العنوان قصة العدد : نور في الأفق المظلم
الكاتب المحرر الثقافي
تاريخ النشر الثلاثاء 23-يناير-1979
مشاهدات 19
نشر في العدد 429
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 23-يناير-1979
تابع الجزء الثاني
ملخص ما نشر:
عبد المجيد شاب صغير تحت العشرين طالب في المرحلة الثانوية. رمته السيارة داخل أسوار السجن الحربي... ورموه في زنزانة.
وجاء صاحب الجلباب الأبيض ونصحه بعدم الاعتراف بأحد.
وانتقل عبد المجيد إلى حديقة السجن التي جرى فيها التحقيق وسقط تحت وابل من ضربات السوط.
ولما بدأ التحرك بعد فترة من السقوط والسكون، ومقاومة آلامه، سمع الجندي المتجهم المتربص به، يأمره بالنهوض والذهاب إلى المحقق، فنهض وعاد إلى التحقيق والتعذيب ولكنه لم يعترف. وعاد إلى الزنزانة حاملًا جراحه. ومرت الأيام تنسج خيوط حياة جديدة، تعوّد عليها، وعاش بين الجدران يتأمل الكون. وانتقل إلى زنزانة صادق يقيم معه. وفي صباح يوم عرف من الجندي عبد الله أنه تاب ولن يضرب أحدًا بسوطه، وفي نفس اليوم تم اعتقال عبد الله في معتقل رقم «3».
وفي جوف الليل انطلقت صرخة من ذلك المعتقل.
وفي جوف الليل دوت صرخة مستغيث. خرجت الاستغاثة من نافذة تابعة لمعتقل رقم «3». عرف المعتقلون فيها صوت عبد الله، ليس صوته غريبًا، بل قد سمعوه كثيرًا وهوة يزأر في وجوههم ويلسع أجسامهم بسوطه. كثيرًا ما كان يضربهم بلا رحمة، ثم تاب وأناب تلبية لنداء أمه التي انتقلت إلى عالم الشهادة. ولكن أصحاب السجن لم يقبلوا منه تلك التوبة، وانتزعوا ملابس الجندية من فوق جسده، وحبسوه وذلوه لعله يرجع عما أعلنه في الصباح.
ظل عبد الله يصرخ في الليل مما أكد أنه أبى العودة إلى طريق العصاة. وأخذ المعتقلون يدعون له بالصبر والصمود أمام الطغاة. وكان الليل يعزف لحن الشتاء فوق الجدران والنوافذ، وارتفع صوت المطر كأن السماء تصب أنهارًا على الأرض، وتعصر كل السحب.
اختفى صوت المظلوم وصراخه، وازداد صوت المطر ارتفاعًا، فنام المعتقلون على عزفه الذي يشدو بأحلى الألحان. وقد نسي الجميع ما كان. فقد كان النسيان السريع نعمة من الله لهؤلاء الذين يعيشون بين الجدران.
-10-
خلت الزنازين من المصاحف بأمر مدير المعتقل وهو ضابط كبير يحمل رتبة عالية، معلقة فوق كتفه، كما يحمل قوة عاتية، متمكنة من قلبه. وهو رجل ذو جثة ضخمة، وبطن يشبه كيس القطن، ورأس في حجم الكرة المنفوخة بالغرور، وتوشك أن تنفجر في لحظة اصطدام عنيف، من المتوقع أن يقع في القريب. ولذلك كانت عيناه دائمًا تنظران حوله في حذر، وكانت بشرته غالبًا ملتهبة بلون الخائف الوجل. غير أنه لا يُظهر شيئًا من خوفه، يغطيه بطبقة كثيفة من الغرور والاستعلاء. وبطريقة العنف حتى يظن كل مسجون أنه في قمة مجده. ومن أوامره التي أطلقها بلا معنى وبلا فهم، ذلك الأمر الأخير بمنع المصاحف، ومصادرتها، فهو صاحب الأمر والنهي داخل السجن الحربي.
أشرف بنفسه على تنفيذ أمره، وجمع كل المصاحف، ولم يدهش أحد من تحركاته الأخيرة المريبة، وقيل إنه يتملق أسياده من أجل منصب رفيع يسيل له اللعاب. وقيل في ذلك الوقت أيضًا إنه وقف يشاهد عملية التعذيب التي تعرض لها الجندي عبد الله، حين ضربوه في جوف الليل، وأنه أمر بضربه حتى فارق الحياة، وكان هدفه أن يكون عبرة للآخرين فلا يفكرون في التوبة، ويغوص كل جندي في المعصية، ويغرق في الذنب.
وفي عصر يوم من أيام شهر ديسمبر، هبت معركة في الفضاء، اضطربت لها الأشياء وضجت، وكانت الريح هي قائدة المعركة العنيفة. وكانت الأبواب قد أغلقت كالعادة بعد غروب الشمس. فأظلم المعتقل كله ما عدا بابه الذي بدا مضاء بمصباح المدخل. وكان أغلب المعتقلين قد غطوا في نوم ثقيل كأنهم ينامون تحت جبل جاثم فوق الرؤوس والأنفاس. هم في كل ليلة يهربون إلى النوم من عذاب النهار. وانتصف الليل والمعركة تدار في الفضاء كلما اشتدت حركة الريح. ولم يصدق أحد أن مدير المعتقل سيقوم بمرور في الليل. من المعروف أنه مجنون، بيد أن جنونه لا يتجاوز الحد الذي يسبب له الأذى. أيمر في ليلة عاصفة؟ من المحتمل أن تحمله الريح رغم جسمه الضخم وتقذفه إلى بعيد، أو تصفعه على وجهه أو تطرحه أرضًا. من المستبعد أن يمر تلك الليلة، ومع ذلك انتظر بعض المعتقلين حتى منتصف الليل، ثم نفّذوا فكرتهم، وهي تلاوة القرآن الكريم بصوت عال، بدون مصاحف، وبدون إضاءة، قراءة من الصدور، وبدأت التلاوة تعلو على صوت الريح، كأن الذي يتلو ينظر في مصحف، وما أن يفرغ أحدهم من تلاوة بعض الآيات، حتى يسرع الآخر في التلاوة بنفس الحماس وحسن الصوت وارتفاعه.
وجاء المدير المجنون يمر تحت النوافذ المعتمة، وفي قلب الريح المتلاطمة، غطى جسمه بمعطف ثقيل ومسك عصاه، وجر خلفه بعض الضباط وحفنة من الجنود. من المفروض أن يمر في تلك الليلة كما أخبر المشرفين على السجن، فلا بد من المرور رغم الريح الباردة الضاربة في الفضاء بأجنحة هوجاء. وترامى إليه صوت الذي يتلو القرآن وراء النافذة، فوقف تحتها يسمع ويدير بصره في الضباط، أسرع أحدهم يقول:
- إنه يقرأ في الظلام... وإنه يحفظ القرآن.
تجهم وجهه، تلبد بغيوم الغضب، ثم قال:
- لا أصدق... إذا كان يقرأ في الظلام كما تقول... معنى هذا أنه يملك المصحف... ويقرأ فيه في أثناء النهار... ويحفظ وفي الليل نسمع ما نسمع...
وأمر بإضاءة المعتقل كله، وبالهجوم على أهل الزنزانة التي صدرت منها التلاوة، وبتفتيشها بدقة. وكان له ما أراد، وفوجئ الإخوان بهذا الهجوم في الليل. وتعرض بعضهم للهواء البارد بعد أن كان نائمًا دافئًا. وأصيب البعض بالمرض الذي لا مفر منه، وكان منظر المدير المسؤول عن السجن في تلك الليلة يزيد النفور ويضاعف الكراهية. أيقظ النائمين من أجل تنفيذ فكرة قفزت في ذهنه. وأكثر من ذلك أمر بضرب أهل الزنزانة التي كانت تتلو القرآن بعد منتصف الليل. مع أنه لم يجد مصحفًا واحدًا، ولا دليلًا على اتهامهم. ولكنه أصر على الضرب والسب.
ووقف عند مدخل المعتقل بمعطفه القاتم وهيكله القائم على الظن والظلم، وصاح بصوت حمله الهواء المقتحم كل الحجرات:
- المصاحف ممنوعة بأمري... سأعلق العاصي من رجليه في الفضاء... وسأتركه حتى يموت ...
وخرج يلوح بعصاه كأنه يصفع بها الريح. وتبعه الضباط والجنود كما تتبع الجرذان بقايا طعام ربطت في حبل وجرها الخيل. الكل يعدو في سباق النفاق. وأغلقت الأبواب بعد ساعة من العذاب، ومن البرد القارس. وكان نصيب عبد المجيد في تلك الليلة الرهيبة ألمًا في الظهر ظل يعاني منه بعد ذلك سنوات طويلة.
سماها الليلة التي لا تُنسى. لم ينم فيها ولم ينعم براحة الجسم، عضه الألم في ظهره بأنياب أوجعته حتى طلع النهار، ولم يكن النهار أحسن حالًا، فالبرد شديد. ومن هنا رقد في فراش لصق الجدار، وظهر الاصفرار على وجهه. وقبل وقت الضحى تقيأ ما في جوفه. ولا علاج هناك، ولكن عناية الله كانت تشمل الجميع في كل وقت، وشفي عبد المجيد بلا عقاقير وبلا أدوية وبلا رعاية من طبيب، زاره المرض في ليلة مشؤومة محمومة ثم رحل. عند ذلك كانت تلك الأيام ذات طعم مر كالحنظل. ضاقت به الحياة داخل السجن، وشاهت فيه نفسه إلى حياة الحرية، وتطلعت فيه عيناه إلى ما وراء الأسوار، وتغير فيه قلبه حتى كاد لا يعرف إن كان القلب ينبض أم توقف عن النبض. وتساءل عبد المجيد في يقظته الدائمة: إلى متى يدوم هذا الحبس؟
صدر الحكم عليه بخمس سنوات مع وقف التنفيذ. ولكنه لا يزال يقوم وينام بين الجدران.
ولّى عام 1955 ميلادية وأتى عام جديد بلا أمل في الحرية.
هكذا
كان عبد المجيد يرهف أذنيه لهمسات نفسه، وكان يرد عليها بحديث لا ينتهي. وكان يجد في هذا الهمس وذلك الحديث سعادة تعوض الشقاء وراحة تزيل الضيق، إلى أن قال ذات يوم لصادق:
- تمضي الأيام بنا نحو النسيان.
فقال صادق:
- وضح قولك... لا تحدثني بالرموز.
- أقصد أن الناس بدأت تنسانا... ولن تسأل عن هؤلاء الذين غابوا في السجن.
- املك نفسك يا عبد المجيد... ولا تعتقد أن اليأس يفيد... ثم إن الناس لا تنسى... إنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا... لقد تأكد للجميع أن عصر الدكتاتورية رمى ظله البغيض على أنحاء البلاد... وأن الإسلام غريب.
تكوم عبد المجيد فوق فراشه، جانب كثيب مهده لنومه ومجلسه، رفع رأسه من بين يديه قائلًا:
- لست أعرف لنفسي غاية.
هتف صادق غاضبًا:
- هذا هو اليأس... بل والضياع.
- فيم جئت أنت وأنا؟
فتبسم صادق وقال:
- إنما جئت أنا وأنت وكل هؤلاء لهدف... وقد تحقق.
أطلت من عينيه الدهشة، فقال صادق مستطردًا:
- أجل... قد تحقق الهدف ...
فنظر إليه في شك دون أن يفتح فمه، فقال صادق ولا يزال باسمًا، كأنه رسول الأمل والثقة:
- هدفنا هو الدفاع عن الإسلام في هذه المرحلة... وقد دافعنا ودخلنا السجن... الهدف في الحرب هو النصر أو الشهادة... وما قمنا به أقل من ذلك بكثير.
غطى عبد المجيد وجهه بكفيه، ولما كشف عن وجهه قال:
- حرب... أي حرب تلك... بين قوة مدعمة بالسلطة... وبين فئة لا تملك غير العقيدة.
- ولكننا أقوى... الإيمان الصحيح هو قوة القوة.
هز عبد المجيد رأسه، لم يكن يائسًا كما اتهمه صادق، ولم يكن هاربًا من هدفه الذي جنّد نفسه له، ولكنه كان راغبًا في الحوار مع صديقه كما يرغب فيه مع نفسه. فهو يحدث نفسه طول الوقت، ويقطع الحديث معها ليوصله مع صديقه، وما الصمت إلا بداية التسبيح. ويسبح الله ويحمده ويشكره، وينهض للصلاة كلما سمح الوقت. وكان كلما وقع في حفرة صنعها الشيطان، تذكر الحوار مع الصديق، ومع النفس، أو عاد إلى التسبيح الطويل لعله يفوز بالنجاة.
هكذا قضى أيامه ولياليه متفكرًا في النهار، متعجبًا من صروف الحياة سابحًا في الليل بين الشجون والظنون، متأملًا ما يصدر عن المدير المجنون، بيد أنه لم يفهم سر أمره الأخير، وهو مصادرة المصاحف.
وفي أوائل يناير من عام 1956م هبت بشائر تقول إن المدير يأمر بأشياء كانت من قبل من الممنوعات، منها على سبيل المثال أنه لا يمنع المصاحف من دخول الزنازين. وعمت الفرحة وغمرت كل المعتقلين. وصار الطعام نظيفًا إلى حد ما، وأضيفت إليه بعض الفاكهة، كالبرتقال والموز، ومن المسموح به الخروج وقت العصر إلى الفناء، ثم تركت الأبواب مفتوحة إلى ما بعد العشاء. ومن الطبيعي أن تكون الزيارة مرغوبة بين زنزانة وأخرى في هذا الجو الذي خلا من القيود. وكان وقت الضحى للاستمتاع بالشمس والمشي على القدمين بلا خوف من الضرب بالسوط.
من المستحيل أن يكون المدير هو الذي أعطى تلك الأوامر الجديدة، وكسر القيود من حول المظلومين. هبطت عليه الأوامر من أعلى. ورأوه ذات يوم يقف بينهم مبتسمًا. وجهه الأبيض ينفخ ابتسامة تكاد تفضح الحقيقة، وهي أنه لا بد أن يبتسم لهم بدلًا من العبوس. وتساءل الجميع عن السر. واستبدت الحيرة بعقل عبد المجيد. لا يجد أي جواب في حواره مع صادق، ولا في حواره مع نفسه.
وأعطيت لهم حرية أكثر في اللقاء والزيارات. وأتت الصحف والمجلات وحلقت الرغبة في الاطلاع في سماء واسعة. ربما عرفوا السر من صفحات الجرائد. ودخل المذياع ساحة المعتقل، كأنه اكتشف في تلك الأيام، ولم يكن يعرفه أحد من قبل، فأقبلوا عليه، وأحاطوه من كل جانب، كأنهم قبيلة متخلفة عن اختراعات العصر.
ومن بين السطور، ومن الكلمات التي تذاع، سطع الخبر اليقين الذي يقطع كل شك، إن السر في تلك الحرية المحدودة التي منحت لهم هو الحديث عن التفكير في الدستور الدائم. وهل الدستور يرضى بوجود المعتقلين؟ وحاول أحد الإخوان أن يصرح بالحقيقة أمام المحكمة في أثناء التحقيق معه، فانقلب الحال، وتحول النهار إلى ليل، وعاد المعتقل إلى الظلام الذي كان يتخبط فيه. وكانت الصفعة صدمة لعبد المجيد جعلته يشك في الدستور وفي كل شيء.
- البقية في العدد القادم -