العنوان خصائص.. الطليعة المؤمنة.. وصفاتها
الكاتب أحمد عثمان مكي
تاريخ النشر الثلاثاء 18-يوليو-1972
مشاهدات 15
نشر في العدد 109
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 18-يوليو-1972
خصائص.. الطليعة المؤمنة.. وصفاتها
بقلم الأستاذ أحمد عثمان مكي
جامعة الخرطوم
الدعاة إلى الله هم الطليعة المؤمنة التي تمسك براية الإسلام الوضاء... وتلوح بها لجماهير الناس من البشر... وهم القيادة الواعية المبصرة المتصلة بالرحمن والتي لا تصلح حياة الناس إلا بها- وإن كانوا على غفلة من ذلك- وهم على مدار التاريخ ومسيرته أمة واحدة يجمع بينهما لواء واحد، وإن اختلفت الأزمان وتفرقت الأوطان ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. (الأنبياء: ٩١).
ومن ثم يجيء النداء الرباني الكريم بتخصيص هذه الفئة دون غيرها فيرسم لها خطاها ومنهاجها ثم يصفها بالفلاح المطلق ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. (آل عمران: ١٠٤).
وهذه الأمة- نقصد الدعاةـ لا بد أن يكون لها من السمات والصفات ما يميزها عن ما عداها، تميز الناظر للشيء بين ضوء وعتمة.. وليس من شك في أن هذه السمات والصفات يجب أن يكون القرآن هو مصدرها وفرشاة طلائها حتى لا تصطبغ بغير صبغة الله فينشأ خلاف بين الحقيقة والصورة...
ونحن حين نتحدث عن صفات الدعاة نجدها كثيرة لا تحصى، ولكننا سرعان ما نجد أنفسنا نتوقف أمام معالم وأعلام بارزة لا يستطيع داعية من هؤلاء أن يتخطاها دون أن ترتسم في ملامحه وتصطبغ بها شخصيته...
ولنبدأ بها هي- ليس حصرًا وإنما ما يجود به القلم- وعسى الله أن يفتح على غيري فيكمل المشوار...
الإيمان الصادق
الإيمان الصادق بالله أولى سمات الدعاة... فهو صلتهم بالله تعالى وزادهم في مسيرة الدرب الطويل.. وبالإيمان لا نقصد ما ينتهي به ذلك التعريف الفقهي الذي أكثر فيه علماء الأصول.. وإنما نرمي إلى اتصال الفرد الفاني بالوجود الأزلي... وشعور الارتباط الوثيق بقدر الله تعالى وبرسالاته وكل ما به أمر...
والتناسق التام بين فطرة الإنسان وما جبل عليه وفطرة الكون الفسيح وما يدور فيه.. فإن تم ذلك وفق منهج وسلوك تعامل رباني سليم فهو الإيمان، وإلا فهوى القلوب وضلال النفوس والتيه البعيد.. ومن هنا... من هذه القاعدة ينطلق الداعية فينظر للحياة من حوله، ويزنها بميزان الإيمان الذي يستمسك به.. فإن كانت تتجه إلى الله بكيانها وكلياتها شعر بالاطمئنان والإيناس واستقرار النفس.. فهي عنده ثرة رحبة.. وإن كان غير ذلك رآها هابطة لا قيمة لها... فتعاف نفسه المؤمنة أن تخوض فيها وشعر بالغربة والوحشة الضارية.. فهي عنده صحراء مجدبة؛ معتوه ذاك الذي يقيم بها وهو يحسبها نعيمًا رخاءً.
وبهذا الصدق وحده ينتصر الداعية إن تمكن الإيمان من قلبه؛ وخاض المعارك ليهد بنيان ذلك الواقع الكافر فينصره الله في الدنيا والآخرة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. (الروم: ٤٧).
وبالإيمان الحق يتقدم الداعية إلى ربه وقد اتبع إيمانه ثمرة حلوة طيبة المذاق.. هي عمل صالح يرتقي به الدرجات العلى ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّ﴾. (طه: ٧٥ - ٧٦).
والقلب يمثل حجر الزاوية والأساس لإيمان الداعية...
فهو مستقره ومستودعه الذي إن صلح صلح الجسد كله وإن هو فسد فسد الجسد كله...
والداعية الرشيد هو الذي تصدر دعوته للناس من قلب مؤمن فتستمد كلماته التي يوجهها إليهم جمالها من صدقها لا من تنميقها أو بريقها...
وحينها يكون المتلقي هو قلب المخاطب لا آذانه لأنه «ما كان من القلب فيصل إلى القلب وما كان من اللسان فلا يتجاوز الآذان» فالكلمة التي تقال باللسان ولا تنبعث من قلب يؤمن بها حق الإيمان تولد ميتة وتصل هامدة.. لا أثر لها على نفوس المخاطبين مهما تكن رنانة طنانة لأنها تفقد عنصر الاستجابة القلبية...
والدعاة إلى الله هم أشد الناس حاجة إلى تجديد إيمانهم.. وعن ذلك ينوه الرسول الكريم أن الإيمان يبلى كما يبلى الثوب، ويأمر أصحابه «جددوا إيمانكم...» فيسألونه «وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله ؟» فيقول لهم «قولوا لا إله إلا الله».. وإن بلی إیمان داعية، وهو لا يزال في مقام الريادة، فلا بد أن يكتشف أن مهمته قد أصبحت مجرد حرفة وعادة ألفها!! وفي ذلك الخطر الجسيم والضرر العظيم لا على نفسه فقط، بل وعلى دعوته وإن كان مخلصًا لها مجدًّا لإنجاحها؛ فلا يلبث أن ينهار أمام تهديد الطغاة وسطوتهم ويتزعزع ساعة الابتلاء والمحنة.. فلا يطيق تكاليفها ولا يجد في نفسه ما يمكنه من احتمالها والصبر عليها.. ويومئذ تستبين له الحقيقة التي كان عنها غافلا.
وهي كذب إيمانه الذي فشل في إثبات دليل وجوده ﴿الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. (العنكبوت: ٣).
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾. (العنكبوت: ١٠ - ١١).
وليتجنب الداعية ذلك؛ فعليه بالروح الذي تحيا به القلوب ویزکو به الإيمان.. القرآن.. ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. (الشورى: ٥٢).
فمن اتصل به نمت الحياة في نفسه واهتز قلبه وسما إيمانه...
يروى عن مالك بن دينار قوله: «ما زرع الله في قلوبكم يا أهل القرآن؟ إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض».
العلم:
العلم سلاح هام للدعاة..
وتكمن أهميته في أمرين اثنين:
أ ـ للعمل به
ب - لتبليغ الدعوة به..
والعلم ـ وهو خلاف المعرفة- أمر قد حض الإسلام عليه ودعا له.. فيخاطب القرآن عقول المؤمنين ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. (الزمر: ٩).
وللإجابة على ذلك لا بد من إعمال العقل الذي بدوره ينيره العلم ويرشد طريقه.. والتالي لكتاب الله يجد أنه يكثر فيه ذكر العلم..
وكذا الدارس لقول الرسول صلى الله عليه وسلم...
فيرد تارة كأمر: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾. (محمد: ١٩).
ويرد تـارة كبيان ﴿ هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. (إبراهيم: ٥٢).
وتارة كتحضيض كما بين الرسول، صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» وكقوله: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة»، وكقوله فيما يرويه الطبراني عن ابن عباس: «إذا مررتم برياض الجنة فارتقوا.. قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال: مجالس العلم»، وفي الحديث الذي يرويه الترمذي: «فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم.. إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة وجحرها والحيتان في البحر يصلون على معلم الناس الخير». والتأمل في دين الإسلام تأمل المنصف البصير يدرك أنه يعنى بالعلم ويرقى بالفكر ولعل سبب ذلك عظم الدور المناط بالمسلم أن يلعبه في الحياة والوجود... فهو - أي الإسلام - منذ بدء الدعوة في مكة يدفع بالعربي البدوي الذي أعماه جهله فظل طيلة حياته أسیر أوهام وخرافات يشحذ بها ذهنه ويدور في فلكها.. يدفعه إلى التفكر في الكون الفسيح من حوله... فيما يراه كل يوم وقد ألفته عيناه وأحسته يداه.. السماء من فوقه... الجبال التي أمامه... الأرض التي من تحته... وحتى إبله التي يرعاها! ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾. (الغاشية: ١٧ - ٢٠).
- ونظر الكيفية يستدعي حتما إعمال العقل والبصيرة، فهو ليس نظر بصر ومشاهدة...
وينبه القرآن الفكر في سورة أخرى مكية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. (الروم: ٢١).
ثم يستطرد مرة في يبان أخاذ لينبه العقل إلى عوارض كونية يراها العربي بعينيه عامًا بعد عام: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. (الروم: ٢٤).
والداعية البصير يدرك أن العقل اليقظ يستمد يقظته من العلم... وأن العمل الصواب يستمد صوابه من العلم...
فالجهل محبط للأعمال محبط للعبادات... ولعل أقرب مثال نسوقه.. مثال المؤمن الذي يصلي بطريقة تخالف صلاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لجهله بالكيفية التي صلاها بها- عليه الصلاة والسلامـ فإنَّ أمر قبول صلاة هذا في خطر!... لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ثم يحدد مقياسًا ثابتًا لقبول أعمال العباد أو ردها فيقول: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»- أي مردود عليه ـ وقد سئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال «العلم بالله» فقيل: أي العلم تريد فقال «العلم بالله» فقيل له: نسأل عن العمل وتجيب عن العلم؟ فقال عليه السلام: «إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله».
والعلم علمان: علم دين وهو ضوء الطريق ومشعله الذي يكشف أبعاده وآماده..
وعلم دنياـ ونطلق عليه اللفظ تجاوزًا- وهو جملة المعارف ونتاج العقل البشري فيما يستحدثه من شئون الحياة المختلفة... وبه ينظم البشر حياتهم ومعاشهم... كعلوم تضاريس الأرض والجيولوجيا وعلم الفضاء وأرصاد الجو، وعلوم البحار والجغرافيا الطبيعية وعلم النبات والحيوان وعلم وظائف الأعضاء... وغيرها من العلوم... فهي وإن كان العقل البشري قد توسع فيها في الآونة الأخيرة، إلا أننا نجد أن لها أصلًا في القرآن؛ الذي حض على تعلمها والنظر والتفكر فيها، ليدرك بها عظمة الرب فيزداد الإیمان به.. وتسعد حياة الإنسان بها حين يستخدمها في سبيل السلم والخير... وقد كان للمسلمين السبق في ذلك.. ولننظر إلى أبحاث ابن الهيثم في البصريات والبتاني في علوم الفلك، حيث قاس دورة الأرض حول الشمس وحسب مواعيد الكسوف والخسوف وابن سينا في الطب البشري..
وغيرهم ممن اعترف الاوروبيون حديثا بسبقهم في شتى العلوم التجريبية، وأقروا بأن السبق الإسلامي فيها هو القاعدة التي ترتكز عليها حضارة أوروبا العلمية!، يقول هـ. ر. جب في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» «أعتقد أنه من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى» وسبحان الله الذي يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. (البقرة: ١٦٤).
والداعية الذي لا يألو نفسه جهدًا أن ينمي من ملكته العلمية؛ في زمان صار العلم هو السبيل الذي به تسود الأمم، داعية قاصر.. كان يمكن أن يكتب له النجاح لو جاء قبل القرن الرابع عشر الميلادي!.. أما اليوم.. وقد تبدل الحال وتغير الزمان.. فإن أمر نجاحه مسألة فيها نظر- كما يقول الأزهريون- وهذا يلفتنا إلى الأمر الثاني والذي ذكرناه بصدد أهمية العلم.. وهو تبليغ الدعوة والذي هو المهمة الأولى والأساسية للأنبياء والرسل عليهم السلام.. فما من نبي ولا رسول بعث إلى قومه إلا وقد أمره الله بتبليغ دعوة السماء الذي عليه أُنزلت... بل وتنتفي مهمته إن لم يقم بذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾. (المائدة: ٦٧).
ويفرد القرآن لذلك أسلوبًا ومنهاجًا وتوجيهًا بيّنًا، فيخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. (النحل: ١٢٥).
وتبليغ الدعوة كلفة على كل مسلم أن يؤديها بنص القرآن وعلى ذلك يخص الله تعالى عباده ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. (فصلت: ٣٣).
ويطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه ان يقوموا بذلك الدور: «بلغوا عني ولو آية» ومن هنا جاء امر الوجوب بالتبليغ الذي لا يسقطه إلا ذو إيمان ناقص أو صاحب هوى... ودعاة الرحمن الذين اتصفوا بالإيمان- حسبما ذكرناـ عليهم يقع عبء التبليغ الذي لا يكون إلا بالبيان...
والبيان يستلزم العلم به قبل الخوض فيه وتلك منة الله تعالى منها على الإنسان ﴿الرَّحْمَٰنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾. (الرحمن: ١- ٤).
وبقدر تمكن الإيمان من القلب والعلم من العقل؛ يكون نجاح المبلغ في امتلاك عنان القلوب وقيادتها في رفق إلى الحق الذي عنده.. وإن كان الجيوش العسكرية تتسلح بأسلحة مادية لتصد العدوان وتدافع عن حقها أو تنال بها النصر.. فإن سلاح الداعية هو علمه الذي به يدفع الشر ليجلب الخير... وبه يبين الحسن من القبيح... فبهذه القوة- قوة العلمـ يتحقق نجاح الداعية... وهي من العدة التي يدخرها حين يستجيب لنداء ربه ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾. (الأنفال: ٦٠).
فهي قوة إيمانية وقوة بدنية... وقوة فكرية... وإن تخلفت واحدة لتعرضت مهمته للفشل ولتهددت دعوته بالسقوط..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل