العنوان حصاد ١٦ عامًا من «العدالة والتنمية» في تركيا
الكاتب د. سعيد الحاج
تاريخ النشر الجمعة 01-سبتمبر-2017
مشاهدات 21
نشر في العدد 2111
نشر في الصفحة 52
الجمعة 01-سبتمبر-2017
• الحزب قدم نفسه كحزب خدماتي غير أيديولوجي وقدم تطمينات للقوى العلمانية بالداخل والدول المؤثرة بالخارج.
• لم يفتح الملفات الإشكالية مثل العلاقة مع الجيش إلا بعد إنجازات اقتصادية أكسبته ثقة المواطن.
• رؤية الحزب في تركيا ٢.٢٣ إدخال تركيا في قائمة الدول العشر الأقوى اقتصادًا في العالم.
• القيادة بعد أردوغان في ظل تطبيق النظام الرئاسي عام ٢٠١٩م تعد من أبرز التحديات أمام الحزب.
• الحزب بحاجة لتسريع تفعيل عمل لجنة التظلم من إجراءات حالة الطوارئ التي فرضت بعد الانقلاب الفاشل.
• التعديل الأبرز الذي أنجزه الحزب تغيير نظام البلاد السياسي من البرلماني إلى الرئاسي.
دعا الإسلام إلى محاسبة النفس وتقييم الأعمال للوقوف على نقاط القوة وتعزيزها، وعلى نقاط الضعف ومعالجتها، ولذا فمن الضروري التقييم الدوري والرصد المستمر لتحقيق الأهداف الكبرى والغايات السامية.. ففي الرابع عشر من أغسطس الماضي، مرت الذكرى السادسة عشرة لتأسيس حزب العدالة والتنمية في تركيا، ذلك الحزب الذي مثل استثناء في الحياة السياسية التركية الحديثة منذ لحظة تأسيسه، فمن فوزه في أول انتخابات شارك بها بعد سنة تقريبًا من تأسيسه إلى بقائه في الحكم منفردًا حتى اليوم. إلى إنجازاته الاقتصادية وإصلاحاته الديمقراطية إلى التغييرات في بنية النظام السياسي وتصويب العلاقات المدنية - العسكرية، وصولًا إلى المساهمة في إفشال المحاولة الانقلابية صيف السنة الماضية، مسيرة طويلة تستحق التوقف عندها.
كتب الكثير عن تجربة العدالة والتنمية بين المبالغة والموضوعية والتشكيك لكن لا يختلف باحثان على أنه قدم تجربة فريدة في تاريخ الجمهورية التركية، فرغم بقائه في الحكم لأكثر من ١٥ عاما فإنه ما زال يحظى بثقة وأصوات طيف واسع من الشعب يمكنه من تشكيل الحكومة منفردا في تناقض مع ظاهرة الترهل والتراجع التي تصاحب الأحزاب السياسية في العادة.
ولعله من المفيد البحث في الأسباب التي سمحت للحزب بالنجاح والاستمرار كل هذه السنوات في اختلاف واضح عن كل الأحزاب السياسية التي أسسها الراحل «نجم الدين أربكان»، وخرجت منها المجموعة الرئيسة المشكلة للعدالة والتنمية.
أهم هذه الأسباب –بغض النظر عن رأينا فيها- هي:
أولا: تحييد الخصوم؛ إذ أراد الحزب الناشئ تجنب مصائر الحظر والإغلاق والانقلابات العسكرية التي واجهت الأحزاب السابقة، فكان أن قدم نفسه كحزب خدماتي غير ايديولوجي وقدم تطمينات للقوى العلمانية ومنها المؤسسة العسكرية في الداخل والدول المؤثرة «وفي مقدمتها الولايات المتحدة» في الخارج.
ثانيا: التركيز على العمل أكثر من الشعارات وهو ما أدى إلى نتائج مباشرة وسريعة نسبيا لمسها المواطن في حياته اليومية، سيما وأن الحزب تسلم الحكم في تركيا بعد انسداد سياسي وأزمات اقتصادية.
ثالثا: التدرج في العمل والإنجاز، فلم يفتح الحزب الملفات الإشكالية والشائكة مثل العلاقة مع الجيش أو المشكلة الكردية أو الحجاب إلا بعد إنجازات اقتصادية ساهمت في كسب ثقة المواطن وتشكيل حاضنة شعبية حمت الحزب والتفت حوله، ورأينا إحدى ثمارها في الشارع في مواجهة الانقلاب العام الماضي.
رابعا: القرب من المواطن
أتت المجموعة القيادية الجديدة من مختلف مدن الأناضول بالاختلاف مع النخبة السياسية السابقة المتعالية على الشعب كما انتهج الحزب والحكومات المتتالية سياسات تتمحور حول المواطن في ظل شعار أحي الإنسان لتحيا الدولة، فضلًا عن الوصول للشعب بقيادة «أرودغان» صاحب الكاريزما والخطابة ومهارات التواصل الجماهيري المتميزة.
خامسا: روح الفريق والرجل المناسب في المكان المناسب: لم يأت العدالة والتنمية من فراغ. بل جاء الصف الأول من قيادته من تجربة أحزاب «أربكان» والعمل في البلديات والبرلمان ورغم سمات أردوغان القيادية المعروفة فإنه كان ابن تجربة سياسية طويلة من جهة، ولم يكن يومًا وحده من جهة أخرى. وإنما كان ثمة قائمة طويلة من الكوادر ذات الكفاءة والإخلاص في مقدمتهم عبد الله جل». وه بولند آرينتش، و«حاقان فيدان»، و«أحمد داود أوغلو» و «علي باجان».
أهم الإنجازات
نقل العدالة والتنمية تركيا خلال ١٥ عاما من إحدى دول العالم الثالث الفاسدة والفقيرة والمستدينة إلى مصاف الدول الإقليمية المؤثرة والفاعلة وحقق لها إنجازات كثيرة يمكن ذكر أهمها كما يلي:
الأول: الإنجازات الاقتصادية: وهي الركن الأساس في تجربة العدالة والتنمية الذي احتوى أهم بصمات الحزب وأداء حكوماته، تبقى الأرقام دالة جدا على الإنجاز، وفي مقدمة ذلك مضاعفة الدخل القومي و متوسط دخل الفرد عدة مرات وتحرير تركيا من قرض صندوق النقد الدولي، ولأهمية هذا الجانب أضحى هو الركن الأساس في رؤية «تركيا ۲۰۲۳ »التي يسعى لها العدالة والتنمية في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية إذ يريد الحزب إدخال تركيا في قائمة الدول العشر الأقوى اقتصادًا على مستوى العالم.
الثاني: الإصلاحات في كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية: إذ في ظل عدم القدرة على صياغة دستور جديد ذهب الحزب للتعديلات الدستورية في مجالات عدة، بلغ عددها ١٠ تعديلات في عهده في مقابل 9 على أيدي كل الحكومات التي سبقته منذ عام ۱۹٨٢م، عام صك الدستور العسكري ساري المفعول حتى اليوم. ولعل القضية الأبرز التي عالجتها إصلاحات العدالة والتنمية وقطعت فيها أشواطًا طويلة هي المشكلة الكردية الداخلية في تركيا، بدءا من الاعتراف بالمظلومية الكردية التاريخية في تركيا والمنطقة، ومرورا بعدد كبير من «الحزم الديمقراطية» التي أقرت حقوقًا اجتماعية وثقافية وسياسية للأكراد بما في ذلك إطلاق الحكومة قناة تلفزيونية حكومية رسمية ناطقة باللغة الكردية ووصولًا إلى عملية الحل السياسي التي وصلت إلى مراحل متقدمة قبل أن يخرق العمال الكردستاني الهدنة عام ٢٠١٥م. ويستأنف عملياته العسكرية التي بدأت حالة من التصعيد ما زالت مستمرة – وإن بمستوى أخفض حتى اليوم.
كما أن التعديل الأبرز الذي أنجزه العدالة والتنمية بقيادة «أردوغان» هو تغيير نظام البلاد السياسي من البرلماني إلى الرئاسي في الاستمناء الشعبي العالم في أبريل الماضي، سعيا لنظام سياسي أكثر استقرارا وقوة وسرعة في اتخاذ القرار وتنفيذه.
الثالث: العلاقات المدنية العسكرية التي نقلها الحزب من مستوى وصاية المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية قبل فترة حكمه وبنص المادة «٣٥» من الدستور التي جعلت حماية مبادئ الجمهورية من صلاحيات ومهام الجيش إلى تبعيتها للقرار السياسي للقيادة المدنية المنتخبة.
من أهم محطات هذه النقلة التي أنت أيضا بالتدرج – تعديل المادة «٣٥» من الدستور لتصبح مهمة المؤسسة العسكرية حماية البلاد من الخطر الخارجي حصرًا وتعديل بنية وصلاحية مجلس الأمن القومي ليصبحذا غالبية مدنية لا عسكرية وتضحى قراراته بمثابة توصيات فقط للحكومة، إضافة إلى تغيير بنية مجلس الشورى العسكري الأعلى المعني بقرارات الترقية والتقاعد في الجيش وبالتأكيد كان لقضايا مثل أرجنكون و المطرقة التي حاكمت مئات الضباط من مختلف الرتب بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري وفشل المحاولة الانقلابية العام الماضي أثر كبير أيضا في هذا المسار.
الرابع: مسار السياسة الخارجية التركية التي جعلت من أنقرة دولة إقليمية فاعلة في مختلف قضايا المنطقة، وبتعديل مهم على اعتمادها الحصري على القوة الناعمة بحيث رأينا إشارات على دمجها بملامح من القوة الخشنة مثل القواعد العسكرية خارج البلاد «في الصومال والعراق وقطر» والاهتمام الواضح بالصناعات العسكرية وتنفيذ عمليات عسكرية غير مألوفة غير الحدود مثل «درع الفرات» في سورية.
تحديات مستقبلية
كأي تجربة بشرية، ثمة ما لم ينجح به العدالة والتنمية حتى الآن أو ما زال ماثلًا كتحد مستقبلي أمامه.
في المقام الأول هناك تحدي المستقبل أو القيادة في مرحلة ما بعد أردوغان خصوصا في ظل تطبيق النظام الرئاسي في عام ٢٠١٩م، والذي يحتاج القيادات تستطيع توحيد الحزب تحت إمرتها وإدامة المسيرة بقوة ونجاح فسؤال الخلافة ما بعد القيادة التاريخية و/ أو المؤسسة يبقى السؤال الصعب للتيارات الفكرية والأحزاب السياسية وهو التحدي الأصعب ربما أمام العدالة والتنمية ويحتاج أن يعدله العدة من اليوم. وثانيًا: هناك القضية الكردية التي قطعت أشواطا كبيرة باتجاه الحل لكنها منذ عام ٢٠١٥م «في الثلاجة» بتعبير الرئيس التركي، بيد أن ذلك لا يلغى الحاجة الماسة للتعامل معها وحلها مستقبلا لما لها من أثر بالغ على السلم الأهلي وسلامة النسيج المجتمعي وتحصين البلاد ضد التدخلات الخارجية، سيما في ظل التطورات الإقليمية فيما بخص الملف الكردي في كل من سورية والعراق وتأثيرات ذلك السلبية على الملف الكردي الداخلي في تركيا.
وثالثًا: هناك تحدي السياسة الخارجية التي تعاني من أزمات وتوترات كبيرة ومتعددة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي «أي الحلفاء التقليديين الأنقرة». ودون أن تكون تركيا تحالفات قوية وراسخة مع أطراف أخرى ما يفرض عليها ضغوطًا كبيرة ويكيل يديها في عدد من الملفات والقضايا، هنا ثمة حاجة ملحة لبلورة نظرية جديدة للسياسة الخارجية التركية بعد كل التحولات والمتغيرات في المنطقة والعالم.
ورابعا: هناك سؤال الحريات والحقوق في ظل حالة الطوارئ وقضايا الانقلاب الفاشل ومكافحة التنظيم الموازي الأمر الذي نتج عنه أكثر من ١٠٠ ألف من الموقوفين عن العمل استكمال التحقيقات وعدد كبير جدًا من الموقوفين لاتهامهم في في المؤسسات الحكومية لحين هذه القضايا.
ورغم أن الأمر يأتي في سياق استثنائي، أي بعد الانقلاب وفي ظل حالة الطوارئ، فإنه تحد مهم تحتاج تركيا إلى مواجهته والخروج منه بأسرع وقت ممكن. عبر إنهاء حالة الطوارئ متى أمكن ذلك، وتسريع البت في الدعاوى المنظورة أمام القضاء وتفعيل عمل لجنة التظلم من أنشأتها الحكومة.
في المحصلة: ما زالت التجربة التركية مائلة ومتجددة ومستمرة في التفاعل مع التحديات الماثلة والمستجدة. ورغم أنه من الصعب لأي باحث أن يقيم تجربة معاصرة فإن إنجازات الحرب على مدى السنوات الـ 16 الماضية تغري بوقفة سريعة مثل هذه للتأمل والدراسة والتحليل والاستفادة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل