; تقرير إخباري من المودودي عن أحداث باكستان الشرقية «الحلقة الثانية» | مجلة المجتمع

العنوان تقرير إخباري من المودودي عن أحداث باكستان الشرقية «الحلقة الثانية»

الكاتب أبو الأعلي المودودي

تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1971

مشاهدات 21

نشر في العدد 64

نشر في الصفحة 6

الثلاثاء 15-يونيو-1971

تقرير إخباري من المودودي عن أحداث باكستان الشرقية «الحلقة الثانية»

باكستان الشرقية...

قبل التقسيم وبعده

دور الاستعمار في تحطيم المسلمين في العلم والمال والوظائف

نشرت «المجتمع» في العدد الماضي منها تفاصيل جديدة عن حركة العصيان المسلح بباكستان الشرقية أوضحت فيها القوى الخبيثة التي كانت تكمن وراء أحداث باكستان وتحركها وما فعله الانفصاليون في مسلمي باكستان الشرقية نسائها وأطفالها.

وفي هذا العدد ننشر الحلقة الثانية من التقرير الذي جاءنا من الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان وفيها يتضح للقارئ كيف مكن الاستعمار للقوميين البنغاليين من المناصب الرفيعة في باكستان الشرقية على حساب تحطيم المسلمين وإبعادهم وسيرى القارئ إلى أي مدى استطاع الاستعمار تفتيت القوى وتبديد الثروة وإفقار المسلمين لحساب فئة قومية حاقدة، ثم كيف نهضت دولة باكستان بعد استقلالها عن الهند بهذا الجزء الشرقي منها وما أنفقته ولا زالت تنفقه من أجل النهوض به.

ونحن إذ ننشر هذه الحقائق نود أن يتفهم العرب المسلمون قضية باكستان هذه فيقفون إلى جانبها كما تقف الباكستان دائمًا إلى جانبنا في قضيتنا الكبرى ضد إسرائيل.

إن القوميين البنغاليين يرفعون العويل والصراخ بحجة أن باكستان الغربية أعملت أيدي النهب والسلب في ثروة باكستان الشرقية ولذلك قامت باكستان الشرقية، بعد أن نالت المتاعب، لتنفصل عنها، إذ أن أهل باكستان الشرقية على جانب من الحق في محاولتهم الانفصالية، وهل القوميون البنغاليون صادقون في عويلهم ومزاعمهم هذه؟ وجوابًا على ذلك أتقدم إليكم بالبيان التالي بلغة الأرقام لتكونوا على بينة من الأمر:

إن أول منطقة سيطر عليها الإنكليز بعد أن وطئت أقدامهم القارة الهندية هي «بنغال» حيث بدأت سيطرتهم عليها في عام 1757 م بعد الحرب المشهورة بحرب بلاسي واستتب نهائيًا في عام 1765 م حينما شكلوا أول حكومة مدنية فيها.

ومنذ ذلك الوقت واصل الإنكليز محاولاتهم في التنكيل بالمسلمين فيها وتحطيمهم بكل وسيلة.

وكان الهندوس خير معوان وبمثابة اليد اليمنى لهم في هذه المحاولات البغيضة، وقبل أن ينقضي قرن بلغت حالة المسلمين فيها أوجها في التعاسة والتدهور كما أشار إلى ذلك الدكتور و.و. هنتر في كتابه الشهير «مسلمو الهند» الذي ألفه في عام 1871 م، كان أحد أركان الحكومة الإنكليزية في بنغال لسنوات طويلة وكان يعرف أحوال المسلمين فيها عن كثب وبشكل مباشر ويقول الدكتور هنتر في الباب الأخير من كتابه:

تحطيم المسلمين

وقبل أن يدخل الإنكليز منطقة البنغال كان المسلمون يباشرون فيها الحكم منذ قرون وهم الذين كانوا يسيرون دفة الحكومة فيها، وكانوا يديرون المؤسسات التعليمية العليا.

وكانت لتلك المؤسسات عقارات وقفية كبيرة، ولما جاء الإنكليز شرعوا، وفق مخطط مدروس، في تحطيم المسلمين ومطاردتهم وتشجيع الهندوس والنهوض بهم، وما أثمرته هذه المحاولات من نتائج في خلال القرن الواحد يذكرها الدكتور هنتر بتفصيل واف يقول: «أغلقت في وجه المسلمين أبواب كل مهنة كريمة في كل قطاع في الحياة، وطبق نظام للتعليم من شأنه أن يجعل المسلمين إذا قبلوه صاروا غير مسلمين وإذا لم يقبلوه ماتوا جوعًا، ووضعت الحكومة يدها على أوقاف إسلامية كبيرة وأغلقت معاهدهم التعليمية، والأسر البارزة للأمراء والوجهاء والأشراف، التي كانت تحتل مكانة الصدارة في العصور الإسلامية أصبح أفرادها لا يجدون مأوى يأوون إليه، ولا يجد أولادهم من العمل إلا أعمال الخدامين والفراشين وما إلى ذلك من الأعمال الدنيئة».

«والأراضي التي كان يملكها المسلمون عينوا عليها الهندوس كموظفين لتحصيل جبايتها، كخطوة أولى، ثم جعلوهم ملاك تلك الأراضي، وهكذا فإن أصحابها الحقيقيين المسلمين صاروا في أراضيهم أنفسهم فلاحين للهندوس».

ويستطرد الدكتور هنتر ويعدد الوسائل التي كانت دعائم رخاء المسلمين، ويقول: إنها كانت كالتالي:

أولًا: الخدمة العسكرية، وكانت للمسلمين أغلبية ساحقة في الجيش.

ثانيًا: الإدارة المدنية التي كانت في معظمها في أيدي المسلمين.

ثالثًا: الجباية التي كان المسلمون مسئولين عن تحصيلها، كما كانت معظم الأراضي تابعة للمسلمين.

رابعًا: المحاكم، مصلحة المحاكم بأسرها كانت بيد المسلمين.

ويصرح الدكتور بأنه كان يندر في تلك الأزمان أن يكون أحد من المسلمين صعلوكًا أو جاهلًا، إلا أن الدكتور هنتر نفسه يكتب عن وضعهم في عام 1871 م أي بعد سيطرة الإنكليز عليهم بقرن كامل قائلًا: أقصى المسلمون من الجيش كليًا، وانتزعت سلطات تحصيل الجباية من أيدي المسلمين وسلمت للهندوس، وكما سبق أن ذكر، أن الهندوس هم الذين حول إليهم في نهاية المطاف حقوق ملكية الأراضي.

وشغرت جميع المناصب في الإدارة المدنية والمحاكم بالهندوس بعد أن طرد منها المسلمون رويدًا رويدًا، وكذلك التعليم لاقى المسلمون فيه كل إهمال ومطاردة إلى أن أبعدوا منه نهائيًا، وفرضت عليهم اللغة البنغالية الحديثة التي لم يكونوا يألفونها من قبل، وسلط عليهم الأساتذة الهندوس وسدت في وجوههم أبواب التعليم العالي.

ويسرد الدكتور هنتز الحقائق بلغة الأرقام ويقول: في خلال سنتين فقط -أي فيما بين 1869 م و1871 م -حدث من التغيير الهائل في وضع المسلمين ما تجد بعض جوانبه في البيان التالي:

 

انخفاض مفزع في الوظائف العامة

- انخفضت نسبة المسلمين في الدرجات العليا من الوظائف الحكومية من مسلم واحد إزاء اثنين من الهندوس إلى مسلم واحد إزاء ثلاثة من الهندوس.

وانخفضت نسبتهم في الدرجات المتوسطة من الوظائف من اثنين من المسلمين مقابل تسعة من الهندوس إلى مسلم واحد مقابل عشرة من الهندوس، وفي الدرجات الدنيا من أربعة من المسلمين إزاء سبعة وعشرين من الهندوس إلى ثلاثة من المسلمين إزاء أربعة وعشرين من الهندوس.

- وبلغت هذه النسبة في المهندسين أربعة عشر من الهندوس تجاه صفر من المسلمين، وفي المهندسين المساعدين والمراقبين في مصلحة الطرق مسلم واحد اتجاه أربعة وعشرين من الهندوس.

- وفي المحاسبة: خمسون هندوسيًا إزاء صفر من المسلمين.

- وفي الأشغال العامة: تسعة عشر من الهندوس مقابل صفر من المسلمين، وفي الأعمال التابعة لها، مائة وخمسة وعشرون هندوسيًا مقابل أربعة من المسلمين.

ويتضح من البيان المذكور آنفا جليًا أن الإنكليز حطموا المسلمين البنغاليين قبل قيام باكستان بثمانين عامًا، وسلطوا عليهم الهندوس، فأصبح المسلمون يرزحون تحت نير الحاكمين، الحاكم الأعلى، الإنكليز، ويتبعه الهندوس، وفي الأسفل المسلمون البنغاليون، هذا على رغم أن الأغلبية الساحقة من السكان كانوا مسلمين، وبهذا السبب نفسه انضم هذا القطر إلى باكستان عام 1947 م.

وماذا كانت عليه باكستان الشرقية من وضع في الاقتصاد والتعليم والخدمة الإدارية يا ترى؟ إن المعلومات التالية تلقي بعض الأضواء على هذا السؤال.

خذوا أولًا الإدارة المدنية: أن الأغلبية الساحقة من موظفي الحكومة كانت للهندوس، وكان يصطلح على الدرجات العليا من الوظائف أيام الإنكليز «بالخدمة المدنية الهندية» وكان الهندوس يستقلون بهذه الخدمة بإيعاز من الإنكليز، ولما قامت باكستان لم يكن في هذه الخدمة من المسلمين إلا شخص واحد من المسلمين البنغاليين فقط، والذي قيل عن سائر الخدمات الحكومية العليا.

وعند التقسيم خير موظفو الحكومة بين أن يعملوا في حكومة باكستان أو أن يعملوا في حكومة الهند؛ فاختار معظم الهندوس في باكستان الشرقية العمل في حكومة الهند.

وفي الجانب الثاني كان نصيب المسلمين البنغاليين في الوظائف الحكومية ضئيلًا جدًا، ونتج عن ذلك أن تعطلت المحاكم المدنية والعسكرية بنسبة خمسين في المائة لأنها لا تجد من يسيرها، كما تعطلت الدوائر الحكومية الأخرى.

وأن البنغاليين كانوا بمثابة صفر في الوظائف العليا، فملأ هذا الفراغ الهائل الموظفون من المسلمين الذين اختاروا العمل في باكستان وهاجروا إلى باكستان الشرقية، وبفضلهم استأنفت إدارة الحكومة نشاطها في باكستان الشرقية، وعادت المياه إلى مجاريها، إلا أنهم كانوا ينطقون اللغة الأردية فلذلك اعتبروا أيضًا باكستانيين غربيين، ثم اتخذت الإجراءات المتصلة للنهوض بالبنغاليين أنفسهم وإعطائهم مناصب حساسة في الحكومة إلى أن صارت إدارة الحكومة بكاملها بيد البنغاليين وما بقي من الباكستانيين الغربيين أو المسلمين غير البنغاليين في الدوائر الحكومية إلا أن النادر القليل كما صار العدد الكبير من البنغاليين يتولون الوظائف الكبيرة في الحكومة المركزية أيضًا مع أنه لم يكن يتصور أحد، نظرًا لضآلة البنغاليين في الوظائف العليا قبل التقسيم أنهم يستطيعون القيام بأي خدمة في الحكومة المركزية. 

احتكار

وأما التجارة والأعمال المصرفية فإن الهندوس هم الذين كانوا يحتكرونها أيضًا.

وأثناء التقسيم هاجر معظمهم إلى الهند بأموالهم وثرواتهم.

الأمر الذي أدى إلى تجميد الحركة الاقتصادية فجأة في باكستان الشرقية، والذين هاجروا من المسلمين في الهند إلى باكستان الشرقية كانوا في معظمهم من التجار والصناعيين، فأدركوا فورًا حالة باكستان الشرقية الاقتصادية وأنقذوها من الانهيار البوار.

وكانت مدينة كلكتة قبل التقسيم مركزًا رئيسيًا للتجارة في باكستان الشرقية، وأكبر إنتاج في باكستان الشرقية هو الجوت، وكان جميع الجوت يحمل إلى كلكتة قبل التقسيم، لأن جميع مصانع الجوت كانت إما كلكتة أو في مدن بنغال الغربية الأخرى، أما باكستان الشرقية فلم يكن فيها إلا ستة مصانع للتجميع فقط، وبكلمة أخرى كانت تنعدم في باكستان الشرقية صناعة الجوت، وكانت محدودة في كلكتة وبنغال الغربية التابعة للهند.

وموظفو السكك الحديدية كذلك كانوا -جلهم إن لم أقل كلهم -من الهندوس. وكانت في باكستان الشرقية ورشتان للسكة الحديدة يديرهما الهندوس، وحين التقسيم هاجر هؤلاء الهندوس إلى الهند. وحل محلهم موظفو السكة الحديدية المسلمون الذين فضلوا العمل في باكستان فتولوا أعمال السكة الحديدية في باكستان الشرقية واستعادوا حركتها بجهود مضنية.

كما استأنفوا نشاط الورشتين المذكورتين آنفًا من جديد، علما بأن البنغاليين في باكستان الشرقية لم يكونوا يستطيعون أن يقوموا بأعمال السكة الحديدية أو الورشتين التابعتين لها لعدم تضلعهم بأي نوع من التدريب في هذا الباب.

ازدهار دكة بعد التقسيم

ونفس الوضع كان يتحكم في الملاحة في أنهار باكستان الشرقية، إذ أن الهندوس هم الذين كانوا يستقلون بالملاحة أيضًا، وبعد مغادرتهم باكستان الشرقية تولى المسلمون المهاجرون هذا العمل. كما أن الحكومة ركزت عنايتها بتطوير ميناء شاتغام لبقاء ميناء كلكتة في الهند، وجعلته مركزًا قويًا للتجارة مع البلدان الأجنبية ومع باكستان الغربية بجهود جبارة وبأموال باهظة.

وجعلت دكا عاصمة باكستان الشرقية بعد تأسيس باكستان.

وبما أن كلكتة كانت تستقطب كل عناية واهتمام من الإنكليز والهندوس قبل التقسيم بقيت دكة مهملة مهجورة لا مكانة لها بين المدن، ولكن بعد التقسيم أخذت دكة نصيبها من التطوير والتجميل، وترى الآن بين دكة زمن التقسيم ودكة اليوم فرقًا أكبر من رياض عام 1940 م ورياض اليوم أو من عمان عصر الملك عبد الله وعمان اليوم.

ونالت دكة كل هذا التطور والتقدم والازدهار بعد تأسيس باكستان، وإذا كانت هناك في باكستان مدينة أكثر رقيًا وازدهارًا بعد كراتشي فهي دكة: عاصمة باكستان الشرقية، بل إنها حازت قصب السبق حتى من لاهور أيضًا على كون الأخيرة مدينة عريقة في الحضارة والرقي ذات التاريخ الحافل والمجد التليد.

ونقارن الآن بين ما كانت عليه باكستان الغربية خلال التقسيم من بعض الجوانب الأخرى وذلك بلغة الأرقام :

- الطرق المعبدة تعبيدًا جيدًا: كان طولها في باكستان الشرقية في مجموعها 240 ميلًا، وطولها في باكستان الغربية في مجموعها 5503 ميلًا.

- السيارات: كان عددها في باكستان الشرقية، بما فيها سيارات نقل وسيارات ركاب، 4380 سيارة، بينما كان عددها في باكستان الغربية 21125 سيارة.

- شبكة السكك الحديدية: كان طولها في باكستان الشرقية 1419 ميلًا، بينما كان طولها في باكستان الغربية 5316 ميلًا.

- الموانئ: كان ميناء شاتغام أيام التقسيم لا يشحن ولا يفرغ أكثر من نصف مليون طن من الحمولة لضآلته ولكون ميناء كلكتة هو المقر الرئيسي لجميع أنواع التجارة في باكستان الشرقية. كما ذكرت ذلك آنفًا، بينما كان ميناء كراتشي يشحن يفرغ أيام ذاك ثلاثة ملايين طن من الحمولة.

- الصناعة: جل ما كان في باكستان الشرقية من الصناعات لا يضيف إلى ثروة البلاد أكثر من خمسين مليون روبية سنويًا، بينما الصناعات التي كانت تحظى بها باكستان الغربية كانت تغدق على البلاد أكثر من مائتي مليون روبية سنويًا.

- الطاقة الكهربائية: كانت تتولد الطاقة الكهربائية في باكستان الشرقية 7663 كيلو وات، بينما كانت باكستان الغربية تولد 68800 كيلو وات من الطاقة الكهربائية.

البقية في العدد القادم

 

 

 

 

الرابط المختصر :