العنوان دعوة للانعتاق
الكاتب جمال النهري
تاريخ النشر الثلاثاء 19-مايو-1970
مشاهدات 22
نشر في العدد 10
نشر في الصفحة 7
الثلاثاء 19-مايو-1970
الصمت.
الإخلاد إلى التأمل.
حركة الباطن للبحث نحو الحقيقة، ملامح يفتقدها وجه الزمن الذي نعيشه.
وما من تغيير هام وقع على سطح الكوكب الذي نقضي حياتنا عليه إلا سبقه ظهور هذه الملامح على أفراد أو مجموعات من البشر الذي يعيش عليه، والضجيج، وسطحية الفكر، وتفضيل المسلك الظاهري عن التغلغل في أعماقنا.
هذه القيود المثلثة التي تمنع ميلاد الحقيقة، وتشكل سحنة عصرنا، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل عليه الرسالة كان يذهب للتعبد في الغار.
وهذا التعبد كان يعني في نفس الوقت الانعتاق من ملامح المجتمع الجاهلي، والقدرة على (الصمت) و(التأمل).
والذين يزورون (الغار) الذي احتوى تأملات الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعلمون مدى (انعزاله) عن مكة وحياتها ومدى (ارتفاعه) عن أرضها، ونحن لا نمتلك في كل مكان غارًا مثل (غار حراء) ولكننا نحتاج أن نصنعه.
يجب أن يكون لكل منا (غاره) الذي يلجأ إليه، فمحال في ظل (آلية الأيام) التي نقضيها حيث تتقلب بنا النزعات وتجري بنا المطامع والمخاوف أن تهبط النفس على حقيقة وتلتزم بها.
والسر في متاعبنا أننا نلهث خلف سلوكنا الفردي والجماعي نبتغي تصحيحه بينما (المفاتيح الحقيقية) للسلوك وهي التأمل المبني على الاعتقاد مفقودة.
(وجرعة الماء) التي ظلت متداولة بين ثلاثة من جرحى المسلمين في ميدان القتال وهم موشكون على الموت، وكل يفضل أن يشربها صاحبه (جرعة الماء) هذه لم تأت نتيجة تعليمات للمسلمين خاصة بسلوكهم في الميدان، وإنما جاءت من باطن قد تغلغل في حب الله وحب الآخرة حتى تهذب تهذيبًا ناصعًا وصنع هذه القصص التي نتداولها ونلوكها بألسنتنا و(الأنماط اليومية) التي نعيش داخلها وتفرغنا العميق لمطالبنا اليومية وما بعد اليومية، يسقطنا في النهاية أسرى للمجتمع الذي نعيش فيه، وأسرى لتقاليده.
ولتحطيم هذا الأسر والانعتاق منه لا بد أن يتولد في أعماقنا قوة هائلة على التأمل على النحو وبالمنهج الذي رسمه القرآن.
ففي كل خطوة نخطوها يتحدث المجتمع بلسان امرأة العزيز وهي تراود فتاها ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ﴾ (يوسف: 32).
فحياتنا الحاضرة تمثل (امرأة العزيز) في قولتها هذه، هي تراودنا بالباطل في كل خطوة نخطوها،
فطريق الانحراف الكبير يبدأ بانحرافه واحدة، كما يبدأ الألف ميل بخطوة واحدة.
ففي مناقشة.
أو في تصرف.
أو في أمر مال.
أو في شأن سلطة.
على نواصي هذه الأمور، بل عند كل فعل من أفعالنا وهاجسه تخطر بالنفس، تقف هذه القولة على نواصي ساعات حياتنا ودقائقها تردد: ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ﴾ (يوسف: 32).
هذا العالم يطالبنا (بالصمت) حين يكون الواجب أن نتكلم.
ويطالبنا (بالبخل) حين يكون الواجب أن ننفق.
ويطالبنا (بالفرار) حين يكون الواجب أن نتقدم.
المجتمع يهدد باستخدام (سلطاته) ضد كل من يخالف رغباته أو يخالف أهواء الذين يملكون السلطة أي سلطة.
والغرض النهائي: (الاستسلام) والاندماج في عجينة المجتمع وتلبية أهوائه كما تمثله الآية
﴿وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف: 32)
وقد روعني أن مثل الأيام التي بشرت الدنيا بميلاد الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أقبلت.
وقد حفظ أكثر المسلمين آباء وأبناء سيرة رسولهم حفظًا أصم.
يتبادلون التهاني وهم غارقون في الهوى.
مكفنون في هزائم سوداء ماحقة.
فاللهم نسألك ما سأل به يوسف ربه ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. (يوسف: 33-34)
جمال النهري
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل