العنوان تركيا: الرفاه يبدأ في توجيه الضربات السياسية القاتلة لحكومة يلماظ – تشيللر
الكاتب محمد العباسي
تاريخ النشر الثلاثاء 23-أبريل-1996
مشاهدات 33
نشر في العدد 1197
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 23-أبريل-1996
أثبت حزب الرفاه الإسلامي قدرة تكتيكية وإستراتيجية فائقة في مواجهة المؤامرة التي حيكت ضده من قبَلِ بعض القوى الخفية داخل تركيا، والتي تم بموجبها إبعاده عن السلطة وهو صاحب الحق الوحيد فيها، وأولى الأحزاب التركية بها، فحين أرادت تلك القوى وضع حزب الرفاه في موقف المدافع عن نفسه عندما حاولت إحداث وقيعة بينه وبين الجيش، نجح الرفاه في امتصاص تلك الضربة واستيعابها، والخروج منها بمهارة فائقة، بل وشن هجومًا سياسيًا قاتلا على ثلاثة محاور هامة زلزلت كيان الحكومة، وشلت قدرتها على المقاومة، إذ طعن الرفاه في دستورية الحكومة أمام المحكمة الدستورية، وهو الأمر الذي أخذ أبعادًا جدية بعد أن تم الطعن كذلك في كافة القرارات الهامة التي صدرت عنها، مثل التمديد لقوة المطرقة، وتمديد حالة الطوارئ في منطقة شرق وجنوب شرق تركيا، كما قام بتوجيه ضربة عنيفة للحكومة من الداخل عندما قرر فتح ملفات الفساد في عهد تشيللر، وقدم بالفعل لمجلس الشعب ملفين، في نفس الوقت الذي بدأ فيه الرفاه طرح عدد من المشروعات ذات الوجه الإسلامي داخل المجلس، وهي المشروعات التي أحرجت الحكومة وأرغمتها على التنازل ومحاولة اقتفاء أثره لإظهار وجهها الإسلامي، وتوضيح أن كافة أعمالها وقراراتها تنبع من الأخلاق الإسلامية، ولا تخرج عن إطارها.
وبدأت مؤامرة الوقيعة بين حزب الرفاه والجيش بخبر صغير تم تسريبه لصحيفة «حريت» جاء فيه أن رئاسة الأركان قامت بتوزيع منشور سري داخل وحدات الجيش يتضمن بعض التعليمات الصارمة خاصة بمنع إقامة الصلاة والأذان ووقف بناء أية مساجد داخل المعسكرات والوحدات أو في المدارس والكليات العسكرية. وضرورة القيام بهدم جميع المآذن التي تم إقامتها من البراميل الفارغة داخل الوحدات.
كما شدد المنشور على رفض قبول أية هدايا من الجماعات أو الطرق الدينية تحتوي على سجاجيد الصلاة أو المسابح والآيات القرآنية المكتوبة على لوحات، والاكتفاء في هذا الصدد بما تقوم رئاسة الديانة التركية بإرساله.
ويسمح المنشور بفتح المساجد والجوامع داخل المدارس العسكرية ووحدات الجيش التي يضطر فيها الأفراد للبقاء مدة ٢٤ ساعة كاملة في الليل فقط، وليس أثناء فترات النهار.
وهو الأمر الذي أثار استياء نواب حزب الرفاه، ودفعهم إلى مهاجمة رئاسة الأركان، إذ وصف أوجوزخان أصيل تورك- نائب رئيس المجموعة البرلمانية للرفاه- المنشور بأنه عداء واضح للدين، مؤكدًا على أن منع الصلاة وقراءة القرآن وإقامة المساجد داخل الوحدات العسكرية أمر لا علاقة له بمسألة العلمانية، موضحًا أن ذلك لا يندرج تحت بند الحرية الفكرية، وإنما هو ضغط لم تره حتى أيام الاتحاد السوفييتى السابق على المسلمين فيه.
وردًا على ذلك الهجوم أصدرت رئاسة الأركان بيانًا بثته وكالة أنباء الأناضول شبه الرسمية على لسان مصدر عسكري لم تسمه، نفت فيه عداءها للدين، وانتقدت بشدة من أسمتهم بالمتدينين المزيفين الذين يتاجرون بمبادئ الدين، وأشارت رئاسة الأركان في بيانها إلى أن ما يردده هؤلاء هو هذيان من تأليفهم وبنات أفكارهم، وأكدت على احترام الجيش التركي للإيمان وعلى حمايته للمبادئ العلمانية والديمقراطية اللتين تقوم عليهما الجمهورية التركية.
ولما كان البيان قد جاء حاملا تلميحًا للرفاه واتهامه بالمتاجرة بالدين، فما كان من رجائي كوثان -الأمين العام المساعد لحزب الرفاه- إلا أن طالب بضرورة أن تقوم رئاسة الأركان بإصدار بيان حول ذلك الموضوع، موضحًا أن ما بثته الأناضول ليس بيانًا لرئاسة الأركان، وإنما هو مجرد وجهة نظر شخصية، وأعرب عن اعتقاده الراسخ بأن ذلك البيان لا يحمل وجهة نظر الجيش على الإطلاق، وإنما هو محاولة للوقيعة تستهدف إثارة التوتر بين الرفاه ورئاسة الأركان.
تخطي الشّرك المنصوب
وفي محاولة من جانبه لوقف المواجهة الكلامية والحد من تبادل الاتهامات وامتصاص حدة الموقف حتى لا يسقط حزبه في الشَّرك المنصوب له، صرح نجم الدين أربكان زعيم الرفاه أن الانتهازيين يحاولون بشتى الطرق استخدام الجيش في حياكة المؤامرات، وإظهاره بمظهر لا يليق به، ووضعه في موضع العداء مع الدين، إلا أنهم لن ينجحوا في ذلك الأمر أبدًا؛ لأن ذلك هو جيشنا الذي يحمل اسم «المحمديون» ويتباهى بذلك الاسم الذي يستند إلى كافة معاني الإيمان والشهادة والجهاد، وأضاف أربكان: لقد سبق وأن أسسنا هذه الجمهورية، وسنديرها بإذن الله، فالرفاه هو الضمانة لتركيا، وعلى كل إنسان أن يعرف تلك الحقيقة.
وصرح نجاتي تشليك - نائب رئيس المجموعة البرلمانية للرفاه - أن الجيش لم ولن يكون في يوم من الأيام عدوًا للدين، ولم يتهمه أحد بذلك، موضحا أن مهام الجيش تكفيه، ولا داعي لإقحامه في المناقشات السياسية أو محاولة تسييسه.
وبعد أن هدأت تلك العاصفة التي كادت أن تتحول إلى مواجهة ساخنة بين الرفاه والجيش ودخول الحزب في دوامة المهاترات ومحاولات الدفاع عن مواقفه، بدأ الرفاه في شن هجوم عنيف أربك الحكومة وشلّ قدرتها على التفكير والرد، إذ طلب الحزب من الرئيس التركي سليمان ديميريل ضرورة إقالة الحكومة التي لا تستند في وجودها على شرعية دستورية لمخالفة حصولها على الثقة لقواعد الدستور التي تنص على ضرورة حصولها على الأغلبية المطلقة للنواب الحاضرين لجلسة التصويت، على اعتبار أن الممتنعين عن التصويت لا يمكن حسابهم لصالح الأغلبية، وذلك وفقًا لنص المادة ٩٦ من الدستور، وطالب أربكان رئيس الجمهورية باستخدام صلاحياته واتخاذ قرار تنحية الحكومة قبل أن يضطر إلى اللجوء للمحكمة الدستورية قبل انتهاء المدة القانونية وسقوط حق الطعن فيها، وأمهله مدة ٤٨ ساعة، إلا أن ديميريل التزم الصمت، ولم يتخذ أي موقف، فما كان من أربكان إلا أن قام بتقديم طعن في دستورية الحكومة الائتلافية لمخالفتها للدستور، وكذلك الطعن في كافة القرارات التي صدرت عنها.
وأوضح أربكان أنه وفقًا للدستور كان يجب أن تحصل الحكومة على أصوات ٢٧٣ صوتًا من أصوات النواب المشاركين في جلسة التصويت بالثقة، وعددهم ٥٤٤ من عدد النواب الأصليين البالغ عددهم ٥٥٠، إلا أنها حصلت على ٢٢٩ صوتًا فقط.
وقال أربكان: إنه وفقًا لذلك فإن قرار تمديد حالة الطوارئ في جنوب شرق تركيا في الجلسة التي حضرها ٤٥٦ عضوًا تكون الأغلبية المطلقة المطلوبة له هي ٢٢٩،بينما صدر القرار بموافقة ٢١٩ نائبًا فقط، وكذلك الحال بالنسبة للتمديد لقوة المطرقة إذ حضر الجلسة ٥١٦ نائبا أغلبيتهم المطلقة ٢٥٩ إلا أن الموافقة جاءت بـ ٢٣٠ صوتًا، مما يعني بطلان جميع تلك القرارات لمخالفتها نص الدستور، وهو الأمر الذي دفع حزب الرفاه في الطعن فيها أمام المحكمة الدستورية، مثلما تم الطعن في شرعية الحكومة ذاتها التي اتخذت هذه القرارات.
فضح ملفات الفساد
وقبل أن تسترد الحكومة وعيها من جراء تلك الضربة القوية، عاجلها الرفاء بتوجيه ضربة أخرى لا تقل في أهميتها وقوتها عن سابقتها، وهي الضربة التي وجهت للحكومة من الداخل بهدف زلزلتها وإحداث شروخ في بنيانها تمهيدا لهدمها، إذ أعلن حزب الرفاه أن لديه ١٨ ملفًا تحوي بداخلها كافة الأوراق والمستندات التي تدين السيدة تانسو تشيللر، وتؤكد فساد فترة حكمها للبلاد.
وقام الرفاه بالفعل بتقديم ملفين إلى مجلس الشعب التركي لإحالتهما للجنة التحقيقات بالمجلس لبدء التحقيق في كافة المخالفات التي تحويها، وهو الأمر الذي وضع مسعود يلماظ -رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب الوطن الأم المتحالف معها- في مأزق عسير، خاصة وأنه صاحب الحديث عن الشفافية ونظافة اليد، ومع ضرورة مقاومة الفساد ومحاكمة الانتهازيين الذين يستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب على حساب مصلحة الشعب، وكذلك بعدما تشكلت جبهة من ١٩ نائبًا من نواب حزب الوطن الأم، وأعلنت دعمها لحزب الرفاه في موقفه المطالب بإجراء تحقيقات مالية وقانونية ضد تشيللر وضرورة إحالتها إلى القضاء إذا ما لزم الأمر.
تبّة من الأخطار
وهو ما دفع يلماظ إلى التصريح بأنه لا يريد أن يجلس في منصب رئيس الوزراء على تبة من الأخطاء والفساد، مشيرًا إلى أن الأخلاق لديه أهم من المكاسب السياسية للحزب، معطيًا بذلك الضوء الأخضر لنواب حزبه لدعم حزب الرفاء في حرب الملفات التي فجرها ضد تشيللر رئيسة الوزراء والشريكة في الحكومة الائتلافية الحالية.
وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى سقوط الحكومة الائتلافية خاصة بعدما أعلن حزب الشعب الجمهوري بزعامة دينزبيقال دعمه المطلق لحزب الرفاه وموافقته على التحقيق في كافة المخالفات التي تحويها الملفات التي بحوزة الرفاه.
وتكمن خطورة الوضع حاليا ليس فقط في إمكانية سقوط الحكومة، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى القضاء على المستقبل السياسي للسيدة تشيللر نفسها إذ إنه في حالة إدانتها أمام لجنة التحقيق بمجلس الشعب وتقديمها إلى المحاكمة أيًا كان حكمها بعد ذلك فلن يمكنها اعتلاء منصب رئاسة الوزراء مرة ثانية على الإطلاق، أي أنه لن يمكنها تبادل ذلك المنصب مع مسعود يلماظ - زعيم حزب الوطن الأم- وفقًا لبروتوكول الائتلاف الحكومي بينهما، وهو الأمر الذي فسره كثير من المراقبين بأن يلماظ يحضر لتشيللر فخًا عميقًا لتسقط فيه، وينتهي من منافستها له على زعامة اليمين التركي ـ خاصة بعد التصريحات التي أدلي بها في هذا الموضوع، والتي أعطى بها الضوء الأخضر لنواب حزبه لمساندة موقف حزب الرفاه.
ولذلك لجأت السيدة تشيلر إلى بولنت أجاويد زعيم حزب اليسار الديمقراطي والذي يدعم الحكومة من الخارج، ووجهت له نداء طالبته فيه بعدم دعم طلب فتح التحقيق في الملفات التي قدمها حزب الرفاء لمجلس الشعب، موضحة أن المستفيد من ذلك الأمر هو حزب الرفاه فقط الذي يسعى لإفساد الائتلاف الحكومي وإسقاط الحكومة ليكون هو البديل لها - طبقًا لما صرحت به. وسواء تم فتح التحقيق في الأمر أو لم يتم، فإن ما حدث يعد انتصارًا جديدًا لحزب الرفاه على خصومه السياسيين؛ لأنه أثبت للشعب التركي من خلال ذلك الموقف أن قوى الفساد هي التي تحكم وتدير كافة الأمور في البلاد، وهي التي تحاول جاهدة إبعاد الأمناء ونظيفي اليد عن إدارة الأمور مصالحها الخاصة، وليس مصلحة الشعب كما تدعي، خاصة وأنه لو كانت تشيللر بالفعل غير مدانة لكانت قد طالبت بفتح الملفات وإجراء التحقيق دون خوف من النتائج التي ستترتب على ذلك.
قوانين إسلامية أمام البرلمان
وفي نفس الوقت بدأ الرفاه في التقدم بعدة مشروعات لقوانين تستهدف إضفاء الطابع الإسلامي على تركيا مرة أخرى، وإزالة آثار القرارات التي استهدفت هويتها الإسلامية مثل المطالبة بإعادة فتح جامع أيا صوفيا للعبادة، والذي كان عصمت إينونو - رئيس الجمهورية الثاني- قد حوله إلى متحف بناءً على طلب غربي، وكذلك إعطاء النساء إجازة لمدة ٣ أيام أثناء الدورة الشهرية، وتمكين المحبوسين من ممارسة علاقاتهم الزوجية مع زوجاتهم في أيام محددة داخل السجن وإقامة شواطئ خاصة للسيدات، وهو الأمر الذي أحرج الحكومة، وأرغمها على التنازل واقتفاء أثره فيما يخص الأخلاق الإسلامية، وهو بالطبع مكسب حيوي وإستراتيجي للرفاه، إذ بدأت الحكومة في محاولة لإظهار احترامها للمشاعر الإسلامية للمواطنين عن طريق شعبة مكافحة الدعارة التي تقوم بمداهمات شبه يومية للبيوت المنتشرة لهذا الغرض، بما فيها البيوت الرسمية المرخص لها بمزاولة ذلك العمل، كما لاحقت شرطة الآداب الداعرات في الفنادق والملاهي الليلية وصالات الديسكو في إطار حملة تنظيفية لم تقم بها وزارة الداخلية من قبل، وأعلنت وزيرة الدولة إيشيلاي شلبي منع استخراج تراخيص جديدة لنوادي القمار والبارات.
حتى القناة الخاصة التي تبث أفلامًا خليعة والمعروفة باسم «سينا - ف٥» أعلنت هي الأخرى أنها قررت عدم بث تلك الأفلام ثانية؛ احترامًا لعادات المجتمع، وقامت بحملة دعائية واسعة النطاق في كافة وسائل الإعلام لحثِّ المواطنين على الاشتراك في تلقي إرسالها بعد ما أصبح ما تذيعه يتلاءم مع معتقدات وعادات الشعب التركي، ولا يخدش حياء الأسر والعائلات.
وردًا على ما تقوم به الحكومة من تصرفات لإظهار وجهها الإسلامي لسحب البساط من تحت قدم الرفاء، عرض رجب الطيب أردوغان - رئيس بلدية اسطنبول وعضو حزب الرفاه- على الداعرات اللاتي يرغبن في العودة إلى الطريق المستقيم والعيش في إطار حياة نظيفة شريفة. تقديم وظيفة محترمة براتب جيد، ومساعدتهن في الحصول على مسكن ملائم، وهو ما دفع بالكثيرات ممن يمارسن تلك المهنة إلى تركها واللجوء إلى رئيس بلدية اسطنبول للحصول على العمل الشريف والسكن ليبدأن حياة جديدة بعيدًا عن مهنة البغاء التي لا يستفيد منها فعليًا سوى رجال المافيا.
وهكذا أثبت حزب الرفاه قدرته الفائقة على إدارة الأمور وتوظيف كافة الأحداث لصالح تحقيق مبادئه ومعتقداته سواء كان يتحمل المسؤولية الإدارية أو كان مبعدًا عنها رغمًا عنه، المهم في النهاية هو الوصول إلى الهدف وتحقيق مصالح الشعب الذي انتخبه، ويطالب به على رأس السلطة في البلاد، وهو ما ترفضه شلة المستفيدين والمنتفعين الذين يرون في استمرار الوضع على ما هو عليه تأمينًا لمصالحهم وتحقيقًا لمآربهم، وليس حفاظًا على العلمانية كما يدعون.