; حسن البنا.. باني حركة «الإخوان المسلمون» ورائدها المحضن الطيب..  والاستعداد الفطري والنبوغ المبكر.. كانت «الدعوة» صلاته ونسكه ومحياه.. ومماته.. | مجلة المجتمع

العنوان حسن البنا.. باني حركة «الإخوان المسلمون» ورائدها المحضن الطيب..  والاستعداد الفطري والنبوغ المبكر.. كانت «الدعوة» صلاته ونسكه ومحياه.. ومماته..

الكاتب عبد المجيد المهندس

تاريخ النشر الثلاثاء 15-فبراير-1977

مشاهدات 19

نشر في العدد 337

نشر في الصفحة 10

الثلاثاء 15-فبراير-1977

مضى زمن طويل.. وحركة التاريخ والإسلامي بالذات- يتصدرها مجموعة من الناس.. لا ولاء بينهم وبين هذا الدين.. سواء من أحفاد المسلمين أو من أعداء المسلمين.. بل أن الحركة الإعلامية والثقافية بجملتها تأخذ مسارًا موجهًا ضد مسار حركة الإسلام.. 

ومرت سنوات عديدة وظهرت مؤلفات ودراسات وكتب مختصة وغير مختصة تؤرخ لعالمنا اليوم ولمنطقة الشرق، كلها تتحاشي ذكر تأثير الحركة الإسلامية في الأحداث، وحتى المختصة بالإسلام تتحدث عن كل شيء وكل شخص سوى رجالات الحركة المخلصين..

وحتى اليوم لم يسجل للحركة الإسلامية دورها في التاريخ، وهو أبرز الأدوار وحتى اليوم لم يكتب عن رجالها وهم أخطر الرجال بالنسبة الذين يكتبون.. والحركة الإسلامية ليست أمرًا هامشيًا في أحداث التاريخ ودورها ليس ثانويًا بل أساسيًا وجذريًا، انطلاقًا من مبدأ عقيدي من العداء الأبدي المستحكم بين الجاهلية والإسلام.

فهي سبب وراء تغييرات جذرية في شرقنا هذا، قامت حكومات وذهبت ممالك وتغيرت الأشكال والنماذج وعقدت اتفاقيات ومعاهدات..

تبدو للمرء أن لا صلة لهذا كله بالحركة الإسلامية. ولكن غالبا ما تكون الحركة أحد الأسباب إن لم تكن هي السبب الرئيسي وأبرز حركات الإسلام وأظهرها في تاريخنا المعاصر حركة الإخوان المسلمين.

الرائد المجدد

وأبرز رواد الحركة الإسلامية وبلا جدال، الإمام الشهيد حسن البنا - رحمه الله- وحسن البنا رحمة الله عليه، ليس ظاهرة ظهرت واختفت باختفاء صاحبها بل هو ظاهرة مستمرة باقية ما بقيت الدعوة لهذا الدين، وحسن البنا ليس مصلحًا ككل المصلحين بل هو رائد من رواد الإسلام، لا تزال آثاره تظهر فجأة في أراض لم يطؤها قط، وبين أناس ما رأوه.

حسن البنا باعث الحركة الإسلامية من جديد وفي ثوب جديد، رجل ليس ككل الرجال، إنه رجل لكل العصور والأجيال القادمة، كابن عبد الوهاب وكابن تيميه وكصلاح الدين والظاهر بيبرس، إنه رائد هذا الجيل، جيل الدعاة من المسلمين.

وفي مثل هذا الشهر من كل عام  ومنذ عام ١٩٤٩تمر ذکری استشهاد الإمام، الإمام حسن البنا، رمز الحركة الدؤوبة، والجهد المتواصل، والسعي المستمر.

وأنا لست ممن يقولون بالاحتفال في ذكرى الأموات والشهداء فهذه عادات ليست من طبيعة ديننا ولا من منهج قرآن ربنا هي عادات جاءتنا من جاهلية هذا العصر, ولكن ماذا نفعل إذا كانت الحياة بمعتركها وحدتها تنسينا إخواننا الذين سبقونا بالإيمان؟ وماذا نفعل إذا كانت ضغوط الجاهلية وغربتنا فيها لا تتيح لنا فرصة؟

هذه وقفات لتذكر الأبطال والاستفادة من تجاربهم وممارستهم الدعوة، جاءت بمناسبة استشهاد حسن البنا وغالبًا ما تكون المناسبات دافعا للذكرى.

النشأة والمناخ

نشأ البنا- رحمه الله- في بيئة ريفية في الريف المصري في محمودية البحيرة، حيث لا صخب ولا ضجيج، حيث صفاء الماء والخضرة ونقاء الهواء بنسائمه والبساطة في أحلى صورها، حيث الهدوء لا يحركه إلا شقشقة الطيور وحفيف الشجر وخرير المياه وشيء من سذاجة الصبية ولهوهم وقليل من صيحات الباعة، كل هذا يمتزج في الأرواح والنفوس ويطلق الفطرة آفاقها لتصبغ حياة الناس.. 

وهناك الناس جبلوا على حب الفضيلة وكره الرذيلة، فهذا الصغير حسن البنا يمر ذات يوم على شاطئ النيل حيث يشتغل عدد كبير من العمال في بناء السفن الشراعية..  فيلاحظ أن أحد أصحاب هذه السفن المنشأة قد علق في ساريتها تمثالًا خشبيًا عاريًا على صورة تتنافى مع الآداب- وهو منظر غير مستنكر في المدن- فهاله ما رأى وذهب فورًا إلى ضابط النقطة وقص عليه مستنكرًا ما رأی.. فوجد الحماسة من الضابط بل وجد التشجيع وقاما معًا لتغيير هذا المنكر.

وفي هذه البيئة كان الناس يميلون إلى التدين الصوفي، الذي نشأ بناء على واقع المجتمع الإسلامي إبان الدولة العثمانية، حيث الجماهير اعتزلت أمور السياسة وازدادت حدة الصراع على السلطة بين أهل النفوذ، فاكتفت الجماهير بدور المتفرج المحايد- وهذا واضح في عصر المماليك حتى قبل مجيء محمد علي باشا وكذلك الحروب والقتال كان له جيش حكومي رسمي يقوم بأعبائه.. 

نتيجة لذلك، كان الاتجاه المتأفف من الأوضاع السياسية يسير نحو الزهد من هذه الدنيا والاهتمام بتربية الروح والالتفاف حول الصالحين الزاهدين حتى وإن كانوا في قبورهم وتحت أضرحتهم وجد هذا الاتجاه مجالًا خصبًا في الجماهير المتفرجة وانحصر نشاط معظم الشيوخ والعلماء في تربية الروح والزهد من الدنيا والعلم الصوفي وشيء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى تأصل هذا الاتجاه في معظم العالم الإسلامي آنذاك، لولا حركة المجدد محمد بن عبد الوهاب الذي أحيا السنة والجهاد.

تأثر حسن البنا تأثرًا بالغًا في بيئته هذه، فقد ظل معروفًا بصفاء السريرة ونقاء الفؤادوبغضه للخلاف وحبه للوفاق حتى ولو على خيوط ضعيفة وقد تأثر بطابع البيئة التدين، فقد كان يجتمع مع تسعة آخرين برفقة شيخهم أبو شوشة ويذهبون إلى المقبرة لزيارة القبور ويجلسون بمسجد الشيخ النجيلي ويقرأون الوظيفة، ويرقق الشيخ قلوبهم وعبراتهم بقص قصص الصالحين وأحوالهم ويعرضهم على القبور المفتوحة ويأمرهم بالنزول فيها لدقيقة وأكثر حتى يتذكروا لحظات القبر وظلمته ووحشته وكثيرًا ما كان يربط لكل واحد منهم خيطًا حول معصمه ليكون ذكرى التوبة.

وتلقى حسن البنا طريقة الصحافية الشاذلية عن طريق شيخ الطريقة السيد عبد الوهاب الحصافي وأذنه بأدوارها ووظائفها وتمت البيعة لهذه الطريقة.

ويقول عن أيامه في دمنهور «نزلت دمنهور مشبعًا بالفكرة الحصافية ودمنهور مقر ضريح الشيخ السيد حسنين الصحافي شيخ الطريقة الأول وفيها نخبة من الأنباء الكبار للشيخ..  فكان طبيعيًا أن اندمج في هذا الوسط، أن استغرق في هذا الاتجاه», وكان يواظب على حلقة الذكر التي اجتذبته بأصواتها المنسقة ونشيدها الجميل وروحانيتها الفياضة.

هكذا نجد أن حسن البنا- رحمه الله- تأثر تأثرًا بالغًا ببيئته فأخذ شهامة أهل الريف ووفاءهم وأخذ قوة وعزيمة أهل التصوف وتجردهم وأخذ صفاء الريف ونقاءه وحلاوته.

في المحضن الطيب

یروی أن رجلًا جاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو عقوق ابنه.. فاستدعى عمر الابن العاق.. وسأله عن سبب عقوق والده وعدم أداء حقوق الوالدين فسأله الابن عما إذا كان للابن حقوق على الأب، فأجاب عمر بأن حقوق الابن على الأب ثلاثة أن يختار له اسمًا حسنًا وأن يختار له أمًا من منبت طيب، وأن يعلمه القرآن ويحفظه.

والشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي والد الإمام الشهيد، أدى واجبه على أتم وجه، فقد اختار له اسمًا من أحسن الأسماء، سماه حسنًا وهو أول اسم سماه الرسول لحفيدة ابن الزهراء بل إنه من قدر الله أن يرادف لقب البنا اسم حسن دون سائر الأسرة التي غالبًا ما يرادفها اسم الشهرة «الساعاتي» وظلت معاني الحسن والبناء تظلل ذكر الإمام الشهيد حسن البنا.

أما والده فقد كان يرى في ولده بركة الدعاء الصادق المخلص، يقول والده «عندما تزوجت في شبابي، كنت مأذونًا للشرع في بلدة «المحمودية» وإمامًا ومدرسًا لمسجد «كفر مليط».. ومضى على زواجي سنتان متعاقبتان لم الرزق خلالهما ولدًا، بينما رزق زميل لي- كان تزوج معي- طفلًا جميلًا فدعوت الله يومئذ أن يرزقني ولدًا صالحًا وأن يبارك لي فيه، فاستجاب -سبحانه- دعوتي ورزقني أولًا بحسن، ثم بمن أعقبه ومنهم أربعة ذكور».

وكان والده- رحمه الله- حريصًا على أن يعلمه القرآن وعلوم الإسلام، فأدخله مدرسة الرشاد الدينية ليحفظ كل القرآن وبعض الحديث الشريف ويتعلم هناك الإنشاء والقواعد والتطبيق، وطرفًا من الأدب والمطالعة أو الإملاء والمحفوظات، وعندما فكر حسن بالالتحاق بالمدرسة الإعدادية- هي مدارس حكومية- عارضه والدة معارضة شديدة حتى يحفظ القرآن ولم يتنازل عن رأيه إلا بعد أن عاهده حسن على حفظ القرآن من منزله. 

وقد كان- رحمه الله- سببًا في تزويد ابنه بالمعرفة الإسلامية يقول البنا عن سبب إقباله للدرس والتحصيل «إن مرد ذلك إلى أمرين- فيما أظن» أولهما مكتبة الوالد وتشجيعه إياي على القراءة والدرس..  وإهدائه إياي كتبًا لا أزال احتفظ بها» وكان حريصًا على تنمية قدرات ابنه وتكوين الشخصية الرجولية ذات الشهامة والشجاعة والمروءة، تلك الصفات التي ظلت تلاصق الإمام الشهيد حتى في لحظات استشهاده.

يقول البنا عن والده- رحمه الله- في معرض طلبه للذهاب لزيارة بلدته في الصيف «وكان الوالد يعلم السبب الحقيقي، ولكنه كثيرًا ما يسلم لي بما أريد ويشعرني دائما ثقته بتصرفاتي.. مما عودني به الثقة في نفسي».

وكان لاشتغال والد البنا- رحمه الله- بالحديث سببًا أساسيًا في وقاية البنا من بدع الصوفية التي تمج في ذلك الأوساط.. فهو أحمد عبد الرحمن الساعاتي المحقق المعروف عند أهل الصلاح والعلم والحديث وله مصنفات أشهرها المسمى «بالفتح الرباني لتصنيف مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني». وآخر جمع فيه أسانيد الشافعي وسماه «بدائع المنن» وآخر جمع فيه أسانيد الطيالسي وسماه «منحة المعبود» وها هو حسن يبدي امتنانه لوالده بأن الوظيفة التي كان يواظب عليها في طريقته الصوفية ليلًا ونهارًا هذه الوظيفة واسمها الوظيفة الرزوقية، وضع والده عليها تعليقًا لطيفًا جاء فيه بأدلة صاغها جميعا تقريبًا من الأحاديث الصحيحة وسماها «تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الرزوقية» وكان أحمد الساعاتي- رحمه الله- يشهد ابنه الصغير ينمو نموًا صالحًا، يصحبه حب الخير والدعوة له.. والصلاح والتقى والورع وكثرة التعبد والإقبال على الآخرة وسعة الاطلاع والتزود بالمعرفة، فلما بلغ الريادة في الدعوة، لم يجد غير ابنه حسن يكتب له مقدمة كتابه الفتح الرباني ونبذة يسيرة عن سيرة ابن حنبل..

أما والدته فهي امرأة فاضلة، أخرجت رجلًا عجزت نساء العصر أن يلدن مثله، كانت ترعاه رعاية شاملة، فهو حين يعتدي على أحد زملائه- المنافس الحاسد- يصب صبغة اليود عليه وهو نائم..  توجل هذه المرأة الكريمة وتأبي آباء شديدًا إلا أحد أمرين، إما أن ينقطع ابنها من العلم ويعود للوظيفة أو تنتقل هي معه من المحمودية الى القاهرة وقد كان هذا.. 

هكذا يخرج النبات الطيب من المنبت الطيب ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ (سورة الأعراف: 58) وهكذا كانت توجيهات أسرته أبيه وأمه ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا (إبراهيم: 24-25)

شيوخ البنا وصديقه

قبل أن يكون الرجل رائدًا.. ومؤثرًا.. هناك رجال وشيوخ وأساتذة تأثر بهم وأخذ منهم وتشكل شخصية المرء- غالبًا. من أولئك الناس الذين يتأثر بهم.. ونحن نبرز أولئك الرجال الذين تأثر بهم حسن البنا.. لا نبرز كل الرجال.. ولا نقطع بذلك..  إنما نعطي الاحتمال الأقوى اعتمادًا على حديثة هو..

ولقد مر بنا في الفترة السابقة كيف أن لوالده- رحمه الله- أكبر الأثر في تشكيل شخصيته وفي توجيهه وصقله..

ومن مذكرات الإمام الشهيد وفي أول البداية، يركز البنا على دور أستاذه الأول الشيخ محمد زهران ويبدي مدى تأثره بهذا الشيخ يقول عنه «الشيخ محمد زهران صاحب مدرسة الرشاد الدينية، الرجل الذكي الألمعي، العالم التقي، الفطن الظريف، الذي كان بين الناس سراجًا مشرقًا بنور العلم والفضل يضيء في كل مكان». 

ويقول عن أسلوب تدريسه «وكان للرجل أسلوبًا في التدريس والتربية مؤثر منتج، رغم أنه لم يدرس علوم التربية ولم يتلق قواعد علم النفس، فكان يعتمد أكثر ما يعتمد على المشاركة الوجدانية بينه وبين تلاميذه» ويقول عن مدى تأثره به «ولعلي أدركت منذ تلك اللحظة- وإن لم أشعر بهذا الإدراك- إثر التجاوب الروحي والمشاركة العاطفية بين التلميذ والأستاذ، فلقد كنا نحب أستاذنا حبًا جمًا رغم ما كان يكلفنا من مرهقات الأعمال، ولقد أفدت منه -رحمه الله- مع تلك العاطفة الروحية، حب الاطلاع وكثرة القراءة..  إذ كثيرًا ما كان يصحبني إلى مكتبته وفيها الكثير من المؤلفات النافعة».

الشيخ محمد زهران رجل كفيف، ولكنه داعية نشيط،افتتح مدرسة لتعليم النشء، مدرسة الرشاد الدينية، وأنشأ مجلة الإسعاد بالمحمودية، وله دروس بين المغرب والعشاء ودروس خاصة النساء وتلمس من مقالاته التي كتبها أنه ذو عقيدة سليمة وذو غيرة على الإسلام يغضب إذا أهمل الحكام شريعة الله ويطالب الأزهر أن يقوم بدوره..

فكان من الطبيعي أن يتأثر البنا برجل كهذا وأن يحزن عندما يعلم بأن شيخه لن يدرسه بل يقرر الانتقال من المدرسة لهذا السبب.

الشخصية الثانية التي نالت اهتمام حسن البنا على الرغم من عدم لقائه بها هي شخصية السيد حسنين الحصافي شيخ الطريقة الأول،  يقول عنه البنا «وكان أعظم ما أخذ بمجامع قلبي وملي على قلبي من سيرته -رضي الله عنه- شدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه كان لا يخشى في ذلك لومة لائم، ولا يدع الأمر والنهي مهما كان في حضرة كبير أو عظيم».. وعندما يتحدث عنه الإمام يصفه بأنه كان عالمًا أزهريًا، تفقه على مذهب الإمام الشافعي وبرع في علوم الدين وكان رفقاؤه يقولون عنه ما رأينا أقوى على طاعة الله وأداء الفرائض والمحافظة على السنن والنوافل منه.

وكان يدعو الى الله بأسلوب أهل الطريق، ولكن على قواعد سليمة فكانت دعوته مؤسسة على العلم والتعليم، والفقه والعبادة والطاعة والذكر، ومحاربة البدع والخرافات الفاشية بين أبناء الطرق والانتصار للكتاب والسنة على أية حال، والتحرز من التأويلات الفاسدة والشطحات الضارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أنه غير كثيرًا من الأوضاع التي تخالف الكتاب والسنة مما كان عليه مشايخه أنفسهم.

لقد كانت سيرة هذا الشيخ متمثلة أمام عين البنا في فترة من الزمان.. وكان تأثيرها واضحا في نفسه.. وفي أحلامه كذلك.

كما أنه تأثر بابن هذا الشيخ والوريث الشرعي للطريقة الحصافية وهو الشيخ عبد الوهاب الحصافي، يقول عنه «فقد أفادتني صحبته أعظم فائدة وما علمت عليه في دينه وطريقه إلا خيرًا فقد امتاز في شخصيته وإرشاده ومسلكه بكثير من الخصال الطيبة».

«واذكر من أساليبه الحكيمة في التربية أنه لم يكن يسمح للإخوان المتعلمين أن يكثروا الجدل في الخلافيات أو المشتبهات من الأمور أو يرددوا كلام الملاحدة أمام العامة من الإخوان..  ويقول اجعلوا هذا في مجالسكم الخاصة..  أما هؤلاء فتحدثوا أمامهم بالمعاني المؤثرة العملية التي توجههم إلى طاعة الله».

وفي مذكرات حسن البنا رجال كثيرون عايشهم وصاحبهم وأخذ منهم ولكن نحن عمدنا إلى أولئك الذين عايشهم وهو في مطلع شبابه، لأن هذه الفترة هي فترة الأخذ والتأثر،كما أننا عمدنا إلى أبرز الذين تأثر بهم وإن كان هناك آخرون ومن الطرائف أن نجد من أساتذة الأمام من يكون فيما بعد جنودًا معه في الدعوة كالأستاذ عبد العزيز عطية أستاذه في مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور.

وهناك شخصية صاحبت حسن البنا في أغلب أدوار حياته مصحوبة بكثير من المشاعر والعواطف والأحاسيس في بداية الأمر وكثير من الاحتكاكات والإحراجات والمشاكل في آخر الأمر، إنها شخصية أحمد أفندي السكري، كان اللقاء الأول في حلية ذكر «الإخوان الصحافية»، كان أحمد السكري يعمل بالتجارة البسيطة بينما كان البنا طالبًا وثمرة هذه الصداقة هي «جمعية الصحافية الخيرية» التي ترأسها السكري واختير البنا سكرتيرًا لها، يتحدث البنا عن تلك الصداقة «كانت الصداقة بينه وبين الأخ أحمد أفندي السكري قد توثقت أوامرها إلى درجة أن أحدنا ما كان يصبر أن يغيب عن الآخر طول هذه الفترة أسبوعًا كاملًا دون لقاء» ويتحدث عن الأم الفرقة عن زميله عندما قرر الدراسة القاهرة. «لم يكن يقلقني ألا شيء واحد وهو الشعور بطول الغيبة عن المحمودية، وفيها الصديق الحميم، والأخ الحبيب أحمد أفندي السكري، ولكننا اتفقنا على إنفاذ هذا العزم ما دام هو الأفضل ثم نتزاور  بعد ذلك أو نتكاتب»

وتقوى هذه العلاقة وتصبح المراسلات بينهم يوميًا تقريبًا..  بل يفكر السكري بالانتقال إلى القاهرة ليصبح قرب زميله وينقذ التجربة لمدة شهر، بل أن البنا كان يقضي الفترة العطلة بالمحمودية على الرغم من أن أسرته انتقلت إلى القاهرة يقول: «كنت أجد السعادتين في هذه الحياة سعادة الاعتماد على النفس والكسب من اليد، وسعادة الاجتماع بالأخ أحمد أفندي وقضاء الوقت معه ومع الحصافية».

وعندما يتخرج حسن البنا من دار العلوم وينتقل إلى وظيفته بالإسماعيلية ويبدأ بالعمل الحركي الجاد ويبارك الله له في مجهوده وتنتشر الدعوة وتبرز  وتصل المحمودية ليكون السكري رئيس الفرع الإخوان هناك ويبدأ يتلقى التوجيهات والإرشادات من صديق عمره بينما كان بالأمس رئيسًا لجمعية الصحافية والبنا سكرتيرا لها، تبدأ الاحتكاكات تبرز ، والبنا يعامله بالحسنى وتجامله ويقدمه بقدر ما يستطيع،  يقول البنا في أحد خواطره «حضر اليوم..  و.. من المحمودية وتكلمنا كثيرًا عن جمعيات الإخوان المسلمين» «على أن ملخص خطراتي أن فرعي الإخوان بالمحمودية وشبراخيت سوف لا تنفع كثيرًا لأنها انشئت بغير أسلوبي، ولا ينفع في بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسي وبجهود الإخوان الحقيقيين» «إنه قائد موهوب ولكنه منصرف بهذه القيادة وهذه المواهب إلى السفاسف ومسرف في وقته لا يقدر له قيمة، قلبه مملوء بأوهام لا حقيقية لها ومنصرف إلى ناحية لا تثمر إلا العناء، فالاعتماد عليه ضرب من المخاطرة العقيمة».

وبالرغم من كل هذا يستمر البنا في الاعتماد عليه والسكري مشدوه لانتشار الجماعة وقوتها وحاول أن يكون سلبيًا فيعتذر عن المؤتمرات، ولكن كان الركب لا يلتفت فبدأ يأخذ الطابع الإيجابي ليأخذ مكانه البارز في القيادة وينتقل إلى القاهرة ليسند إليه البنا الإشراف التام على النواحي الإدارية والعملية وكان البنا يحاول إرضاءه بكل الطرق بل يواجه الإحراجات والمشاكل التي يسببها له بالدفاع عنه يقول البنا، «ولقد حضر على ماهر باشا ومعه عبد الرحمن عزام باشا مؤتمر فلسطين في لندن فودعهما الإخوان أحر وداع وبعد حضوره ذهب وفد من الإخوان إلى المحطة لاستقباله وعلى رأسه الأستاذ أحمد السكريـ فهتف بحياته وأمر الإخوان أن يهتفوا بحياته كذلك، فهتف بعضهم وامتنع الآخرون، وعادوا ثائرين ورفعوا احتجاجًا عنيفًا وذكروا فيه أن الإخوان ليسوا هتافين، وأنهم لم يهتفوا لأشخاص وإنما يذكرون الله وحده ويهتفون لجهاد وأعمال، فطیب خاطرهم بأن هذه تحية المسافر وإننا لا نحيي شخصًا، ولكن نحيي عمله لفلسطين، فاحتسبوها عند الله في سبيل فلسطين» ولكن الإخوان يلحظون على السكري استغلال وضعه لغرضه الخاص فتحصل فتنة تذهب بمجموعة من خيار الإخوان ..

الدعوة صلاته ونسكه

من الناس من يبدو عليه- منذ نعومة أظافره التفوق في ناحية من النشاط الإنساني وحسن البنا مثال على ذلك، فالمتتبع لسيرته، يلحظ سعيه الدؤوب للدعوة منذ الصغر، وواضح جدًا أن قدر الله ورعايته وجهت حسن البنا ليتكون وينمو للدعوة لهذا الدين..  فهيأ له الله الأسرة الحريصة على استقامة أبنائها وأحاطه- سبحانه- بشيوخ وأساتذة من المعتدلين بعقائدهم المفكرين التصوف المنحرف، ولقد مر بنا كيف استنكر المنظر الخليع الذي كان على شاطئ النيل وأصر على تغييره بيده وها هو يشارك في تأسيس جمعية إسلامية داخل المدرسة الإعدادية، جمعية الأخلاق الأدبية، ونظرًا للثروة العلمية التي اكتسبها من مدرسة الرشاد الدينية يختار رئيسًا لمجلس هذه الجمعية وهو في مطلع عمره الأول ولا يكتفي بنشاط الجمعية المحصور داخل أسوار المدرسة بل يشرع مع الآخرين التكوين جمعية منع المحرمات التي زاولت نشاطها داخل القرية وبين عامة الناس..

وبعد الرابعة عشرة من عمره وهو في مدرسة المعلمين الأولية يختار طريق التصوف لتبدأ مرحلة التقويم الذاتي والتربية الوجدانية مرحلة يقوي فيها إرادته، ويرسخ فيها عزيمته، ويتقرب فيها إلى الله بأداء أكبر قدر من الشعائر والنسك، فيختار الطريقة الحصافية، وقد مر ذكرها وكيف أنها تنتصر دومًا للكتاب والسنة  ومحاربتها لكثير من بدع الصوفية مع هذا كله،  وداخل جمود الصوفية وجوف رتابة الطريقة، تخرج جمعية الحصافية الخيرية التي يرأسها السكري وسكرتيرها البنا.. تخرج بأهداف حركية ويخوض میدانین، میدان نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المذكرات والمحرمات الفاشية كالخمر والقمار وبدع المآتم، وميدان آخر جديد جدًا على الصوفية وهو مقاومة الإرسالية الإنجيلية التبشيرية.

وعندما ينتقل إلى القاهرة ليلتحق بدار العلوم تظل الدعوة ديدنه الأول والأخير وكانت القاهرة آنذاك مسرحًا للفسق والفساد وميدانًا للإلحاد والكفر، بل هذه الفترة كانت تعم العالم الإسلامي وهي فترة سقوط الخلافة وانتشار العلمانية ولم تكن هناك جمعيات إسلامية سوى جمعية «مكارم الأخلاق الإسلامية» فبادر البنا بالالتحاق بها كعضو مشترك وكان يحافظ محافظة دقيقة على حضور اجتماعاتها.

وبدأ في التفكير بتكوين دعاة إسلاميين من طلاب الأزهر ودار العلوم التدرب على الوعظ والإرشاد في المساجد والمقاهي والمجتمعات العامة، ثم القرى والريف والمدن الهامة، وقام بتنفيذ الفكرة التي لاقت نجاحًا طيبًا.

ولا يكتفي بذلك بل يتصل برجالات العلم والدعوة لعمل شيء من أجل هذا الدين، فيتصل بجميع الأسماء المعروفة في الأوساط الإسلامية آنذاك وتتم لقاءات كثيرة وفي نفس الوقت تظهر مجلة «الفتح» الإسلامية لصاحبها محيي الدين الخطيب، لتضفي على الوسط وتعطيه الإسلامي جوًا منعشًا، منبرًا يتحدث الإسلاميون منه في هذا الوقت يكون البنا قد انتقل إلى مدينة الإسماعيلية لاستلام وظيفته وبدأ حسن البنا منذ وصوله بدراسة أحوال المنطقة وأحوال المجتمع فيها وينطلق بالدعوة الجماهيرية هناك يتصل بهم في المساجد والمقاهي ويظل أشهر في عمله الدؤوب بالإسماعيلية، ورغم الاهتمام الكامل بتدعيم أفكاره في الدعوة وتهيئة النفوس لها في الإسماعيلية، فإن ذلك لم يحل بينه وبين الاهتمام بسير التيار الإسلامي الضعيف- حينذاك- واتجاهاته في القاهرة، فكان على صلة مستمرة بمجلة الفتح بل يعمل جاهدًا لنشرها في الإسماعيلية.

في تلك الأثناء تتأسس جمعية «الشبان المسلمين» في القاهرة ويسارع بالإرسال إليهم طالبًا الانضمام ويواظب بعد ذلك على دفع الاشتراك.

في تلك الفترة يبدأ حسن البنا باحتلال مكانه في الأوساط الإسلامية فيدخل باب الصحافة لتصبح معظم مقالاته التي يكتبها مقالات الافتتاحية والطريف أن أول مقال كتبه بعنوان «الدعوة إلى الله» بقلم حسن أحمد البنا المدرس، ويتلو ذلك مقالات كثيرة ويلقي البنا أول محاضرة هامة له في نادي الجمعية بعنوان «أضرار المقامرة ومشروع ساحل الفيروز» ويعرف حسن البنا في الأوساط الإسلامية بالشاب المخلص العمل لله وفي هذه الأثناء كانت جمعية «الإخوان المسلمين» تنمو نموًا هادئًا بسيطًا دون ضجيع وإعلانات، وكان مؤسسها يعمل جاهدًا متخطيًا كل العقبات. ويعمل في كل الجهات ويشاء الله أن تكون السماعية المصدر الذي انطلقت منه أول أفواج الإخوان لتحتل جماعة الإخوان مركز الصدارة من بين حركات الإسلام وتأخذ دور الموجه لحركات العالم الإسلامي وتمسك راية الجهاد والدعوة.

لقد كان ديدن حسن البنا تغيير كل منكر يراه قدر ما يستطيع، كانت الدعوة تجري داخل عروقه وشرايينه وظل طوال عمره الأول يمارس الدعوة سواء بتكوين جمعيات خيرية أو بالدعوة الفردية أو الدعوة الذاتية يهذب نفسه ويقومها على عبادة الله.

للمقال بقية   

الرابط المختصر :