العنوان تفسير د.عمر الأشقر للقرآن الكريم.. سورة«البقرة».. غرور المنافقين
الكاتب د. عمر سليمان الأشقر
تاريخ النشر السبت 14-أغسطس-2010
مشاهدات 37
نشر في العدد 1915
نشر في الصفحة 48
السبت 14-أغسطس-2010
- يزعمون زورًا وكذبًا أنهم أعلم وأفضل من الرسول ﷺ وأصحابه والأخيار من هذه الأمة
- المنافقون مذبذبون بين معسكر الإيمان والكفر..وهذا نوع من العذاب المعجَّل في الدنيا لهؤلاء فإن هذا التناقض بين الظاهر والباطن يعذب أصحابه ويضنيهم ويذهب عنهم الطمأنينة وراحة النفوس
- سماهم الله بشياطين لما يتصفون به من المكر والدهاء وقد استعملوا دهاءهم في محاربة الله ورسوله ودين الإسلام كفعل الشياطين
تناولنا في العدد الماضي موقف المنافقين من القرآن والذي تحدثت عنه آيات سورة البقرة من الآية (8 حتى ١٦)، وتحدثنا عن المعاني الحسان، وتكلمنا عن صفات المنافقين التي حددها هذا النص، ونستكمل في هذا العدد الحديث عن هذه الصفات:
ز- إذا دعوا إلى عدم الإفساد في الأرض قالوا: «إنما نحن مصلحون»
يخبر الحق-تبارك وتعالى-عن هؤلاء المنافقين بأنهم﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ﴾(البقرة:11).
والفساد الذي ينهى أهل الحق عنه هؤلاء نقيض الصلاح، والمراد به-كما يقول ابن كثير يرحمه الله-إخراج الشيء عن حال استقامته، وكونه منتفعًا به (ابن كثير:1/198).
وقد حدد الحق تبارك وتعالى سبيل الصلاح، وحذر من الخروج عن هذه السبيل فإنه فساد، وطرائق الفساد التي تحدث عنها القرآن كثيرة منها :
-اتخاذهم مع الله آلهة أخرى، وقد أخبر تبارك وتعالى أنه لو كان في السماء والأرض آلهة من دون الله لفسدتا ﴿لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ﴾
(الأنبياء: ٢٢).
- ومن الإفساد في الأرض القتل وسفك الدماء بغير حق، قال تعالى: ﴿قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ﴾ (البقرة: ٣٠) وفرعون كان من المفسدين، ذلك أنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ﴾(القصص:4).
- واتباع أهواء البشر التي يجعلونها مناهج ومبادئ ونظمًا تفسد السموات والأرض بقدر ما فيها من خلال﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾ (المؤمنون: ۷۱).
- لغير هدف، قتل الحيوانات والقضاء على نسلها من الإفساد في الأرض﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ﴾(البقرة:205). والحرث الزرع، والنسل: ذرية الإنسان والحيوان.
وبالجملة كل ما يخالف الحق الذي جاءنا من عند الله من الشرك والكفر وعبادة غير الله، وترك ما فرضه الله، وارتكاب محارم الله، كله من الفساد في الأرض، وقد ظهر الفساد في الأرض ظهورًا لا مزيد عليه في هذه الأيام ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ (الروم: 41).
ويدعي هؤلاء المنافقون عندما يطالبهم أهل الحق بترك الإفساد في الأرض أنهم مصلحون، وهي دعوى كاذبة، يدعيها كثير من الزعماء والرؤساء والضالين من العلماء والحقيقة أنها كما قال الله فيهم﴿أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ﴾(البقرة:12).
والسبب في عدم شعورهم بفسادهم أن كل من كان على طريق لا يبصر غيرها يظن نفسه على الصلاح وغيره على الفساد﴿كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ﴾ (الأنعام: ۱۰۸).
ح- المنافقون مغرورون بأنفسهم عندما يصفون الأخيار بالسفه
هؤلاء المنافقون مغرورون حيث يزعمون زورًا وكذبًا أنهم أعلم وأفضل من الرسول ﷺ وأصحابه والأخيار من هذه الأمة، فعندما يدعون إلى اتباع الرسول ﷺ وأصحابه في إيمانهم، يستنكرون هذه الدعوة قائلين: أنؤمن كما أمن السفهاء؟! فيأتيهم الجواب سريعا من الحق تبارك وتعالى واصمًا إياهم بالسفه، كأنهم وحدهم السفهاء دون غيرهم﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ﴾(البقرة: 13).
والمراد بـ«الناس» الرسول ﷺ وأصحابه والسفه خفة في العقل وضلال في الرأي وهذه الخفة وذلك الضلال يجعل أصحابه يتصرفون تصرفات حمقاء رعناء تؤدي بهم إلى الهلاك والبوار، وهل هناك أسفه ممن يرد على الله أمره، ويكذب قوله، ويصف الرسول ﷺ وصحبه بالضلال والسفه.
ط - لون من ألوان خداع المنافقين
يتجلى نفاق هؤلاء فيما حدثنا الله به عنهم أنهم:﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ﴾
(البقرة:14).
إنهم مذبذبون بين معسكر الإيمان والكف﴿مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا﴾(النساء:143)، وهذا نوع من العذاب المعجل في الدنيا لهؤلاء، فإن هذا التلون والتغير، والتناقض بين الظاهر والباطن يعذب أصحابه، ويضنيهم ويذهب منهم الطمأنينة وراحة النفوس.
والمراد بشياطينهم الذين يكشفون لهم خبيئاتهم الكافرة الفاجرة هم رؤساؤهم من المنافقين واليهود والمشركين، الذين اتخذوهم مرجعًا يخططون لهم، ويقودونهم في مواجهة المسلمين والمكر بهم وتفريق صفوفهم، وإيقاع الفتنة بينهم.
وسماهم الله بشياطين لما يتصفون به من المكر والدهاء، وقد استعملوا دهاءهم وذكاءهم في محاربة الله ورسوله ودين الإسلام، كفعل الشياطين والعرب تطلق الشياطين على كل عات ومتمرد من الإنس والجن، قال تعالى:﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ﴾(الأنعام: ۱۱۲).
وقد عد المنافقون هذا التلون والتذبذب منهم فطنة وذكاء عندما أعلموا شياطينهم أن إظهارهم الإيمان للمؤمنين حين لقائهم بهم إنما هو سخرية منهم بهم، فهؤلاء المؤمنون في نظر المنافقين سذج بسطاء، ليس لديهم ما يكشفون به أغوار النفوس، وتحايل الدهاة وبذلك يسهل خداعهم وتخفى عليهم نيات خصومهم وأهدافهم ومقاصدهم، ويبقون يعملون في داخل مجتمعهم وهم عنهم غافلون.
ولكن الحقيقة التي قررها رب العزة غير ذلك﴿ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ﴾(البقرة: 15).
فالحقيقة أنهم هم الأغبياء، وأنهم هم المستهزأ بهم، لا من قبل العباد فحسب، بل من قبل رب العباد، فهو يسخر بهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنهم يقضون أعمارهم يسبحون في الضلال، والكيد للإسلام وأهله في الخفاء، فيفقدون خصائص الإنسانية السوية، كما يفقدون خصائص الإيمان، وعندما يأتيهم الموت، ويكشف عنهم الغطاء، يعلمون أنهم ضيعوا مسيرة الحياة فيما يعود عليهم بالحسرة والندامة والخسران، نعوذ بالله من الخذلان.
حُكم الله على المنافقين
حكم الله على الفريق الأول بأنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم المفلحون، وحكم على الفريق الثاني بأنهم كافرون، ويأتي حكم الله على هذا الفريق حكمًا جليًا واضحًا في قوله:﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ﴾(البقرة: 16).
والمشار إليه بقوله:«أولئك» هم المنافقون الذين وصفهم الحق-تبارك وتعالى-أتم وصف، كما بين مقاصدهم وأهدافهم الخبيثة، وبين غرورهم وجهلهم وتعاليهم، وقد أخبر عنهم أنهم اشتروا الضلالة بالهدى والمشتري هو دافع الثمن وآخذ السلعة، وهذا الصنف ترك الهدى وأخذ الضلالة، و«العرب تقول لكل من ترك شيئًا وتمسك بغيره قد اشتراه» (لسان العرب: ۳۰۸/۲۰)، وهؤلاء تركوا الإيمان والهدى، وأخذوا الكفر والضلال والباطل، كما قال تعالى فيهم في موضع آخر:﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡعَذَابَ بِٱلۡمَغۡفِرَةِۚ فَمَآ أَصۡبَرَهُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ ﴾(البقرة:175)، وهم الذين﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ﴾(البقرة: 86)، وهم أيضًا:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ﴾(آل عمران:۱۷۷).
ويأتي في مقابل هؤلاء المؤمنين الذين قال الله فيهم﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾(البقرة:207)، وقال فيهم:﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾( التوبة: 177).
وإنما عبر بقوله:«اشتروا» بدل استبدلوا، وسمى فعلهم تجارة لأن هؤلاء المنافقين يحرصون على إعلاء الباطل الذي يخفونه، وإزهاق الدين الذي يكرهونه، كما يحرص التجار على ربح تجارتهم، فهم يسعون في ذلك سعي المجد، كما يسعى التاجر إلى تحقيق مبتغاه بمعاناة الأسفار، وقطع الفيافي والقفار، والبكور إلى العمل في الصباح، وسهر الليالي في التخطيط والتدبير.
وكذلك أهل الباطل من الكفرة والملحدين يبذلون أموالهم وأنفسهم في الصد عن سبيل الله ونصرة مبادئهم، ويبذلون أقصى جهدهم في التخطيط والتدبير والمكر والاحتيال وإذا أنت تأملت فيما كان عليه الكفار في القديم والحديث وجدت صدق ما نقول وانظر إلى الحروب التي أثارتها النصرانية المحرفة، وما بذله المجوس عباد النيران والمشركون عباد الأوثان، تجدهم فعلًا اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فهم يتصارعون فيما بينهم، كما يصارعون الحق وأهله، ولكن جهودهم هذه جهود ضالة خاسرة، ولذلك حق قول الله فيهم﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ﴾ (البقرة: 16).
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل