العنوان خطاب مفتوح إلى ولدي الانضباط العاطفي
الكاتب الأستاذ عبد البديع صقر
تاريخ النشر الثلاثاء 16-أبريل-1974
مشاهدات 20
نشر في العدد 196
نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 16-أبريل-1974
ولدى الحبيب - اقرئك السلام وأسأل الله أن يحفظك في غربتك وأن يكون عليك نعم الخليفة.
وأرجو أن لا يحرجك توجيه هذا الخطاب إليك مفتوحًا - لأنه لا يشتمل على سرية خاصة -ولأني أشعر أني والد روحي لعدد كبير من الأبناء -منهم الأسمر والأصفر والأبيض- منتشرين في أنحاء العالـم - لعل هذه النصيحة تصل إليهم بصورة ما- ولو بعد حين.
وقد لاحظت عندما كنت في سلك التعليم- أن أكثرية الشباب تميل إلى الانحراف -عاجلًا أو آجلًا– فهالني هذا المصير.
كان الطالب «م» عندنا في المرحلة الابتدائية مثالًا للذكاء والألمعية وكان في المرحلة الإعدادية مثالًا للتدين والنشاط.. وأما في المرحلة الثانوية فقد كنا جميعًا تتوقع له مستقبلًا مشرقًا وضاء.. ومرت سنين - ابتعث فيها للخارج ثم عاد للبلاد بدرجة علمية وهيئة أمريكية، مع نظارة سوداء وسيجارة شهباء.. بدأته بالسلام فلم أسمع ردًّا.. ونظر إلى خلسة ثم حول بصره كأنه يريد أن ينسى تاريخًا طويلًا نحن نمثله.
على أننا -معشر المعلمين، تظل قلوبنا متعلقة بتلاميذنا على طريق العمر كله نحبهم ونحوطهم ونرجو لهم الخير، مهما قل وفاؤهم ومهما شطت ديارهم لهذا يا ولدي – أتقدم لك ولإخوانك بهذه الكلمات:
• لا سبيل إلى إنكار العواطف الإنسانية - أو تجاهل تأثيرها وأثارها في النفوس - وأن كل ما يعمل له المربون والموجهون هو محاولة تنظيم مسيرة تلك العواطف بحيث تحقق الخير والسعادة أو تحول دون الشر والشقاء.
• وحينما تكون مشغولًا بهدف معين، حاول أن تضع الهدف نصب عينيك، وأن تطرد عن نفسك كل ما يشدك عنه من يمين أو يسار - حتى تدركه وتصبح في سعة من أمرك.
• وكما يتعود الجندي أن ينضبط في سلوكه بحيث لا ينقاد لهواه بل يعرف ما يأخذ وما يدع - ينبغي للعاقل أن يدرب نفسه على مثل هذا الانضباط في عواطفه قدر الاستطاعة.
وما الانحرافات التي يتعرض لها الشباب إلا نتاج لحظات من لحظات الضعف أو الغفلة والتساهل.
فإياك والسيجارة الأولى والكأس الأولى والخلوة الأولى مع امرأة لا تحل الخلوة معها وإياك ومداخل الإثم كلها.
عندما حرم الله الخمر بقوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة: 91) قال المسلمون «انتهينا يارب». وأهرقوا ما عندهم من خمر عزيزة عليهم حتى سالت بها شوارع المدينة المنورة. ثم لعن رسول الله شاربها وعاصرها وبائعها وشاريها وحاملها والمحمولة إليه ولعن من جلس إلى مائدة يدار عليها الخمر ولو لم يشرب وعندما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ﴾ (الإسراء:32) فهم المسلمون أنها تعنى كل مقدمات الزنا - ومنها الموسيقى والرقص والاختلاط وكثير من الأغاني وقال النبي -عليه الصلاة والسلام: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء، فإذا كان المحبة واللقاء، كان الداء العياء» يعني الزنا.
• وكما تتقي النار – تخاف أن تحرق فيها.
وكما تتقى الحفرة – تخشى أن تتردى فيها.
اتق الله - الذي هو دائم العلم شديد العقاب.
• وأنا لا أعارض زواجك ممن تحب – إلا أن تكون فاجرة لم تعلن توبتها - فإن الله يقبل التوبة عن عباده ولكنه قال: ﴿وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ (النور:3).
وأنا لا أعارض ارتباطك بالحب مع من ترجوها أن تكون شريكة حياتك فالحب الشريف يمهد للعيش الكريم.. وهذا كله من شأنك الخاص وإنما الذي أخافه عليك هو أن يفرض عليك شيء خطير في لحظة خاطفة من لحظات الإغراء أو الضعف - عندما لا تكون مستعدًا لنتائج هذا الشيء الخطير.
• والحب شيء جميل - لا تطاق الحياة بدونه.. إن فن الحب من أرقى الفنون ولكن أشكال الحب كثيرة لا تحصى.. فإن رأيت أن تؤجل علاقة الحب مع الفتاة التي ترجوها، فأمامك ميادين الحب كثيرة مفتوحة... تستطيع أن تحب الله تعالى.
تستطيع أن تحب العلم ومكارم الأخلاق.
تستطيع أن تحب الأخيار والأبطال من قدامى ومحدثين.
تستطيع أن تحب الوطن والجهاد والمجاهدين.
وأخيرا تستطيع أن تحب مئات الأشياء التي ترقى بك وبالإنسانية.
• اجعل في داخلك شيئًا كناقوس الخطر- يدق عند اللزوم لكي ينبهك إلى الخطر المقترب، ويجعلك تتصرف في المواقف ببديهة وسرعة، حتى لا تستسلم.
تعلم كيف ترفض بشجاعة إذا لم يعجبك المجلس أو لم يعجبك الكلام..
أو أزعجك النفاق والمكر السيء.
• وفي الدنيا ثقافات وافدة – لها ضجيج وزخرف..
وفي عالم اليوم مجتمعات لها تقاليد مستهجنة، لا تشبهنا ولا تناسبنا، فلا تكن من المفتونين بها يا ولدي.. واستكبر على أسباب الفتنة والغثاء فاستمسك بالذي أوحي إليك أنك على صراط مستقيم. ﴿ وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسَۡٔلُونَ﴾ (الزخرف: 44).
• واعلم أن الدين هو الشريعة.
وقوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ﴾ (الأنعام: 38) تعني أن الدين يجمع كل المبادئ الاساسية اللازمة لعمارة الدنيا وموقف الآخرة. وقوله ﴿مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ﴾ (يوسف: 76) أي بشريعة ذلك الملك. ولم يترك الإسلام شيئًا مما يلزم لحياة الناس العامة إلا قال فيه. ثم ترك بعض الفرعيات لمناسبة الأزمنة والمجتمعات.
فالذين ينادون بنظرية «الفن للفن» أو «الأدب للأدب» - أو الرياضة للرياضة دون الربط بين الوسيلة والغاية، إنما يهدفون إلى الانفلات من كل رقابة أخلاقية أو مصلحة اجتماعية – ويقول آخر: يتحللون من الانضباط الواجب نحو الخير والشر.
ولكن إذا تأملت قوله تعالى ﴿قُلۡ إن صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ (الأنعام: 162) تجد أنها تحدد للإنسان هدفًا خيرًا في كل تصرف من تصرفاته. وتسوقه من داخله في طريق واضح يلتقي فيه مع سائر الفضلاء والبنائين.
وختامًا يا ولدي – ويا أبنائي من سائر الشباب والشابات– أرجو لكم الخير والتوفيق– والسلام عليكم ورحمة الله.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

