العنوان تلالنا الهامدة
الكاتب محمد أحمد الراشد
تاريخ النشر الثلاثاء 18-فبراير-1975
مشاهدات 19
نشر في العدد 237
نشر في الصفحة 41
الثلاثاء 18-فبراير-1975
إحياء فقه الدعوة
لئن رأينا أبا الدرداء رضي الله عنه بعد فراقه حزب محمد صلی الله عليه وسلم باكيًا، فإنه سرعان ما انقلب ضاحكًا، ليقول:
«اضحكني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه».
وإنما هو ضحك التعجب من صورة حياتية يشاهدها كل مراقب لحياة الناس، يرى خلالها أنماطًا من الغفلة تصاحب بعض الناس تحرفهم عن رؤية مصير رهيب يتخطف غيرهم من حولهم، وما لهم أدنى ضمان لدفعه لو جاءهم كما يجئ أولئك.
فالناس في غفلاتهم
ورحى المنيـة تطحن
وهي ضحكة قد تهجم على صاحبها لأول وهلة حين يحار في تفسير هذه الظاهرة، لكنها سرعان ما تتحول إلى شفقة ورحمة تأبى إلا أن تصدم الغافل صدمة إيقاظ تخرجه عن سكونه.
رحمة حركت أبا الدرداء برفق، فأتى إلى هذا الذي أضحكه، فنقر بأصبعه على كتفه، فالتفت، فهمس فى أذنه أن:
«ويحك! كيف بك لو قد حفر لك أربع أذرع من الأرض؟».
وما ندري مدى حظ ذاك المرء من التوفيق، إن كان قد انخلع عن غفلته أم سدر فيها، ولكنا ندري أن همسة أبي الدرداء ما زالت حية، وأن ما ذرعه لم تزده الأيام سعة وطولًا، وإن قبل هذه الأذرع الأربع وبعدها قصة متصلة المشاهد، يرويها الرواة لمن يلقي السمع وهو شهید.
• يوم الحصاد
مشهدها الأول: الحصاد: يوم يحصد الموت الروح كما يحصد المنجل الزرع.
وليس في التشبيه مفارقة، فإن حصاد هذه الأرواح يحوي مثل ذلك من الفوائد، من بين موت شهادة ظاهر نفعه، وموت دون ذلك يكون للغير سبب اعتبار وادکار.
وذلك ما صوره الشاعر حين خاطبك فقال:
ما أنت إلا كزرع عند خضرته
بكل شيء من الآفات مقصود
فإن سلمت من الآفات أجمعها
فأنت عند كمال الأمر محصود
أو قد يسمى هذا اليوم: يوم الصراخ، وذاك حين يعرق الجبين، ويتابع الأنين، وتكون الغرغرة، وتبرد الأعضاء، وتستبد السكرات، فيفتضح الضعف، فيعلو الصراخ.
باكيات عليك يندبن شجوًا
خافقات القلوب والأكباد
يتجاوبن بالرنين ويذرفن
دموعًا تفيض فيض المزاد
فيأتي من يحبسهن جانبًا، ليغسلوك على عجل.
عجلة يضجر الغاسل معها إن تباطأ من يحمي الماء، فينادي: ألا إن وراءنا أشغالنا فاستعجلوا!
كما هو الخلق القديم في الغاسلين، منذ عصر من قال:
كأن لم أكن إذ احتث غاسلي
وأحكم درجي في ثياب بياض
وما هي إلا أذرع أربع من القماش الرخيص، كتلك من الأرض السبخة، يحملك بعدها أصحابك على الرقاب
فلا تنس يومًا تسجى على
سريرك فوق رقاب النفر
فإن كنت صالحًا استبشرت تلك الساعة، ولبثت تصيح طربًا: قدموني، قدموني، تصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:
«إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها! أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق».
• ثم يوم الرقاد
وتنتقل القصة إلى مشهد ثانٍ يسمى: يوم الرقاد الطويل، يبدأ بملكين يفتنان الميت، ذكر خبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبًا من فتنة الدجال، فأما المؤمن أو المسلم فيقول: محمد جاءنا بالبينات فأجبنا وآمنا، فيقال: نم صالحًا، علمنا أنك موقن، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته».
وذلك هو الحوار المذكور في الحديث الآخر، أن:
«العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيراهما جميعًا».
وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دریت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين».
فيستيقظ الدود لتلك الصيحة، ويهجم هجومه، فيستسلم الرجل، ويذعن، ويأخذ يقول، كأنه يستزيد:
ضعوا خدي على لحدي ضعوه
ومن عفر التراب فوسدوه
وشقوا عنه أكفانًا رقاقًا
وفي الرمس البعيد فغيبوه
فلو أبصرتموه إذا تقضت
صبيحة ثالث أنكرتموه
وقد مالت نواظر مقلتيه
على وجناته فرفضتموه
فهنالك يكون السكون، حيث تصفر الريح على تلال هامدة واطئة، فيصل صفيرها إلى آذان أمهات ثكالى يخرجن ببلاهة يقودهن الصفير إلى قبور أبنائهن، لتسأل كل واحدة منهن ابنها:
بأي خديك تَبدّى البلى
وأي عينيك إذا سالا؟
فيجيبهن صوت بعيد، من حيث القبر الأخير المنزوي:
لم تبق غير جماجم عريت
بیض تلوح، وأعظم نخرة
ويثني آخر:
لا يدفعون هوامًا عن وجوههم
كأنهم خشب بالقاع منجدل
أو يرد صوت ثالث:
هجود ولا غير التراب حشية
لجنب، ولا غير القبور قباب
أو يخبرهن رابع:
قد أصبحوا في برزخ
ومحلة متراخية
ما بينهم متفاوت
وقبورهم متدانية
فمحلها مقترب، وساكنها مغترب، بين أهل موحشين، وذوي محلة متشاسعین، لا يستأنسون بالعمران، ولا يتواصلون تواصل الإخوان. قد اقتربوا في المنازل، وتشاغلوا عن التواصل، حتى طحنهم بكلكله البلي، وأكلهم الثري.
وبينما هم كذلك إذ جاءهم من ليس هو بفضولي، وعساه عند عمر بن العزيز أو عنبسة أو القرظي يتدرب، فيسألهم:
أين الوجوه التي كانت محجبة
من دونها تضرب الأستار والكلل
ويميل بأذنه يريد جوابا منهم
أهل القبور أحبتي
بعد الجذالة والسرور
بعد الغضارة والنضا
رة والتنعم والحبور
بعد الحسان المؤنسا
ت وبعد ربّات الخدور
أصبحتم تحت الثرى
بين الصفائح والصخور
• حساب وکتاب
فيظلون بعد وداعه في انتظار مشهد ثالث يسمى: يوم البعث.
يوم انشقاق الأرض عن أهل البلى فيها، ويبدو السخط والرضوان يوم القيامة، يوم يظلم ظلم الظالمين ويشرق الإحسان ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾ (الزمر: 56). «وتنادي أخرى: ﴿هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ﴾ (الشورى: 44).
وتستغيث أخرى: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ (الأعراف: 53).
فهنالك ثالثة يكون الوجل..
هناك إن كنت قدمت مدخرًا
تسقى من الحوض ماء غير ذي أسن
وتنشر الصحف فيها كل محتقب
من المخازي وما قدمت من حسن
قد كنت تنسى وتلك الصحف محصية
ما كنت تأتي، ولم تظلم ولم تخن
فالسعيد ذاك اليوم من كانت له في يومنا هذا بهذا عبرة تستخرج من عينه وقلبه.. عبرة تنطق لسانه رهبة وأسفًا، ليدندن في الليالي:
وا حسرتي، وا شقوتي
من يوم نشر كتابيه
وأطول حزني أن أكن
أوتیته بشمالیه
وإذا سئلت عن الخطأ
ماذا يكون جوابيه؟
وا حر قلبي أن يكون
مع القلوب القاسية
کلا ولا قدمت لي
عملًا ليوم حسابيه
بل إنني لشقاوتي
وقساوتي وعذابيه
بارزت بالزلات في
أیام دهر خالیة
من ليس يخفى عنه من
قبح العاصي خافية
• ما بعد هذا إلا التشمير
فأما صاحب القلب الحي فنقص له قصة الأيام الثلاثة هذه. وأما أموات القلوب فذرهم في ركستهم يتخبطون.
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الحجر: 3). تمتع آكلة الخضرة التي حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«آكلة الخضرة أكلت، حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت».
هكذا كالخرفان تماما، يأكلون وينامون، فيتغوطون، فيعودون إلى الأكل، ولا شيء آخر.
تعست حياتهم!
فتدبر أمرك أيها المسلم وتأمل.
وقف ولا تعجل.
فإنك لممتحن، وبكسبك مرتهن.
وإنه:
سيأتيك يوم لست فيه بمكرم
بأكثر من حثو التراب عليكا
بل يرى أصحابك ذلك غاية الإكرام لك.
يقولون: كان رحمه الله صديقا لنا، ولا بد أن نكرمه، وواجب أن نحضر لنحثو التراب عليه.
وكم قد رأينا فتى ماجدا
تفرع في أسرة ما جده
رماه الزمان بسهم الردى
فأصبح في التلة الهامده
فاذكر واتعظ، ولا تنشغل بالأمل عن ذكر قصة الحصار والحصاد والأجل، عسيت بفضل الله تنجو، وتفوز ببعض ما المؤمن يرجو ..
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل