تحول دون غرقها الجماعي في نوع من الإحباط والكآبة يماثلان ما أصيب به العرب من قبل في بلادهم، واللذان تسببا أصلًا في خروج هذه الموجات من الهجرة من جهة، وفي ولادة تيارات الإرهاب والعنف من جهة أخرى.
التعويل على سيادة القانون
إلا أن الديمقراطية والدستور وسيادة القانون، وعلى الرغم من هذا الوضع الخطير، كانت قد ثبتت قبل أشهر في وجه محنة الحادي عشر من سبتمبر التي وجد فيها المسلمون أنفسهم في مواجهة مخاوف تتعلق بسلامتهم المادية قبل المعنوية، وعاشت الجاليات أسابيع من الخوف المربع الذي أثر على نفسيات الأطفال والشبيبة دون أن تلتفت وسائل الإعلام أو محامي الشعب - الذي كان على رأس المنددين بالحجاب اليوم -أي التفاتة إلى قضية بمثل هذه الخطورة، وهي تمضي في دأبها على تأجيج ما يسمى بـ«صدام الحضارات»، الذي ثبت خطؤه كنظرية؛ لأن العيش المشترك والتعايش بين الإسباني والمهاجر المسلم أثبت انتصاره على وسائل الإعلام ومنظري الصدامات، وأولئك المنذرين بين يدي حروب ستظل حبيسة عقول مريضة تعشق سفك الدماء، وهي لا تريد أن تفهم أن الحجاب كان قد عاش في هذه البلد منذ ربع قرن في مواجهة ضغوط ومضايقات وقهر فردي مؤلم، وإصرار على البقاء وسط هذا الجو من الرفض، الذي ما كان يجب أن يخرج قط من دائرة الصراع الفردي، ليصبح هجمة رسمية جماعية على مجموعة تعيش وتتعايش، ولا تملك وسيلة لرد مثل هذا العدوان الثقافي والنفسي والفكري على وجودها الإنساني والثقافي والديني، وأقول: عدوانًا؛ لأنه ترتب عن «حوار طرشان» من طرف واحد لم يسمح فيه حتى الآن للطرف الآخر بمجرد عرض وجهة نظره في وسائل الإعلام التي رفعت حرابها لبدء المعركة.