العنوان خطر الاشتراك في الحكم بين المسلمين وغيرهم
الكاتب د. السيد محمد يوسف
تاريخ النشر الثلاثاء 23-سبتمبر-1975
مشاهدات 29
نشر في العدد 268
نشر في الصفحة 35
الثلاثاء 23-سبتمبر-1975
إن في حوادث لبنان الدامية عظات وعبرًا، أهمها أن الكلام عن السماحة والتعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم في ظل نظام جمهوري علماني لا يعدو أن يكون سفسطة وهراء، ومثل هذا الكلام الذي يتبجح به كثير من المسلمين ذوي الثقافة الغربية هو أول الوهن، لأن أعداء الإسلام لا يستهدفون من وراء هجماتهم إلا انتزاع فكرة الانفراد بالحكم المتأصلة في المسلمين، فإذا تنازل المسلمون عن الانفراد ورضوا بالاشتراك في الحكم مع غيرهم لن يقوم الحكم إلا على أساس قانون وضعي غير إسلامي وتلك، أيم الله، قاصمة الظهر فإنه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (المائدة: 47) وفي آيتين أخريين «هم الفاسقون» و«هم الكافرون».
فهذا هو الثمن الباهظ الذي يدفعه المسلم للدخول في مصاف الأمم المتمدنة التي يحكم جمهورها أنفسهم بأنفسهم لصالح أنفسهم- كما يقال- والحقيقة أنهم يظلمون أنفسهم بعضهم بعضًا جريًا وراء أهوائهم الجامحة- ثم لا يقف الأمر عند حد الاشتراك في الحكم، بل يتعداه إلى حرمان المسلمين من الحكم مطلقًا بحيل شتى، تلك التي تنم عن الداء الدفين في قلوب غير المسلمين، فهم يزجون أقاربهم في ظلام الليل بينما المسلمون خائفون حذرون من كل ما يستوجب اتهامهم بالتعصب الديني- هكذا يستولى غير المسلمين على المناصب الحكومية ثم يستعملون نفوذهم في الإدارة لتشويه سمعة المسلمين بغية إبقائهم على ما هم عليه من الفقر والبؤس والكدح في مهن وضيعة بحيث يصبح التخلف في المؤهلات والبعد عن الوظائف كحلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها.
أفلم يحن الوقت بعد التجارب القاسية في كثير من البلاد- العربية والعجمية والإسلامية وغيرها- أن يتنبه العلماء وقادة الفكر الإسلامي إلى ضرورة إعادة التفكير في جميع الملابسات والظروف المكتنفة بعلاقة الجوار بين المسلمين وغيرهم في وطن واحد والنظر إلى الموضوع نظرة إسلامية خالصة من غير تهيب أو أدنى تأثر من معايير الخلق المزيفة التي يلوح بها الأعداء في وجوهنا- لم نستمر نفقد الجرأة الكافية لأخذ النتائج المنطقية من الوقائع التي تقضي على أرواحنا وتحز في نفوسنا: تعصف بنا العواصف وتصيبنا النكبات كرة بعد أخرى هنا وهناك فتجدنا ساهين لاهين عما بيته الأعداء ضدنا- نهب هبة الفزع ونواجه المؤامرات المحكمة بارتجالية قائمة على البسالة والتضحية بالنفس والنفيس، وأخيرًا وبعد أن نكون قاب قوسين أو أدنى من الظفر في المعركة نرضخ للقوات العالمية الغاشمة التي تقاسمت مصاير العالم الإسلامي بينها والتي تظهر بمظهر المناصر لنا يومًا والخاذل عنا يومًا آخر – كل ذلك بينها في شأن الإسلام والمسلمين ولو اختلفت بينها في سائر قضايا العالم.
نعم أنرضخ للقوات العالمية التي تؤازر أعداءنا في أرضنا ووطننا لتنكسنا في الاشتراك في الحكم مع غيرنا ولو اختلفت الأوضاع قليلًا أو كثيرًا من حيث الزيادة أو النقص من حصتنا في مقاعد البرلمان ومراكز السلطة ووظائف الحكومة، فيكون هذا كله بمثابة الدواء المسكن مؤقتًا مع بقاء أصل الداء كما كان.
إذن النظام الجمهوري العلماني ليس إلا مصيدة وشركًا لحبس الفكر الإسلامي ومنع القوى الإسلامية من الانفراد بالحكم دون الاشتراك مع المواطنين من غير المسلمين في السلطة السياسية العليا، فما هو المصدر الذي استقينا منه فكرة الاشتراك في السلطة السياسية العليا كشرط للمواطنة وكضمان لحسن الجوار والعدل والإحسان في المعاملة مع غير المسلمين؟ كما أوضحناه آنفًا الاشتراك في الحكم لن يقوم ولا يقوم بالفعل إلا على أساس التنازل عن الشريعة الإسلامية في الحياة العامة، وهو شرط يناقض جوهر القضية وينسف الوضع الطبيعي مسبقًا من الأساس فلا ينشأ منه إلا الحيف والظلم والذل والهوان بأحد الجانبين، أعني جانب المسلمين المغبونين غبن أبي غبشان في صفقته المضروب بها المثل.
أو لا يكون المسلم ظالمًا وفاسقًا، بل كافرًا، بتصريح من الله تعالى إذا حكم بغير الكتاب والسنة؟ ثم هل رضي الإسلام والمسلمون أبدًا وفي أي عصر من العصور ما عدا العصر الحالي بالاشتراك في الحكم كضمان لحسن الجوار والعدل والإحسان في المعاملة مع غير المسلمين؟ لم يحدث هذا قط منذ عهد النبي وميثاقه مع يهود يثرب عقب الهجرة إلى أيام الخلافة العثمانية التي عاملت اليهود والنصارى كـ«ملل» يحكم عليها المسلمون بالعدل والإحسان بمقتضى الشريعة الإسلامية.
ثم هل من المعقول من الوجهة النظرية البحتة أن يتكفل فرد أو أمة الوفاء بـ«ذمة»، بينما هو أو هي تفقد بموجب عهد الكفالة نفسه الاستقلال بالسلطة العليا وما يلزمها من حرية التصرف في شئون الحكم والإدارة؟ إن الإسلام لا يقدم لأهل الذمة من غير المسلمين إلا الوفاء بذمة الله ورسوله فيما يتعلق بصيانة النفس والنفيس من الأموال وحرية الضمير والقضاء في أحوالهم الشخصية وفق أحكام دينهم وحق التكسب عن طريق المهن الحرة- أما الوظائف الحكومية المهمة فهي تشكل جزءًا من الهيكل الإداري الذي يراد منه إقامة الشريعة الإسلامية لا غير، وليس لأحد لم يثبت إخلاصه لذلك الغرض الأسمى أن يطالب بالمساهمة في الأداة المخصصة لتحقيقه، فإن مثل هذا المواطن إذا أتيح له التأثير في مجرى الأمور لا بد من أن يوجهها ويكرسها لخدمة الأغراض غير الإسلامية، وهو أيضًا يكون عرضة للإغراء والاستمالة والاستئجار من قبل أعداء الإسلام في الخارج- كذلك أثبتت التجارب المتكررة أن العناصر غير الإسلامية داخل البلاد الإسلامية هي التي تتكئ عليها القوات الصليبية منذ قرنين كاملين لأغراض الاستعمار السياسي والاقتصادي والغزو الثقافي- وبعبارة أخرى هل يحق لمن استجارك من غير المسلمين أن يدعي الاشتراك معك في إدارة منزلك؟
ومن جهة أخرى نرى أن غير المسلمين يظهرون الثقة بوفاء المسلمين بذمتهم إذا تأكدوا من كون سلطة المسلمين منقوصة متقسمة!!
أليس ذلك لأنهم يعلمون أنهم في الحقيقة اغتصبوا السلطة من المسلمين بيدهم؟
فاشتراك غير المسلمين مع المسلمين في الحكم على أجزاء الوطن الإسلامي ليست فكرة أجنبية غير إسلامية فحسب، بل هي خدمة لشل قوى المسلمين وخطة مدبرة لإقصاء الشريعة الإسلامية من واقع حياة المسلمين، وقد تجسدت هذه الخدعة بأبشع صورها في الاتفاقية التي نتج عنها دستور لبنان القائم على أوضاع مصطنعة ومعادلات مفتعلة ومشاحنات متعمدة بين الطوائف المختلفة لتبقى لبنان قاعدة للقوات الاستعمارية تحت ستار رقيق من الاستقلال المزيف.
إن المؤسف حقًا أن خدمة الجمهورية العلمانية لا تزال تنطلي علينا حتى بعد ما أصبحت عارية مكشوفة أمام كل ذي عينين - لیست لبنان وإسرائيل إلا وجهين لعملة واحدة - ألم يجلبوا النصارى من أطراف البلاد لإنشاء مركز سياسي لهم في لبنان كما جلبوا اليهود من أقاصي العالم لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين؟ لقد انخدع المسلمون بشأن لبنان وقبلوها عن طواعية حتى قاسوا ما قاسوا باسم الموادعة التي لم يطيقوا الصبر عليها في الآونة الأخيرة - إنى لأتذكر إخواننا العرب يجادلونني في موضوع إنشاء دولة باكستان متطوعين النصح لمسلمي الهند أن يتعايشوا مع الوثنيين الهنود على غرار الأوضاع العصرية التي تسود العلاقات بين الأديان في لبنان ومصر!
والحمد لله إذ أحدثت الناصرية المتطرفة المتآمرة مع مكاريوس وهيلاسلاسي وأمثالهما رد الفعل لصالح التيار الإسلامي في مصر بينما انفجر البركان في لبنان ليكشف عن سيطرة غير المسلمين على الجيش والإدارة تحت قناع الحكم المشترك.
حقًا، تنادي الأحداث وتصرخ في آذاننا صباح مساء ولكن لا حياة بمن تنادي- ففي الوقت الذي يرى المراقبون فيه وميض جمر تحت رماد لبنان يتقدم ياسر عرفات حاملًا غصن الزيتون إلى مهزلة الأمم المتحدة- وهل غصن الزيتون غير الحكم المشترك مع اليهود في دولة فلسطين إذا قدر لها أن تبرز إلى الوجود تحت رعاية أميركا وبتصميم كيسنجر اليهودي عدو الأمس وصديق اليوم!