العنوان حوار مع الشيطان
الكاتب نبيه عبد ربه
تاريخ النشر الثلاثاء 11-مايو-1971
مشاهدات 63
نشر في العدد 59
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 11-مايو-1971
- ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾
زارني ذات يوم جمع من أصحابي، وبعد أن قمت بواجب الاستقبال والترحيب بهم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، ولما كان الحديث ذا شجون فقد أخذنا ننتقل من حديث إلى حديث دونما فائدة تذكر، بل إن هذه
الأحاديث كانت مما هب ودب اختلط غثها بسمينها وصالحها بطالحها، فقلت في نفسي إن هذا المجلس مضيعة للوقت مفسدة للدين إن لم يكن فيه أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وما إن هممت بتذكير ضيوفي بالله وبأن يزنوا أقوالهم قبل أن توزن عليهم، وأن كل كلام ابن آدم عليه لا له، وما إن هممت بإبداء النصيحة لهم حتى شعرت كأن صوتًا يصرخ في أذني بشدة وكأنني سلبت صاحبه حقًا أو منعت عنه شيئًا، كان صاحب هذا الصوت هو الشيطان الرجيم.. لقد كان صوته مدويًا، ونبراته تحوي بين طياتها التهديد والوعيد.
وقال لي: يا هذا إنه ليس من كرم الضيافة أن تقيد تصرفات ضيوفك، فمالي أراك تريد تقييدهم حتى في الكلام الذي يقولون؟ إن عملك هذا سيغضبهم حتمًا.
فقلت له: سبحان الله ومن الذي وضعك محاميًا عنهم؟ وعلى فرض أن تذكيرًا قد حصل فإن من حق الله علي أن أذكرهم بالخير ما استطعت إلى ذلك سبيلا، والنصيحة لا تغضب إلا المنافقين وصحبي هؤلاء ليسوا منهم، فهم يرحبون بكل نصيحة، ويتقبلون كل نقد ما دام فيه صلاح لدينهم وآخرتهم، وعلى فرض أن نصيحتي ستغضبهم فإن ذلك لن يؤثر عليّ ما دمت أقصد مرضاة الله، ورضا الله أبقى من رضا الناس كان من أغضب الله يرضي الناس غضب الله عليه وأغضب عليه الناس، ومن أرضى الله بغضب الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
فقال: لا تغرنك نفسك، فأنت لست أعلم منهم، كما أنك لست أحرص عليهم من أنفسهم فلا داعي أن تضع نفسك موضع الأستاذ الناصح وأنت مثلهم في العلم أو أقل.
فقلت له: إنك تزج نفسك فيما لا يعنيك، وتحاول أن تصطاد في الماء العكر وهذا لن يفيدك شيئًا، فالعلم ليس مقياسًا في هذا المجال، فرب رجل على قدر بسيط من العلم يعمل به أفضل عند الله من عالم لا يعمل بعلمه، والدين النصيحة لعامة المسلمين وعلمائهم، فهو ليس حجرًا على طائفة دون أخرى، والمؤمنون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
فقال: ولكن ماذا تستفيد إن نصحتهم فلم يستجيبوا لك بل وسيسخرون منك ويعتبرون كلامك تدخلًا في شئونهم.
فقلت له: إن واجبي أن أقدم لهم النصيحة، أما نتائج الأعمال فعلى الله، وما يضيرني أن يسخروا مني فإن ذلك سيزيد من حسناتي يوم يؤخذ من حسناتهم فيطرح على حسناتي وماذا يضيرني أن أكسب باقيًا بفان،
فالاستهزاء مهمًا كان مقذعا فإن أثره لا يلبث أن يزول، أما النصيحة فهي ذخر باق عند الله لا يندم من قام بها.
وهنا أخذ صوت الشيطان يضعف، وحدته تهدأ.
فقال: ولكنك نصحت الكثيرين قبل هؤلاء فكنت لا تجد منهم إلا الإعراض والصد فلماذا تحمل نفسك أكثر من طاقتك؟
فقلت له: يا عدو الله، إن النصيحة واجبة علي، أو أجر أن أديتها، وآثم أن تركتها والمهم أن يقوم الإنسان بواجب النصيحة حتى ولو كان متأكدًا أن من يريد أن ينصحهم لن يستجيبوا لنصيحته، فما بالك بقوم فيهم بعض الخير ومن المحتمل أن ينتصحوا، وقصد المؤمن من النصيحة خير الناس إن استجابوا لها، والإعذار إلى الله إن لم يستجيبوا، وفي كلا الحالين فهو مأجور لا محالة، في الأولى يشكر، فيؤجر وفي الثانية يصبر فيؤجر، ونحن ـ يا هذا- بحاجة إلى أجر الله مثوبته.
فقال: لو سلمنا معك أن ضيوفك هؤلاء يستجيبون لنصيحتك، فهل تنفعهم النصيحة بعد أن أتموا ببعض ما قالوه في مجلسهم هذا.
فقلت له: إن نصيحتي لهم القصد منها حرصي على إنقاذهم من حبائلك ودسائسك وهذا أقل واجبات الصحبة، أما بالنسبة لهم بالنصيحة تذكرهم بالخير وتلهمهم التوبة فيرجعون إلى الله فيجدون الله غفورًا رحيمًا، فالله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وهنا شعر الضيوف ما بي من صمت، فقطعوا علينا هذا الحوار، حينما سألوني عن سبب صمتي هذا، فقصصت عليهم تفاصيل هذا الحوار؛ فكان أثره في نفوسهم أفضل من النصيحة، وعجبوا من هذا الشيطان الذي لا يترك بابًا إلا ويأتي الإنسان من يزج به في الشر أو على الأقل يصده عن الخير.
وكانت ساعة غروب، وهي ساعة يستجاب فيها الدعاء، ويمحو الله فيها الخطايا فتوجه القوم إلى الله تائبين، وندموا على ما فرطوا به من لغو القول والعمل.
وهنا انتابني هدوء عميق كنت أردد فيه مع نفسي هذه الكلمات: سبحان الله لقد صدق ظني بهؤلاء والمرت النصيحة خيرا لي ولهم.
وما كدت أنتهي من كلامي هذا حتى عرض لي الشيطان مرة أخرى، ولكن بثوب جديد، لا يحوي بين جنبيه إلا الخبث والمكر.
فقال: لقد والله كان ظنك في هؤلاء أفضل من ظني بهم، والحقيقة أن نصيحتي قد أثمرت فيهم، فأنت رجل فيك إيمان وخير كثير؛ لأن الكلام الذي يخرج من القلب يصل إلى القلب، فهنيئا لك.
أدركت أن هذا الخبيث لا يريد أن يمدحني اعترافاً منه بما تم، ولكن يريد أن يتخذ من ذلك وسيلة يوقعني في شباكه، أنه يريد أن ينفث في روعي أنني إنما فعلت ذلك بمقدوري وكفاءتي؛ فانظر إلى نفسي نظرة خيلاء وتقدير، فيحبط عملي.
فقلت له: لقد أدركت قصدك يا عدو الله، فأنا إذا كنت قمت بواجب النصيحة فلم يكن ذلك إلا بفضل الله والهامة، وليس لي في ذلك أي فضل، وما أنا إلا وسيلة في هذا المجال، ولئن استجاب إخواني لنصيحتي فإن ذلك أيضًا بفضل الله، لأنه وحده الهادي إلى سواء السبيل، وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات.
فقال: صحيح أنك وسيلة لهدايتهم، ولكن لولا جهودك لما رجعوا عن إثمهم، فلا تقلل قدر نفسك وتظلمها فإن الله لا يحب لك ذلك.
فقلت: قلت لك يا هذا إن الفضل كله لله، فهو الذي يقدر أعمالنا ويجزينا بمقدارها ولا يظلم ربك أحدا، فنحن من قوم لا تغرنا مظاهر الأعمال، ولكننا نرجو الله دائما أن يتقبل أعمالنا، ونطمع دائما في كرمه فالله لن يخيب ظن كل من يطرق بابه.
وهنا انطلق صوت المؤذن يشق عنان السماء، فقطع الحوار بيني وبين هذا الخبيث فخنس لما سمع صوت "الله أكبر" وتضاءل صوته حتى كأنه حشرجة وفر من أمامي لا يلوي على شيء.
ولعل هذا الخبيث رفض أن يعترف بهزيمته، فما إن انتهى الأذان حتى عاد إلي مسرعًا، وبينما كنت أهم لدعوة الضيوف للذهاب إلى المسجد لأداء صلاة المغرب، عرض لي وهو يقول:
- ليس من اللياقة أن تطرد أصدقاءك من بيتك؛ فالصلاة يمكن أن تصليها بعد انصرافهم من عندك.
فقت له: يا عدو الله، لقد جعل الله الصلاة على المؤمنين كتابًا موقوتًا، وخاصة أن المغرب غريب لأن وقته ضيق، فلأن ألبي نداء الله خير لي من الجلوس في البيت مع ضيوفي، ثم إنني أطردهم من بيتي حينما أدعوهم إلى الصلاة! ولكني أدعوهم إلى ما هو أفضل مني ومن بيتي، أدعوهم إلى لقاء الله، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فقال: ولكن يمكنك أن تصلي معهم في بيتك، إذ أنكم تكونون جماعة.
فقلت له: إن صلاة الرجل أفضل من صلاته في بيته، وكلما كثرت الجماعة كلما كانت أكثر عونًا على الطاعة، والصلاة في المسجد مظهر من مظاهر الإسلام، فلا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله واليوم الآخر.
وهنا أدركت أن هذا الخبيث يريد من هذا الحوار تأخيري عن الصلاة جماعة في المسجد، فأخذت بأيدي ضيوفي وسرنا مسرعين نحو بيت الله.
وما إن أخذت مكاني في الصف، وكبرت تكبيرة الإحرام، حتى جاءني هذا الخبيث مهرولاً ولكنه في هذه المرة جاء بشكل المسكين المعترف بهزيمته.
قال لي: أشهد أنك غلبتني في كل ما جرى بيننا من حوار وأفحمتني بحجتك ومنطقك؛ فأنا الآن لا أجد بابًا أستطيع أن أنفذ منه إلى نفسك؛ فبارك الله لك فيما وهبك من علم وحجة.
ولما كنت أؤمن أنني أمام شيطان ماكر لا يؤمن جانبه، وأنه يريد بهذا الكلام أن يفتح معي حوارًا جديدًا يلهيني عن صلاتي، قررت أن أفوت عليه هذه الفرصة فاستعذت بالله من هذا الشيطان الرجيم، ففر من وجهي لساعته.
وتابعت الإمام فيما يقرأ من آيات الله البينات، ولكن هذا الخبيث كر عليّ مرة أخرى ولكن بصورة جديدة لا مكان للحوار فيها.
لقد هاجمني بسيل من الأفكار والمشاكل: عملك، أولادك، رزقك، أجلك، دراستك، طعامك، أصدقاؤك.
ومرة أخرى فوت عليه الفرصة، وأعانني على ذلك أنني أخذت أتابع تلاوة الإمام وأتمعن في معاني القرآن، ولكنه مع ذلك استمر طيلة الصلاة وهو يمطرني بوابل من مشاكل الدنيا بغية إلهائي عن الصلاة، وكنت بين الفينة والأخرى أستعيذ بالله منه فيذهب عني ولكن إلى حين.
وانتهت الصلاة، فجاءني هذه المرة بشكل الصديق الناصح، الحريص على مصلحتي.
فقال لي: تقبل الله يا أبا فلان.. لقد والله كنت في صلاتك مثال المؤمن التقي الذي وقف بين يدي الله بكل خشوع وتأدب، فأتممت صلاتك كأحسن ما تتم به الصلاة وأديتها حقها، وصلاة كهذه لا بد أن يقبلها الله.
فقلت: يا عدو الله هذه حيلة جديدة من حيلك، إنك تريدني أن أعتقد أنني أحسنت صلاتي، وأن الله قد تقبلها لا محالة، وهي ربما لم ترتفع فوق رأسي ذراعًا ولا شبرًا تريدني أن أعتقد أن حسناتي كثيرة، فأقعد عن طلب المزيد منها فآمن مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، ولكن تأكد -يا هذا- أنني أطمع في كرم الله وواسع رحمته وأؤمن أنني لو وصلت النهار بالليل صائمًا وقضيت الدهر شاكرًا وقائمًا لما أديت لله بعض حقه علي، فأنا إلى الله مدين، وإليه أتيت، فاغرب عن وجهي أيها اللعين، ولن تصل إليّ لأنني ألوذ بحمى الرحمن، وأعتصم بحبله القويم، وهنا توجهت بقلبي إلى السماء أدعو رب السماء بأن يثبتني على الصراط المستقيم.
«اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
ولما شاهد الشيطان هذا المنظر فر مسرعًا لا يلوي على شيء، وصدق الله العظيم ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وإن جهنم لموعدكم أجمعين﴾ (سورة الحجر:42)
نبيه عبد ربه
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل