; حوارات على أنغام جنائزية | مجلة المجتمع

العنوان حوارات على أنغام جنائزية

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 07-يونيو-1994

مشاهدات 30

نشر في العدد 1102

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 07-يونيو-1994

الراصد المتأمل للحوارات التي يراد لها أن تجري في العالم الثالث عمومًا، وفي العالم من حولنا خصوصًا، يجد أنها تجري على أنغام جنائزية، وفي مراسم كمواكب العزاء، أو كمشاهد الدفن خرس، كأنها تكفن مرحومًا، أو تواري قتيلًا، أو تتقبل العزاء في عزيز لديها، وكان الأولى بها أن تستبشر أو أن تسر؛ لأنها تريد أن تجمع القلوب، وتوحد العزائم، وتحفز الهمم إلى خير يراد، أو إلى هدف يبتغى، أو إلى طريق مستقيم يصل إلى الجادة، وهذا يدعو إلى محاولة لفهم هذه الظاهرة ورصد هذا الخلل في بنية هذه المجتمعات، وفي توجهاتها، وكيانها النفسي والثقافي والفكري والدستوري، وبادئ ذي بدء نقرر أن هناك حزنًا أو كراهية هي التي جعلت هذه المواكب الكئيبة تتقدم إلى هذه الحوارات بحزن شديد، ونفور غير قليل، إما لأنه لا يوافق الميول والطبائع للقائمين عليه أو الساعين إليه، أو لأنه قدر نازل، أو مصيبة حالة يجب تجرعها أو تحملها، وكأنهم يقولون كما قال من سبقهم ﴿وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ (ص:6-7).

والمراقب المتأمل لتلك الشعوب التي تكون على مثل تلك الحالة، يجد أنها تتصف بصفات معينة، والمستقرئ والمتتبع لتلك السلطات التي تكون على مثل هذه الشاكلة يجد أنها توسم بخصائص نعد منها:

1- الاستبداد والطغيان:

يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»: «الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع، فيمكن أن يكون قد اغتصب الحكم بالمؤامرات أو بطريقة ما، وباختصار هو شخص لم يكن من حقه أن يحكم لو سارت الأمور سيرًا طبيعيًا، لكنه قفز إلى منصب الحكم عن غير طريق شرعي، وهو لهذا يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمعتدي، ولهذا فهو يضع رجله في أفواه ملايين الناس لسدها عن النطق بالحق، والتداعي لمطالبته بحقوقهم»، ثم يقول: «ينفرد مثل هذا الحاكم بخاصية أساسية في جميع العصور، وهو أنه لا يخضع للمساءلة، ولا للمحاسبة، ولا للمراقبة من أي نوع»، ولهذا يقول الأستاذ أحمد أمين في زعماء الإصلاح عن هذا الطاغية المستبد: «وهكذا يقترب الطاغية من التأليه، فهو يرهب الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلهم بالقهر والقوة وسلب المال؛ حتى لا يجدون ملجأ إلا التزلف والتملق له!! وعوام الناس والجهلة يختلط في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحكام، ولهذا فقد خلعوا عليهم صفات من صفات الله- سبحانه- كولي النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر، وما إلى ذلك، ثم يتخذ له بطانة يعينونه على ذلك بأسماء كثيرة وأسباب متعددة»، وقد تكلم الدكتور حسين مؤنس في كتاب «باشوات وسوبر باشوات» عما سمعه من أحد طغاة هذا العصر الذي ملك على الناس كل شيء حتى أرزاقهم، حين قال هذا الطاغية: «لن أستريح حتى يأكل الملايين الثلاثون- وهم سكان .... في أيامه- من يدي هذه»، أي أن يكون هو المعطي الوهاب، ولا معطي ولا وهاب غيره، ويكون هو الباسط القابض، فلا رزق ولا مال إلا من كفه!»، ثم يحدد الدكتور عبد الحميد متولي أستاذ القانون المعروف الخصائص العامة للدكتاتور فيقول:

أ- الدكتاتور لا يقبل المعارضة، وغالبًا ما يصفيها أو يختلق لها الأسباب ليودعها السجون.

ب- صاحب نظام شمولي يسيطر على كل مناحي الحياة، وقوله هو الفصل.

جـ- لا تعرف سياسته إلا العنف والقوة والإكراه والنظام البوليسي.

د- يأخذ بنظام الحزب الواحد، وما عدا ذلك يكون هامشيًا.

هـ- لا يعرف التنحي عن الحكم، أو تحديد مدة للرياسة، أو الاحتكام لصناديق الاقتراع، وهذا النظام صاحب صبغة مؤقتة؛ لأنه يتطلب من المحكومين- كما يقول الدكتور- مجهودات مذلة لا يستطيعون احتمالها طويلًا.

2- التورط في الفساد:

والفساد صنو الاستبداد، فحيث يكون الاستبداد يكون الفساد، يقول «اللورد أكتون» أحد كبار الفكر السياسي: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وعلى حد تعبير الدكتور جوستاف لوبون LEBON : «السلطة المطلقة تحدث في النفوس نشوة للفساد كنشوة الخمر»، فالفساد وليد الاستبداد، وثمرة طبيعية ونتيجة حتمية له، هذا مع غياب القانون والرقابة وعدم الحرية والقدرة على كبت الحقائق، وعدم وجود صحافة حرة كاشفة، لهذا يتورط بعض أصحاب النفوذ في الفساد، واستغلال كل موارد الدولة لصالحهم، كما يحملهم ذلك على وضع العقبات تلو العقبات في طريق الإصلاح والقضاء على الفساد، الذي غالبًا ما يستتر وراءههم، ويقاسمهم هذا المال الحرام من دم وعرق الكادحين الفقراء والمعوزين الأشقياء، لكل هذا وغيره الكثير تجد المستبد وأعوانه يذوبون في السلطة، ويلتحمون بها، ولا يستطيعون فراقها، لهذا العسل المصفى، والنهب الحرام، والجنون المطلق بالشهوات، ولهذا يقول الفقيه الفرنسي ديفرجيه: «إن الدكتاتورية ليست إلا مرضًا من أمراض السلطة والفساد، وليست ظاهرة طبيعية»، كما أن الرهبة من محاكمة الشعوب وانكشاف المستور وقصاص العدالة، يجعلهم يستميتون في التشبث بالسلطة؛ لأنها بالنسبة لهم تعني الحياة أو الموت!! ومناهج التغيير لتلك الحالة كما يقررها فقهاء الدستور وعلى رأسهم الدكتور عبد الحميد متولي: لا تكون بتغيير وزارة بوزارة، وإنما بتغيير النظام، والاحتكام الحر إلى صناديق الانتخابات، وإطلاق الحريات، وتعديل كل من الدستور وقانون الانتخاب، مع مراعاة سلامة ونزاهة الانتخابات؛ لأن الديمقراطيات لا تكون بالتصريحات ولا بالشعارات، وإنما بحكم الشعب، والحرية هي هدفها، والانتخابات الحرة هي جوهرها.

أترى معي أن السلطة في العالم الثالث بعد ذلك تستطيع الحوار أو تحبه، أو تميل إليه؟ ولهذا فهي تحشد له- إذا أرادت- المتردية والنطيحة وما أكل السبع، وتلعب مع نفسها في الحقيقة لعبة الحوار، ثم أترى معي أن المعارضة تملك قوة الضغط في ظل أحكام عرفية أو استثنائية؟ لهذا كله ترى الكل يسير في موكب جنائزي على أنغام حزينة حتى يصلوا إلى القبور، ولا عزاء!!

الرابط المختصر :