; تحت وابل النيران في البوسنة «الحلقة الثانية عشرة والأخيرة» الخروج من الثلاجة | مجلة المجتمع

العنوان تحت وابل النيران في البوسنة «الحلقة الثانية عشرة والأخيرة» الخروج من الثلاجة

الكاتب أحمد منصور

تاريخ النشر الثلاثاء 21-مارس-1995

مشاهدات 11

نشر في العدد 1142

نشر في الصفحة 38

الثلاثاء 21-مارس-1995

شعرت أني أمام مأزق كبير حينما قاربت مهمتي الصحفية في العاصمة المحاصرة سراييفو على الانتهاء؛ فالمطار لا زال مغلقًا منذ أسابيع عديدة ولا يعلم متى يفتح، كما أن العودة من حيث أتيت وهي عن طريق الخروج من النفق، ثم عبور جبل إيجمان ليلًا مع ميرزا ومغادرة البوسنة برًّا أصبحت شبه مستحيلة بعد ما سقطت الثلوج على سراييفو وكافة أنحاء البوسنة بغزارة، وأصبح ارتفاعها يزيد على نصف متر في معظم المناطق، مما يعني استحالة التحرك بالسيارة ليلًا دون إضاءة في الطرق الجبلية الخطيرة، وزاد من شدة مأزقي ما سمعته من كثير من المراسلين الصحفيين الذين لقيتهم والذين روى لي بعضهم أنهم قضوا فى بداية الحرب أسابيع طويلة لا سيما في الشتاء كانوا ينتظرون فيها فرصة للخروج من جحيم الحرب والحصار في سراييفو، وأن طائرات الأمم المتحدة وهي الطائرات الوحيدة التي يسمح لها بالهبوط والإقلاع من مطار سراييفو -إذا فتح- ترفض في كثير من الأحيان أن تقل مدنيين على متنها حتى ولو كانوا من الصحفيين بحجة عدم المسئولية عن آمنهم وحياتهم.
هنا فقط بدأت أشعر بمعنى الحصار فالأيام الأولى التي قضيتها في سراييفو لم أشعر فيها بالحصار كما يشعر به أهل سراييفو نظرًا لانشغال جدول أعمالي من الصباح وحتى ساعة متأخرة من الليل، ولأني جئت لمهمة كل أملي هو إنجازها على خير وجه وفي أسرع وقت، أما حينما بدأت أفكر في الخروج من سراييفو فقد بدأت معاني وحقائق الشعور بالحصار تجتمع عليّ كلها الواحدة تلو الأخرى وبدأت أشعر بمعان جديدة وإيقاع خاص لكل كلمة سمعتها من أهل سراييفو المحاصرين. 
بدأ إيقاع كلمات الحصار يدق في نفسي بعمق لسبب بسيط هو أني شعرت بأني قد تحولت من شخص جاء لينقل معاناة هؤلاء المحاصرين ويصورها إلى الناس إلى شخص محاصر مثلهم يتجرع مرارة الحصار وفقدان الحرية تحت وابل القصف والقنص من الصرب المجرمين، وبدأت هذه المشاعر تترسخ وتزداد مع انقطاع الكهرباء والماء بشكل شبه دائم عن الاستراحة التي كنت أقيم فيها رغم أنها كانت تتمتع بامتياز خاص من الحكومة البوسنوية في الخدمات، ومع عدم وجود غاز بها فقد أصبحت ثلاجة صغيرة داخل الثلاجة الكبيرة وهي العاصمة سراييفو ثلاجة أوروبا، كما يطلق عليها الأوروبيون.
أصبح الشعور بالدفء أملًا صعب المنال حتى تحت كومة البطاطين التي كنت أستدفئ بها حينما آوي إلى الفراش، وأصبح الشعور بالأمن ولو لحظات حلمًا مثل أحلام النوم الهادئ الذي كنت أفتقده طوال إقامتي في سراييفو، فقد زاد الصرب من قصفهم للمدينة ليلا ونهارا ولأني كنت أقيم في الحي الإسلامي القديم من سراييفو والذي كان كل شبر فيه هدفًا من أهداف الصرب، فقد كان الهدوء حتى في سكون الليل هدوء قلق وترقب وانتظار لأصوات القذائف ورشقات الأسلحة الأوتوماتيكية، وكان سقوط أي شيء ولو بسيطًا داخل الغرفة كفيلا بأن أستيقظ مفزوعًا مثل سكانها الذين كنت ألمح الذعر في أعينهم وسلوكيات حياتهم وأنا أرقبهم أثناء تجوالي طوال اليوم في شوارع المدينة القديمة. خرجت لأول مرة إلى شوارع المدينة المذعورة لا لأقرأ معاني الذعر في عيون وحركات أهل سراييفو المحاصرين، كما كنت أفعل كل يوم، ولكن لأمارس حياة الذعر والحصار مثلهم وكان حظي في أول يوم هو سقوط قذيفة في السوق قتل وجرح من جرائها تسعة أشخاص ظلت دماؤهم طوال اليوم تغطي مساحات كبيرة من الثلوج التي كانت تغمر المكان.
بارقة أمل
بعد يومين من البحث عن مخرج بدت بارقة أمل مفادها أن مطار سراييفو سوف يفتح، وأبلغني الزميل أسعد طه مراسل «المجتمع» و«الحياة»، في ساعة متأخرة من الليل أنه سوف يتوجه إلى المطار صباحًا، وسوف يبقى هناك حتى تقله أية طائرة مغادرة إلى أي مكان خارج سراييفو بعد انتشار شائعة فتح المطار بين المراسلين الصحفيين الذين كان قد دب الملل والإرهاق في نفوس كثير منهم، وكانوا بحاجة إلى راحة ولو بضعة أيام خارج العاصمة المحاصرة. 
اتصلت صباحًا في مكتب الأمم المتحدة لأستفسر عن صحة الشائعات فأكدوا لي أنها صحيحة، غير أن عليّ أن أبقى يومًا آخر لأنهم فتحوا المجال للمدنيين عدة ساعات، ثم أغلقوه مرة أخرى وقصروه على العسكريين فقط. 
كانت ساعات الانتظار حتى يحين الصباح طويلة، وبدأت أستشعر معنى الآية الكريمة... ﴿أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ ﴾ (هود: 81)، وأنا أترقب الصباح في ليلة باردة مظلمة من ليالي شتاء سراييفو، وحينما جاء اليوم التالي ظللت حتى نهاية النهار لا أتلقى تأكيدات من مكتب الأمم المتحدة بإمكانية المغادرة في اليوم التالي، وفي آخر اتصال معهم أبلغتني المسئولة بإمكانية ذهابي للمطار صباحًا غير أن المغادرة تتوقف على عوامل كثيرة منها الطقس الذي كان سيئًا في ذلك الوقت.
الطريق إلى مطار سراييفو
لم أستطع النوم بعد الفجر، كما لم أستطع قبله سوى نوم قلق كان يقطعه دوي المدافع التي كانت تسمع في صمت الليل من بعيد، وجلست بعد صلاة الفجر أنتظر بزوغ النهار ومجيء صاحبي الذي كان سيرافقني إلى المطار، والذي وعدني أن يمر عليّ في الثامنة صباحًا، إلا أن الوقت قد مر وتجاوزت الساعة التاسعة صباحًا ولم يأت صاحبي، اتصلت في مكتب الأمم المتحدة فسألتهم عن وجود طائرات مغادرة إلى زغرب عاصمة كرواتيا وهي الطريق الطبيعي لعودتي، فأبلغوني عن وجود رحلة في العاشرة، ويمكنني اللحاق بها إن وصلت للمطار قبل ذلك الوقت.. إلا أن صاحبي لم يأت، وبعد لأي حصلت على هاتفه، وحينما اتصلت به وجدته لا زال نائمًا فأسقط في يدي وأيقنت أن اللحاق بالطائرة شبه مستحيل؛ لأن صاحبي أبلغني أنه لن يستطيع المجيء إليّ قبل ساعة على الأقل لأن بيته بعيد ولأن الطقس سيئ للغاية والثلوج تعيق حركة السيارات ولم أجد مفرًا من الاستسلام لما يقدره الله. 
جاء صاحبي قبل العاشرة بقليل وبقي عندي أمل لكنه طمأنني وقال: لا تقلق، فالمهم الآن هو أن تخرج من سراييفو وإن لم تستطع اللحاق بهذه الطائرة فيمكنك الذهاب إلى مطار أنكونا في إيطاليا أو سبليت في كرواتيا وتغادر من هناك إلى زغرب، وحينما وصلنا إلى حي دوبرينيا وهو الحي الذي يقع به المطار والذي أشرت إليه من قبل، وأجريت حوارًا مع قائده عصمت حجيتش كانت معالم الدمار بارزة فيه أكثر من باقي أحياء المدينة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا الحي نهارًا فقد جئته ليلًا مرتين: أحدهما حينما دخلت سراييفو عن طريق النفق، والأخرى حينما أجريت حوارًا مع حجيتش.
وعند حاجز أقامته القوات الفرنسية التابعة للأمم المتحدة، والتي تسيطر على المطار عند أطراف حي دويريينا طلبوا منا أن نترك السيارة ونواصل طريقنا إلى المطار سيرًا على الأقدام؛ لأن السيارة التي كنا نركبها لم تكن سيارة مصفحة ولا يسمح سوى للسيارات المصفحة بالمرور من هذه الطرق إلى المطار، فقلنا لهم إننا سوف ندخل على مسئوليتنا فرفضوا وقالوا: إن كثيرين قد دخلوا على مسئوليتهم وقتلوا من القناصة.
سألت صاحبي عن المخرج فقال ليس هناك مفر سوى الذهاب سيرًا على الأقدام أو انتظار سيارة مصفحة يمكن لركابها أن يسمحوا لنا بالصحبة معهم، فقلت له كم المسافة مشيًا قال: ما يقرب من كيلومترين فقلت متعجبًا وكيف نسير كيلومترين في هذه الثلوج الغزيرة وهذا الطقس السيئ وتحت مرمى القناصة في طريق مكشوف؟
التفت إلى الجندى الفرنسي وقلت له كيف تسمحون لنا بالذهاب سيرًا على الأقدام ولا تسمحون لنا بالذهاب بالسيارة، والسير على الأقدام أكثر عرضة للقنص والخطر من المشي بالسيارة قال: هذه أوامر يا سيدي. 
أدركت أن نقاشي معه سوف يدخلني في جدل عقيم لم أكن مستعدًا له، وتذكرت بعض الصحفيين الغربيين الذين قتلوا برصاص القناصة الصرب على هذا الطريق المؤدي للمطار، وتذكرت حقي تورياليتش -نائب رئيس الوزراء البوسنوي- الذي قتل أيضًا في نفس الطريق على أيدي الصرب، وكان يستقل مدرعة تابعة للأمم المتحدة اكتفوا بمشاهدة الجريمة دون أن يحركوا ساكنًا.
قلت لصاحبي: سوف ننتظر حتى تأتي سيارة مصفحة يقبل أصحابها ركوبنا معهم أو تأتي مدرعة من مدرعات الأمم المتحدة تكون متجهة إلى المطار فالساعة قد تجاوزت العاشرة وكان اللحاق بطائرة زغرب شبه مستحيل.
وبعد لحظات جاءت سيارة مصفحة تابعة لإحدى المنظمات الإغاثية تحمل العلم البريطاني ورحب قائدها بمرافقتنا لهم إلى المطار، وحينما وصلنا إلى المطار أسرعت بحقيبتي الصغيرة على أمل اللحاق بطائرة زغرب إلا أن أحد الفرنسيين العاملين في المطار قال لي بأسف: معذرة يا سيدي لقد أقلعت الطائرة منذ دقائق.
فقلت له أليس هناك طائرة أخرى؟ قال: هذا يتوقف على الطقس ويمكنك التأكد من ضابط الاتصالات بالداخل.
في مطار سراييفو
لم يكن هناك مبنى للمطار فقد كان واضحًا أن كل مباني مطار سراييفو قد أصبحت أطلالًا وكل ما رأيته هو الدشم والآليات العسكرية وأكياس الرمال والجنود الفرنسيون، أما المبنى الذي تتم فيه إجراءات السفر فلم يكن سوى غرف خشبية باردة بها أضواء خافتة أبلغني ضابط الاتصال أن هناك طائرة أخرى في الساعة الثانية بعد الظهر فقررت الانتظار حتى الثانية وسجلت اسمي مع المغادرين، إلا أني فوجئت بأنه ليس هناك أحد غيري في قائمة المغادرين إلى زغرب، أما الآخرون فكلهم متجهون إلى أنكونا في إيطاليا وسبليت في كرواتيا.
وسرعان ما غادر الجميع وبقيت وحدي في غرفة باردة شبه مظلمة أنتظر الساعة الثانية فيما كانت عقارب الساعة تقترب ببطء نحو الحادية عشرة.
وبعد فترة طويلة قاتلة فتح الباب ودخل أوروبي جاوز الأربعين بقليل فاستأنست به وجاء فحياني ثم جلس بجواري وسرعان ما تعرفت عليه فوجدته مراسل صحيفة الإندبندنت البريطانية، وكان هذا مدخلًا لحديث طويل قطعه نداء الضابط الفرنسي على المغادرين إلى «أنكونا» والذي صاحبنا من بينهم فاستأذنني ومضى وعدت لوحدتي مرة أخرى بعدها ذهبت إلى ضابط الاتصال لأساله عن رحلة زغرب فقال لى: لم نعد متأكدين هل ستقلع الرحلة أم لا، فالطقس يزداد سوءًا بالخارج ويمكن أن تلغى الرحلة.. أسقط في يدي بعدما سمعت هذا الكلام وقلت له: مستحيل فقال: هل هذه هي المرة الأولى التي تغادر فيها من مطار سراييفو قلت له نعم: قال: لذلك تقول مستحيل، لا شيء مستحيل هنا يا سيدي فكل شيء يتبدل في لحظات قلت له: وما العمل قال ببرود: لا شيء سوى الانتظار، بدأ القلق يتسرب إلى نفسي حتى فتح الباب ودخل خمسة من الجنود الفرنسيين وجلسوا بعيدًا عني إلا أن الفضول دفعني لتحيتهم وسؤالهم عن جهة مغادرتهم فقالوا لي: إلى زغرب فاستبشرت وقلت لهم وهل ستقلع طائرة زغرب؟ قالوا: حتى الآن معلوماتنا أنها ستقلع ولكن ربما متأخرة ساعة عن موعدها.
الخروج من الثلاجة
أخيرًا فتح الباب ونادى الضابط الفرنسي على المغادرين إلى زغرب فقمت والجنود الفرنسين الخمسة ومشينا في صف بين الدشم العسكرية حتى لاحت طائرة اليوشن 76 العملاقة والمخصصة لنقل المعدات العسكرية الثقيلة والتي أقلتنا إلى زغرب كانت الثلوج لا زالت تتساقط بغزارة، فيما وقفنا ما يزيد على ربع ساعة بعيدًا عن الطائرة حتى تم إدخال أحد ضباط الأمم المتحدة الجرحى إليها قبلنا، حيث كان في طريقه للعلاج في فرنسا. 
كانت الطائرة حينما كتبها خالية من كل شيء سواي والجنود الفرنسيين الخمسة والضابط الجريح وممرضته.. وكان وجود هذا الأخير على الطائرة من دعائم الاستقرار بالنسبة لي لأنه لا بد أن يغادر للعلاج مهما كانت ظروف الطقس التي يمكن أن تتسبب في إلغاء الرحلة في أي وقت.
ارتفعت أصوات محركات طائرة اليوشن العملاقة، وحينما أقلعت وارتفعت في السماء أيقنت حينها فقط بأني قد خرجت سالمًا من سراييفو ثلاجة أوروبا..
انتهت الحلقات وسوف تصدر قريبًا -إن شاء الله- مرتبة مع إضافات في كتاب عن دار ابن حزم للنشر والتوزيع.
بيروت- لبنان ص.ب: 6366/014

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

بلا حدود: النفق السريِّ

نشر في العدد 1215

13

الاثنين 02-سبتمبر-1996