العنوان درء الفساد بإيقاد شعلة الجهاد
الكاتب د.عيد عبد الحميد
تاريخ النشر السبت 09-مارس-2002
مشاهدات 18
نشر في العدد 1491
نشر في الصفحة 46
السبت 09-مارس-2002
ما فرط الباري - جل شأنه - في الكتاب من شيء، فمن كل قص علينا ذكرًا، وعلى ما ينفعنا في أمور ديننا ودنيانا سلط الضوء، مبينًا مفصلًا مآل المصلحين وعاقبة المفسدين أهل السوء، ومن تمام نصحه للعباد نهيه إياهم عن الانزلاق في وهاد الفساد ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ (سورة الأعراف: 56)، ومن باب التبصرة للعبيد، والذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فصل في الكتاب المجيد أسباب الفساد وعوامل الإفساد؛ لنتنبه إليها فنوصد في وجهها الأبواب، ويكون من بيننا وبينها حجاب، ويظل المؤمن منها متحرسًا، وخلف إيمانه وقيمه منها متترسًا، وعلى طريق مجاهدتها ومناهضتها لجهده مكرسًا، فبين جل شأنه أن للفساد خمسة أسباب؛ إذ الفساد فيها محصور وعليها مقصور، منها سببان ممتنعان، قد كفيها الخلق من إنس وجان، فالسبب الأول الممتنع بينه قوله تعالى:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ (سورة الأنبياء: 23)، فالحمد لله ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (سورة المؤمنون: 99).
والسبب الثاني الممتنع بينه قوله جل شأنه: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾(سورة المؤمنون: 71)، والحمد لله، فالحق لا يتبع أهواء الناس، إنما هو أبلج لا يكتنفه غموض ولا التباس.
ليبقى للفساد بعد ذلك ثلاثة أسباب، تستدعي استنهاض عزائم الدعاة أولي النهى والألباب، لئلا تجنح إليها جموع من البشرية، فيصب من فوق رؤوسهم العذاب:
أولى الأسباب الثلاثة جلاه قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (سورة الروم: 41)، فما نشاهده اليوم بأم أعيننا من فساد في الأرض، سببه، ﴿بما كسبت أيدي الناس﴾ فالباء سببية، أي بسبب ما اجترحته الأيدي من أثام، واجترأت عليه من جريمة وإجرام، وامتدت إليه من مطعم ومشرب وملبس ومسكن، متقلبة فيه كسائمة الأنعام غير عابئة أمن حلال هو أم من حرام، كانت عاقبته أن أضعف إيمانها، وسلبها أمنها، وأجهض أمانها ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ (سورة الروم: 42)، فهذه نتيجة فعلها، وحصاد ما زلت فيه قدمها، ومن رحمته تعالى ولطفه بعباده أنه جعل العقوبة على بعض ما عملوا، وإلا فلو كانت على كل ما عملوا لأضحت الحصيلة ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ (سورة فاطر: 45)، فبتأخيرهم إلى أجل مسمى يتوب منهم من يتوب، ويثوب إلى رشده من يثوب، فيبرأ مما تورط به من خطايا وذنوب، ويجهد لمحو ما لصق به من نقائص وعيوب، ومن رحمته تعالى وعنايته بخلقه وتربيته لهم كذلك أنه يذيقهم على ما كسبت أيديهم، ففي الإذاقة تكون الصحوة والإفاقة، والرجوع عن دروب الصفاقة؛ لتبدأ الأمة باستفراغ ما لديها من وسع وطاقة، بغية العودة للرشاد والتنصل مما تلبست به من فساد؛ لتكون هذه الإذاقة مقدمة نيرة لنتيحة خيرة هي: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، واليوم نلحظ أمة الإسلام بعامة وأهل فلسطين بخاصة قد عاشوا، ويعيشون مرحلة ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فبعد أن أتي عليهم حين من الدهر غصت فيه ساحتهم بالرايات، وعجت بالشعارات، فتشعبت بذا الولاءات التي لم تزدهم إلا عنتًا على عنت، وشتاتًا إثر شتات، إلى أن تفتحت أبصارهم وبصائرهم على هدى ربهم فشدوا إليه الرحال، ويمموا وجوههم شطره مستمسكين بحبله، معتصمين بقيله مستعذبين المنايا في سبيله.
أما السبب الثاني من أسباب الفساد فبينه قول رب العباد: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾(سورة الأنفال: 73)، والولاية هي: «النصرة والمحبة والإكرام والكون مع المحبوب ظاهرًا أو باطنًا»، إنها التقارب النفسي والحسي الذي يتوجب أن يصرف إلى عباد الله المؤمنين ويشيع بينهم، وينقطع عن أعداء الملة والدين ويحتجب عنهم تمامًا، كما هي الحال بين القوم الكافرين في موالاتهم بعضهم بعضًا، واتخاذهم المسلمين عدوًّا لهم وضدًّا.
وفي هذا الصدد حفلت آيات الكتاب بالدعوة إلى قطع أواصر المودة والتحاب، ووشائج المصافاة والانجذاب، مع أعداء الله، فضلًا عن تقديم المناصرة لهم والحماية ماداموا أهل ضلالة وغواية، فقال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ (سورة الممتحنة: 1)، وقوله: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (سورة المجادلة: 22)، وتأمل قوله: ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (سورة الأنفال: 73)، فالله – تعالى - لا يتعاظمه شيء، وقد نعت الفساد بأنه كبير إيماء بذا إلى الشر المستطير الذي سيداهم المجتمعات، ويفرق الجماعات، إن هي لم تخلص لله الولاءات وصرفتها لمن لا يضمرون لها سوى الشنآن والعداوات، ولا يبيتون لها إلا الدسائس والمؤامرات في حين ثم ثمرات منعقدة بناصية صفاء ولائها واستقامتها على أمر ربها، منها: أنها تبقي على مكامن عزتها، ومباعث رفعتها، وأصالة شرعتها، فضلًا عن استقلالية قرارها، وتميز شخصيتها، فتتوقى بذا مؤامرة المتآمرين، وتتحرز من تربص المتربصين؛ لتورث فكرها الرصين لجموع الأجيال القادمين دونما أي غبش في التصور أو تميع في القيم أو تأرجح في المشاعر والعواطف، وإلا فإن لم تكن هذه المعالم حية يظل حولها الالتفاف وعليها التلاق، انفرط عقد الناشئة الجدد انفراطًا ما له من فواق.
أما السبب الثالث من أسباب الفساد، فوضحه قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (سورة البقرة: 251)، أي: لولا الجهاد في سبيل الله – تعالى - الذي يدفع به جنود المؤمنين عائلة فلول المشركين والمعتدين لفسدت الأرض «فالمدفوع بهم جنود المسلمين والمدفوعون المشركون» «تفسير البحر المحيط ٢/٥٩٤»، ويستشف من قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (سورة البقرة: 251) أن ثمرات الجهاد لا تنحصر بين ظهراني المسلمين، إنما تتسع وتمتد لتشمل ربوع العالمين، وفي هذا يقول أبو الحسن الندوي -يرحمه الله تعالى -: «كانت الحروب الدينية الإسلامية حاقنة للدماء، وعاصمة للنفوس والأموال وفاتحة عهد السعادة والغبطة في العالم»، ذلك أن المجاهدين في سبيل الله – تعالى - إنما يحملون بجهادهم الفكر النير لكل أمة تريد أن تنعم بما تعتقد، ويحملون التشريع الخير لكل جموع تريد أن تخرج من حماة المعاصي، وتقتصد من هنا فإن الذين يتبعون الشهوات، ويحبون شيوع الفتن والمظالم والمنكرات تجد فرائصهم من هذه الفريضة ترتعد، فإذا علم ذلك توجب أن تبقى جذوة الجهاد تتقد ذلك أن درء الفساد، إنما يكمن في إيقاد شعلة الجهاد وفتح باب الاستشهاد، وعليه فأي دعوة لتعطيل فريضة الجهاد إنما هي جنحة بحق العالمين وليست مجرد مظلمة تخيم على أهل فلسطين لا سيما إذا كان الجهاد ضد من ذاق العالم منهم الويلات، إن في صورة أفكار مضلات، أو فتن مزلات، أو إثارة نعرات عنصرية ودينية من شأنها أن تفجر الأزمات أو الوقوف وراء رجات اقتصادية ومشكلات سياسية أغرقت البشرية في حروب داميات.