العنوان تبسيط الفقه الوديعة
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 08-أغسطس-1972
مشاهدات 21
نشر في العدد 112
نشر في الصفحة 30
الثلاثاء 08-أغسطس-1972
من المعاملات التي اهتم بها التشريع الإسلامي: الإيداع والاستيداع.
فالإيداع: أن توكل غيرك في حفظ مال لك تبرعًا منه.
والاستيداع: قبول هذا التوكيل.
والوديعة: هي الشيء المودع من نقود، أو متاع، أو حيوان، أو غير ذلك.
ويطلق الناس عليها «الأمانة»، وهي داخلة في معناها لغةً وعرفًا وشرعًا.
وصاحب المال يسمى «المودع»، والموكل بحفظه يسمى «المودع».
حكم الإيداع والاستيداع
والإيداع والاستيداع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع؛ لأنه نوع من التعاون على البر والمعروف، يقوم على ائتمان الناس بعضهم لبعض؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ (النساء: ٥٨)، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ (البقرة: ٢٨٣)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المؤمنون: ٨)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة لمن ائتمنك».
وأجمع المسلمون على جواز الإيداع والاستيداع.
ويستحب قبول الوديعة لمن علم من نفسه أنه ثقة قادر على حفظها؛ لما فيه من قضاء حاجة أخيه المسلم ومعونته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
أما من خاف من نفسه التفريط أو امتداد يده إليها، فيكره له قبولها، وربما حرم، إلا برضا صاحبها بعد إعلامه بحاله، لئلا يغره.
مَنْ يجوز منه الإيداع والاستيداع؟
ولا يجوز الإيداع والاستيداع إلا من جائز التصرف؛ لأنها نوع من الوكالة، فلو أودع ماله لصغير أو مجنون أو سفيه، فأتلفه فلا ضمان؛ لتفريطه بدفعه إلى من ليس أهلًا للوديعة.
وإن أودعه أحد هؤلاء ماله صار ضامنًا، لتعديه بأخذه؛ لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي فضمنه كما لو غصبه، ولا تبرأ ذمته إلا برده لوليه. وإن رأى مالًا مع صبي أو مجنون، فخاف هلاكه معه إن تركه فأخذه منه ليصونه، لم يضمنه لقصده به تخليصه من الهلاك والضياع، فالحظ فيه لمالكه.
يد المودع يد أمانة
والمودع أمين، لا يضمن؛ إلا إذا تعدى أو فرط أو خان؛ لأن الله تعالى سماها أمانة، والضمان ينافي الأمانة، وفي الحديث: «من أودع وديعة فلا ضمان عليه». ولأن المودع لا حاجة له في الوديعة، وإنما الحاجة حاجة صاحبها، والمودع إنما هو وكيل عنه في حفظها، فلا يجوز أن يضمن، وإلا امتنع الناس من الدخول فيها مع مسيس الحاجة إليها.
ماذا يجب على المودع؟
يجب على المودع حفظ الوديعة فيما يعتبر حرزًا لها عرفًا لما يحفظ ماله؛ لأن المقصود من الإيداع الحفظ، والاستيداع التزام ذلك، فإذا لم يحفظها كان مخلًّا بما التزمه؛ لأن الله أمرنا بأداء الأمانات إلى أهلها، ولا يمكن أداؤها بدون حفظها، فإذا قصر أو سوف في حفظها في حرز مثلها -مع القدرة- كـــــــــان ضامنًا لها إذا ضاعت أو تلفت.
فإن عين صاحبها له حرزًا وقال له: احفظها فيه، كأن يقول له: احفظها في خزانتك الخاصة، فخالفه ووضعها في حرز دون الذي عينه له؛ كان ضامنًا لأنه أخل بالتزامه، وخالف المالك في حفظ ماله.
فإن وضعها في حرز مثل الذي عينه له، بعيد عن الخطر، فلا ضمان عليه؛ لأن المقصود الحفظ، وتقييده إياه بهذا الحرز يقتضي ما هو مثله، وما هو فوقه من باب أولى. ويستوي في ذلك أن يحفظها بنفسه، أو بمن يقوم مقامه كزوجته وخازنه الذي يحفظ ماله عادة. فإن دفعها إلى أحدهم فتلفت لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه عادة، فأشبه ما لو سلم الماشية إذا كانت مودعة إلى الراعي.
وإن دفعها العذر -كأن حضره الموت أو أراد سفرًا أو خاف عليها- إلى أجنبي ثقة أو إلى حاكم، فتلفت، لم يضمن؛ لأنه لم يتعد، ولم يفرط.
وإن نهاه مالكها عن إخراجها من حرزها، فأخرجها لطروء شيء يخشى منه الهلاك غالبًا -كحريق وسطو لصوص- فتلفت، لم يضمن ليقين إخراجها في هذه الحال؛ لأن في تركها تضييقًا لها.
وإن تركها ولم يخرجها -مع أن الغالب الهلاك- فتلفت، ضمن لتفريطه.
وإن قال له ربها: «لا تخرجها ولو خفت عليها» فحدثَ ما يخاف منه -كحريق ونهب- فلا ضمان عليه إذا تلفت، سواء أخرجها أم لا؛ لأنه إن تركها فهو ممتثل أمر صاحبها لنهيه عن إخراجها ولو خاف عليها، وإن أخرجها فقد زاده خيرًا وحفظًا، كما لو قاله: أتلفها فلم يتلفها. وإن أودع عنده حيوانًا، فلم يعلفه أو لم يسقه حتى مات جوعًا أو عطشًا ضمنه؛ لأن علفه وسقيه من كمال الحفظ الذي التزمه بالاستيداع، بل هو الحفظ بعينه؛ إذ الحيوان لا يبقى عادة بدونه.
ماذا يصنع المودع عند السفر؟
إذا أراد المودع السفر رد الوديعة إلى مالكها أو من يحفظ ماله عادة كزوجته؛ لأن فيه تخليصًا له من تبعتها، وإيصالها للحق إلى مستحقه.
فإن تعذر -بأن لم يجد المالك ولا وكيله ولا من يحفظ ماله عادة- ولم يخف عليها من حملها معه في السفر، ولم ينهه المالك عن ذلك، سافر بها ولا ضمان عليه؛ لأنه موضع حاجة، ولأن القصد الحفظ وهو موجود هنا. وإن خاف عليها دفعها للحاكم، لقيامه مقام صاحبها عند غيبته، ولأن في السفر غررًا، ومخاطرة، لأن عرضة للنهب وغيره.
فإن تعذر دفعها للحاكم، دفعها لثقة، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان عنده ودائع للمشركين، فلما أراد الهجرة أودعها عند أُمِّ أيمن، وأمرَ عليًّا أن يردها إلى أهلها.
من صور التعدي الممنوعة
وقد شدد فقهاء الإسلام في أمر الوديعة وحفظها، وحذروا من أي تعدٍّ أو تفريط أو خيانة، ومما يعتبر من التعدي وتجاوز حدود الأمانة أن يستعمل المودع الوديعة في أغراضه الشخصية؛ كأن يلبس الثياب لا لخوف العثة، أو يركب الدابة لا ليسقها، أو يخرج النقود لينفقها أو لينظر إليها -ولو ردها كما كانت- كأنه لو فض ختمها أو حل كيسها فقط حرم عليه، وصار ضامنًا، وقد زالت بالتعدي. ولا تعود أمانة بغير عقد جديد كأن يردها إلى صاحبها، ثم يردها هو إليه؛ لأن هذه وديعة ثانية، قال الإمام مالك: «كلما خنت ثم عدت إلى الأمانة فأنت أمين».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل