العنوان دراسة.. لقضيّة قبرصْ ومطامع الدول الكبرى فيها
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 20-أغسطس-1974
مشاهدات 21
نشر في العدد 214
نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 20-أغسطس-1974
نحن مع تركيا في قبرص
نعم نحن مع تركيا في قبرص... ليس فقط لأنها ضحية مؤامرة عالمية استهدفت توطين اليونانيين في جزيرتهم حتى صاروا أكثرية تحت ستار الاستعمار البريطاني؛ تمامًا كما حدث في فلسطيننا الحبيبة.. وليس فقط لأن الجزيرة بالأصل إسلامية رواها بدمائهم الزكية أبطال مسلمون على مر التاريخ؛ منذ الخليفة عثمان وحتى يومنا هذا، فالجزيرة إذن ميراث مشترك... وليس فقط لأنها تحمى حدودنا وبلادنا حين يسيطر عليها شعب بيننا وبينه روابط رحم وروابط قربی.. ولكن لأننا وإياهم شعب مسلم واحد... وعلينا نصرتهم في معركتهم.. لهذه الأسباب نحن مع تركيا في قبرص..
الأوضاع في تركيا والمشكلة القبرصية
الأوضاع في تركيا تستحق منا تعليقًا مستفيضًا، فنجاح حزب السلامة الوطني الإسلامي الاتجاه في الانتخابات السابقة ودخوله الحكومة لأول مرة... أثار اهتمام الإسلاميين في كل مكان... فهم بين متسائل متفائل وبين غاضب مستنكر.. وغالبًا ما يكون ذلك بدون معلومات يجرى على أساسها التقويم ونظرًا لضغط الأحداث في قبرص فسنضطر إلى استعراض الأوضاع في تركيا بشيء من العجالة.
حقيقة الأوضاع في تركيا
الأوضاع في تركيا جيدة نسبيًا، والحزب الإسلامي، مارس تجربة الحكم المميتة في قبرص في بعض الأحيان بنجاح نسبي، ولقد استطاع الحزب في فترة حكمه القصيرة أن يحقق مكاسب لا يستهان بها..
1- قضى على أسطورة أتاتورك حين ادعى تحويل تركيا إلى دولة علمانية لا دينية.. وإذا بالإسلام بعد خمسين سنة من الانقلاب يدخل طرفًا في حكم البلاد.
٢- استطاع أن يبلور الفكر في تركيا بين معسكرين بينهما انتهازيون.. معسكر اليسار ومعسكر الإسلام.. والزمن يعمل لصالح هذين المعسكرين..
3- استطاع أن يحقق كثيرًا من المكاسب وخاصة بتسلمه وزارة الداخلية.. أقلها بعض الإصلاحات وأكثرها تطمين بعض الجهات؛ كالجيش مثلًا، بأن الإسلام ليس بعبعًا يأكل الناس.. وإنما أمن وحب وأخوة وسلام..
وأخيرًا فالأمر صراع مرير وطويل.. ولن يسلم الغرب أول حصونه، ولن تسلم الماسونية أهم أهدافها هكذا بسهولة.. ولكنه صراع... ولينصرن الله من ينصره.
هذا عن تركيا.. فماذا عن قبرص..؟
لم يستغرب أحد الذي حدث في قبرص.. وعلى عكسه، فكل الفرقاء استبطأوه.. حتى صار كل فريق يده على الزناد وهو ينتظر.. فما هي قبرص؟
هي جزيرة صغيرة في البحر الأبيض المتوسط مساحتها ٩٢٥١ كيلومترًا مربعًا، وسكانها ٧٥٠ ألف نسمة، ٢٠٪ من سكانها أتراك مسلمون يسيطرون على ٣٠٪ من أرضها.
نالت الجزيرة استقلالها بعد صراع طويل في عام ١٩٦٠، ضمن إطار شعوب الكومنولث وعلى أساس دستور ينص على تعيين أحد اليونانيين رئيسًا للجمهورية وتركي نائبًا له.
كما تم الاتفاق على السماح بإرسال لواء عسكري يوناني وآخر تركي إلى قبرص، وأن يحكم الجزيرة برلمان مشترك، وأن يتمتع نائب رئيس الجمهورية التركي بحق النقض «الفيتو» لكل القرارات التي لا تناسبه.. وقد اعتبر الأتراك هذا الدستور غاية المنى...
بينما اعتبره اليونانيون ضد مصالحهم.. خاصة أن شعارهم الوطني هو ضم قبرص لليونان «أنوسيس» وكانت منظمة أيوكا الإرهابية تضم المتطرفين اليونانيين الساعين لهذا الأمر.
كيف وقع الانقلاب
يعود الأمر إلى الأحداث الدامية التي بدأت أواخر عام ١٩٦٣، واستمرت بعنف خلال معظم عام ١٩٦٤، والتي أوجبت إرسال قوات طوارئ دولية إلى الجزيرة للفصل بين الطرفين، ومن يومها والأتراك محرومون من كل حقوقهم؛ واليونانيون يتمتعون بكل الحقوق.. ومن يومها وتركيا تتحين الفرصة المناسبة لإرجاع الأمور إلى نصابها، ومنذ وقوع الانقلاب اليوناني الأول في نيسان «أبريل» ١٩٦٧، والنظام العسكري يناسب المطران مكاريوس «صديق الملك قسطنطين» العداء. وحين تأزمت أمور الحكم في أثينا وقع اختيارها على الانقلاب في قبرص تتخلص به عدوها من ناحية أن الإنزال التركي كان ذاتيًا لأسباب داخلية وقومية كما ذكرنا. وتركيا الآن لا ترضى بأقل من التقسيم وبأقل من أن يعيش الأتراك ضمن إدارة تركية ينتخبونها بأنفسهم، وأن يتقاسم رئاسة الجزيرة كل من الرئيس القبرصي اليوناني والرئيس القبرصي التركي، وإلى أن يتحقق ذلك فالجيش التركي سيبقى في الجزيرة للحفاظ على ميزان القوى.
اليونان
لم يعد سرًا؛ أن الاستخبارات الأمريكية هي التي أتت بالانقلابيين في أبريل «نيسان» ١٩٦٧ ثم بالانقلابيين على الانقلابيين في نوفمبر ۱۹۷۳، ثم بما يسمى الآن العهد المدني في يوليو «تموز» ١٩٧٤، ولم يعد سرًا كذلك أن افتعال الانقلاب القبرصي وإن كان سيحقق لليونان بعض الانتصارات الداخلية، إلا أنه كان لأهداف استراتيجية أمريكية بالدرجة الأولى.. ومن هنا فلن نتعرض للدور اليوناني لأنه دور ثانوي وليس له أهمية أساسية.
انكلترا
من المعروف أن بريطانيا كانت دائمًا تعتبر اليونان كما تعتبر قبرص موقعًا تابعًا لنفوذها الاقتصادي والاستراتيجي. ففي مؤتمر بالطا رفض تشرشل أن يبيع ستالين اليونان بثلاث دول بلقانية، وكثيرًا ما اضطرت لندن للتدخل العسكري كلما شعرت بأن اليونان على أبواب خطر حقيقي.
ولكن مشروع «ترومان» نقلها اقتصاديًّا إلى منطقة النفوذ الأمريكي، ثم جاء كيندي ليثبت هذا النفوذ عسكريا بمعاونة كرامنلس. ولقد حافظت بريطانيا على وجودها في قبرص، فقواعدها العسكرية في «أكروثيرى وديكيليا» من أقوى القواعد البريطانية في العالم، وتعتبر قبرص هي المكان الأمين الذي تجرى فيه عمليات الاستطلاع البحرية والجوية عبر الرادار البريطاني القوى المركز في إحدى القمم العالية في جبال ترودوس فكل التحركات، من عربية وإسرائيلية وحتى سوفياتية، تجري مراقبتها بالدقة المتناهية محطة الرادار هذه.
ولا تستطيع بريطانيا مهما كانت الظروف أن تتخلى مختارة من مواقعها في الجزيرة.. وذلك لأسباب نوجزها فيما يلي أشد الإيجاز.
1- منطقة الشرق الأوسط حيوية جدًا لأوروبا وبريطانيا فمنها النفط وفيها الأسواق وفيها التوتر وأسواق السلاح، فلا يمكن أن تترك كل هذه الأمور الحيوية جدًا بدون حراسة مشددة ومراقبة دقيقة.
2- الصراع العربي اليهودي يستوجب بقاء بريطانيا قريبة من مواقع الصراع تراقب الأحداث وتنجد الصهاينة إذا لزم الأمر.
3- تشعر بريطانيا أن المحاولات الأمريكية جادة لاقتلاعها من آخـر حصونها وهي تثبت بعنف في هـذا الموقع الحيوي.
أمریكا
وأخيرًا، نحاول أن نتحدث عن الدور الأمريكي في الصراع، وهو الدور الأهم والأخطر، والفاعل بعنف في الأحداث، ليس في قبرص وحدها وإنما في اليونان وتركيا ولدى العرب وإسرائيل ومنابع النفط وأسواق البضاعة.
كشف المعلق الأمريكي المعروف جاك أندرسون النقاب عن أن وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تدفع مساعدات مالية في وقت واحد لحكومة مكاريوس ولرئيس الزمرة العسكرية الانقلابية في قبرص نيكوس سامبسون، وذلك جريًا على سياستها التقليدية في مساندة كل أطراف الصراع حتى إذا انتصر أحدهم وجد نفسه مدينًا للمخابرات الأمريكية، وبالتالي لسياسة البيت الأبيض، هذا القول يكشف النقاب بوضوح عن أهمية وفاعلية الدور الأمريكي؛ ليس في كل بلد من هذه المنطقة، وإنما لدى كل فريق من داخل البلد نفسه، الفريق الحاكم والمعارض، الفريق الظاهر والمستتر. وأمريكا بحكم صلتها الوثيقة بالمنطقة، صارت الجزيرة بالنسبة لها ذات أهمية بالغة بالمنظار الاستراتيجي للأسباب التالية:
۱- تبعد نيقوسيا عن بورسعيد ٤٤٠ كم، وعن السويس ٦٠٠ كم فقط، وهذا يعنى عمليًا أن دائرة العمل على مسافة ٦٠٠ كم تشمل دلتا النيل في الجنوب العربي وإسرائيل وقسمًا كبيرًا من سوريا في الشرق والأردن في الجنوب الشرقي وقسمًا كبيرًا من تركيا في الشمال..
أما دائرة العمل على مسافة ١٢٠٠ كم فتشمل غربي إيران وقسمًا كبيرًا من مصر، وكذلك السعودية والبحر الأحمر والخليج العربي، كما تشمل كل المنطقة الغربية من القوقاس إلى الشمال وشمال اليونان وبلغاريا إلى الغرب. كل هذه المسافات هي ضمن دائرة العمل لحاملات القنابل وللطائرات المقاتلة المرابطة في قبرص، وباختصار فهي حاملة طائرات ثابتة رابضة في أهم وأخطر منطقة صراع في العالم؛ وبالقرب من أغنى مصادر الطاقة في العالم. فهل بإمكان أمريكا الزهد في هذه الإمكانات!!
۲- من قمم جبال الجزيرة حيث تحوى أضخم أجهزة الرصد.. تتمكن الاستراتيجية الأطلسية والأمريكية من مراقبة كل التحركات العربية والإسرائيلية والسوفيتية. فلأمريكا في إحدى ضواحي نيقوسيا أضخم محطة تجسس إلكترونية في المنطقة؛ تتولى مراقبة ما تشاء من المخابرات الهاتفية والاتصالات اللاسلكية في مجمل منطقة الشرق الأوسط.
3- لا غنى إطلاقًا للأسطول السادس الأمريكي الذي يعتمد عليه حلف شمال الأطلسي من قواعده في اليونان وتركيا، وهو يحاول أن تكون له قواعده في قبرص.
4- الصراع اليهودي العربي في رمضان الماضي المخطط له جيدًا المتفق على مراحله سلفا أبرز أن الجندي المسلم حين تسلح سلاحًا جيداً وأعطيت له فرصة الهجوم والمباغتة كاد يسحق إسرائيل. وهذه الفكرة جعلت أمريكا تفكر جديًا بإيجاد قاعدة قريبة من إسرائيل تستطيع الانطلاق منها في الوقت المناسب لإنقاذ إسرائيل، ففي الحرب الماضية اضطرت للاعتماد على البرتغال وهي بعيدة جدًا.
5- منابع النفط، عصب حياة أمريكا والغرب، المادة الاستراتيجية التي تختفي وراءها الكثير من الصراعات بحاجة إلى حراسة دائمة وقبرص هي المكان المناسب.
٦- تخشى أمريكا من ازدياد نفوذ الروس في الجزيرة، خاصة والشيوعيون مسلحون يعتمد عليهم مكاريوس.. والروس أنفسهم صارت لهم قوة ضاربة في البحر المتوسط وفي المحيط الهندي. والخشية كل الخشية الآن تكمن في فتح قناة السويس واتصال الأسطولين.. فلا بد من وجهة نظر أمريكية أطلسية من حل مشكلة الجزيرة قبل فتح قناة السويس.
7- كانت الدعاية الصهيونية قد صورت إسرائيل على شكل شرطي المنطقة وبعد حرب رمضان سقطت هذه الأسطورة، فصار لزامًا على حلفائها التواجد في المنطقة الحيوية لأمنهم ولمصالحهم ولمصالح حليفتهم إسرائيل.
8- هناك نقطة استراتيجية هامة.. وهي أن أمريكا وروسيا نتيجة لاتفاقات كثيرة وتفاهم عميق قررتا إعادة النظر بالتركيبة الجغرافية التي خلفتها المصالح الغربية الأوروبية القديمة والعمل على تركيبة جديدة لصالح الدولتين الأعظم تناسب طموحهما واستراتجيتهما.
ولكن هل لروسيا في هذه العملية مصالح...؟
نعم كل المصالح.. ومن هنا جاءت مطالبتها بسحب جميع الجيوش والقوات العسكرية في الجزيرة وهي تأمل أن تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، رفع لواء تحييد الجزيرة وتفكيك القواعد النووية الأمريكية المتواجدة فوق أراضيها والتي تهدد أسفل بطنها الجنوبي.
والمصالح الأخرى.. هي ضرب وشل فاعلية الحلف الأطلسي الذي تشكل اليونان وتركيا فيه ركيزة مهمة يعتمد عليها الحلف.
والخلاصة:
فقضية قبرص هي من القضايا الهامة جدا، ولها ارتباط وثيق بأحداث الشرق الأوسط... وبالقضية الفلسطينية، خاصة وهي تمر الآن في مخطط خطير، فعلينا الانتباه جيدًا لما يحصل؛ وعلينا إدراك الأبعاد الاستراتيجية للدول الكبرى التي ما زالت تتحكم في بلادنا ومقدراتنا ومقدرات شعوبنا..
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

زغلو: لولا تضحياتنا وجهادنا لمات الشعب المسلم التركي القبرصي جميعه
نشر في العدد 566
19
الأحد 18-أبريل-1982
