; ثورة التحرير.. خواطر مشارك | مجلة المجتمع

العنوان ثورة التحرير.. خواطر مشارك

الكاتب داود حسن

تاريخ النشر السبت 26-فبراير-2011

مشاهدات 6

نشر في العدد 1941

نشر في الصفحة 42

السبت 26-فبراير-2011

هل تبقّى شيء يُروى عن ثورة «الخامس والعشرين من يناير» المصرية؟ تفاصيل الثورة من الألف إلى الياء بثت لحظة بلحظة على شاشات الفضائيات العربية والعالمية ومواقع الإنترنت، أوقات التضحية والبسالة، الألم والإصرار، الفرح والانتصار، الملايين عاشوا ما يجري وكأنهم وسط الميدان.. فهل فعلًا تبقّى شيء لم يُروَ؟

إجابتي: نعم، هناك الكثير.. مخزون عاطفي ونفسي، داخل إنسان عاش الثورة منذ يومها الأول، انطباعات ومشاعر لم ترصدها الكاميرا، خاصة إذا كانت تجربة لإنسان بسيط عاش أكثر من أسبوعين وسط بحر متلاطم من البشر، في مكان محدود المساحة، لكنه رحب الأفق، امتزجت فيه المعاني الإنسانية بين الموت والحياة. لم تكن الثورة المصرية مجرد حلم بتغيير حاكم ظالم قمع الناس وجثم على صدورهم ثلاثة عقود، لكنها كانت ثورة على نظام حياة في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والفنون، وإبداع نظام جديد، تغير فيه البشر في ساعات من أسوأ خلق الله إلى أطهرهم وأنقاهم.

ثورة بدون قائد

فلأول مرة في التاريخ المصري الحديث والمعاصر وربما في التاريخ المصري كله، تخرج ثورة بدون برنامج وبدون قائد، من رحم الضياع، ضياع عدة أجيال، لم يروا لهم حاضرًا أو مستقبلًا، فالبطالة متفشية، والتعليم في أسوأ أحواله، والحالة السياسية تعاني الجمود والتشرذم، وكافة منافذ التغيير السلمي مغلقة على حفنة من الفاسدين، والمجتمع تقطعه أمراض الفقر والعوز والفتن الطائفية، والجريمة والفساد وصل إلى الحلقوم، وضرب كافة مفاصل الدولة، ولم يكن أمام الناس ملجأ إلا الانتحار أو ترك البلد والمغامرة بالهروب في مراكب الموت إلى أوروبا، أو الاستسلام للوضع السائد وانتظار الم وت، والإصابة بحالة من البلادة الفكرية وفقدان الأمل في أي شيء، لا بديل غير ذلك.

فجاءت الثورة وكأنها البلسم الذي أزاح من على صدور المصريين كل أدران الحياة، وخطا بالبلاد والعباد أكثر من نصف قرن للأمام.

في الثورة اكتشف المصريون كم هم شعب عظيم.. عظيم بتماسكه وبإعادة اكتشاف نفسه من جديد.

هذه السطور تكشف ماذا كسب المصريون من تلك الثورة الطيبة:

المرض الطائفي نموذجًا

قبل الثورة بأيام، كانت هناك حالة من التشنج الطائفي بين الأقباط، خاصة بعد عدة حوادث استهدفت كنائس، وكان آخرها حادث تفجير كنيسة «القديسين» بالإسكندرية، والتي اتهمت وزارة الداخلية جماعة «جند الإسلام» بأنها وراء هذه العملية، إضافة إلى وجود شريحة من الأقباط يقودهم البابا «شنودة» بنفسه تطالب بحقوق مزعومة للأقباط، ويضغطون على المسؤولين بالدولة، وكانت الدولة تخضع لمطالبهم باستسلام تام؛ مما أدى إلى حالة من الاحتقان الطائفي الذي بلغ مرحلة الخطورة.

فجاءت الثورة وأنهت هذا الأمر جملة وتفصيلًا، لذلك كان البابا «شنودة» أكثر الناس حزنًا على رحيل الرئيس «مبارك» وانهيار نظامه؛ لأن الثورة قضت على المشروع السياسي والديني الطائفي للرجل، والذي كان يخطط له منذ اعتلائه عرش الكنيسة الأرثوذكسية قبل نحو أربعين عامًا، حيث ظل يعمل على أن يكون الأقباط شريحة معزولة عن المجتمع الم صري، وأن يكون هو الممثل الديني والسياسي الوحيد للمسيحيين في مصر، فيما أطلق عليه بالشعب القبطي.

لكن الثورة نجحت في تذويب الفوارق التي بناها البابا «شنودة» بين المسلمين والمسيحيين، ظهر ذلك في تحدي مئات الشباب القبطي لتعليمات البابا بعدم تأييد الثورة والخروج على الرئيس «مبارك» ونظامه، وشاركوا بكثافة في فعاليات الثورة معتصمين ومتظاهرين، ومرددين نفس الشعارات، فحصل اندماج تام بين الشباب المصري المسلم والمسيحي، وكانت الصورة في أجمل حالاتها للحوارات واللقاءات بين شيوخ أزهر وبين الشباب القبطي في مختلف أنحاء «ميدان التحرير»

معدن نفيس

أجمل ما حملته الثورة للمصريين أنهم تعرفوا على أنفسهم من جديد، فقد كشفت عن معدن نفيس كانت تخفيه مظالم تراكمت ثلاثة عقود من الاستبداد، وقد كانت أجهزة الإعلام تروج باستمرار أن الشباب ضائع ما بين أفلام «البورنو» الإباحية والحديث عن جرائم التحرش الجنسي والمخدرات، وأنه يعيش على صفحات الإنترنت دون هدف محدد، لكن هذا الشباب الضائع كان هو المحرك الأساسي للثورة، وكانت كل النقائص التي يوصف بها هي وقود معركة الثورة، وتغير الشباب والشعب بين ليلة وضحاها إلى شباب وشعب غير الشعب، سلوكيات مختلفة وأداء وحيوية في كل مناحي الحياة.

فعلى مدى أيام الثورة كنت أراقب بدقة مدى تعامل الشباب من مختلف مشاربهم مع بعضهم بعضًا، بل مع الشابات غير المحجبات واللائي كن يرتدين ملابس غير محتشمة، كنت أرى العفة في قلوب وتعاملات هؤلاء الشباب، فلم ألحظ أقل ما يخدش حياء إحداهن، حتى في تلاطم أمواج المظاهرات، كانت هناك عفة، قال أحدهم: إنني كنت من قبل أنظر للنساء الجميلات، لكن خوفي على الثورة، جعلني أعرض عن هذا الأمر خشية أن تؤثر تلك المعصية على الثورة.

الأربعاء الدامي

قال لي أحد الأطباء المسؤولين عن المستشفى الميداني في ميدان التحرير ليلة الأربعاء الدامي الذي اقتحمت الميدان فيه الجمال والخيول والبغال المؤيدة للرئيس «مبارك»، قال: إنه كان يأتيه الشباب المصاب فيتم عمل إسعافات أولية لهم، وبعد ساعة أو اثنتين يعودون مصابين في مناطق أخرى من جسدهم، بسبب المواجهات العنيفة مع الشرطة السرية والبلطجية.

وسمعت الشيخ «صفوت حجازي» وهو أحد قيادات الشباب للمظاهرات يقول: إنه عندما حمي الوطيس في تلك المعركة، سأله أحد الشباب صغير السن: ما مصير من يموت في الميدان وهو يواجه البلطجية؟ فقال له: سيكون شهيدًا، فما كان من ذلك الشاب إلا أن هجم على أحد راكبي الخيول من البلطجية وأسقطه أرضًا، وفي خلال خمس دقائق أصيب هذا الشاب في رأسه بطلقة قناص، وكم كان المشهد وروايته مؤثرًا في جموع المستمعين.

ليلة عصيبة

من أجمل الصور أنه في تلك الليلة العصيبة، كنا أقل الأيام عددًا وأكثرها برودة وتعبًا، وكان أكثرنا يحاول الحصول على قسط من الراحة، فكانت السيدات والفتيات الفضليات محجبات وغير محجبات ومنقبات يمرون في ساعات الليل المتأخرة يطلقون الشعارات، «مصر بلدنا فيها رجالة، حي على الجهاد»، حتى طلوع الفجر، هؤلاء النسوة رغم ضعفهن إلا أنهن تركن منازلهن وجئن يبتن وسط الرجال مع ذويهن، وشعارهن «تغيير النظام أو الشهادة».

لم يكن ميدان التحرير ساحة للوغى والاحتجاج، لكنه كان ميدانًا للفرح والاستبشار؛ فقد كانت هناك طلبات لعقد قران وصلت إلى مائة وسبعين حالة، كنت شاهدًا على إحداها، جاء العريس والعروس والأهل وكانت الأسرتان معتصمتين في الميدان، وفي اليوم الأخير قرروا تزويج المخطوبين، وكم كانت فرحة عارمة.

ميدان التحرير كشف عن وجود خميرة هائلة من الإبداع والتألق عند المصريين، ويكفي أن تشاهد الفن والإبداع في صياغة لافتات التنديد بـ«حسني مبارك»، أو تسمع الهتافات والغناء الثوري والفلكلوري، كم هي رائعة وعبقرية، ولابد أن تتساءل: من أين جاء كل ذل ك؟ ولم يتوقف الإبداع والحراك عند السياسة، بل امتد إلى الشارع، وإلى معاملات الناس، وسلوكهم، لقد شعر المصريون أنهم شعب واحد وجسد واحد.

من أهم المعاني التي اكتشفها المصريون، أن عصا النظام الغليظة المتمثلة في أكثر من مليون وثلاثمائة ألف جندي أمن مركزي وجحافل من الأمن أشبه ببيت العنكبوت، سرعان ما تنهار مع أول مواجهة، وقد رأيت بأم عيني عشرات الشباب الذي ضحى بنفسه من أجل الوصول إلى ميدان التحرير، ورأيت على كوبري «قصر النيل» كيف أن الشباب هجم على الجنود وانتزع منهم البنادق وقاذفات القنابل المسيلة للدموع، ويلقيها في النيل، لم يوجه أحد من الشباب حتى مجرد لكمات للجنود والضباط، وحتى عندما قبض الشباب على لواء شرطة كان قائدًا لعملية قمع التظاهرة الضخمة في الجيزة حموه ورفضوا إيذاءه.

أبرز السمات

لقد كان إنكار الذات والذوبان في حب الوطن أبرز سمات ثورة ميدان التحرير، لم يرفع فصيل سياسي مصري رايته، ولم يطلق شعاراته، ولم يدّعِ أحد أنه قائد الثورة، لقد رأيت سيدة يبدو عليها الوقار في منتصف الأربعينيات، تكنس الشارع أمام مجمع التحرير، وإذ ببعض البنات يقبِلْن عليها ويحيينها باسمها مسبوقًا بلفظ دكتورة، فاقتربت من إحداهن، وسألتها: من هي الدكتورة؟ فأوضحن أنها أستاذة في كلية طب «قصر العيني».. إلى هذا الحد وصل المصريون في حبهم لبلدهم وإنكارهم لذاتهم.. لذلك كنت تشعر وأنت في ميدان التحرير بروحانيات وكأنك في الحج، وعند الالتحام بالبلطجية وق وات الشرطة وكأن الملائكة تحارب معك.

مشاهد الثورة وتجلياتها تحتاج لحلقات، فلدى كل واحد من الملايين الذي نزلوا الشارع أجمل الذكريات، وهذه السطور مجرد خواطر.

الرابط المختصر :