العنوان دعوة مؤكدة للاكتشاف
الكاتب أ. د. عبد المنعم الطائي
تاريخ النشر السبت 03-يناير-2009
مشاهدات 10
نشر في العدد 1833
نشر في الصفحة 66
السبت 03-يناير-2009
إن سيطرة الرغبة في الاكتشاف تعد جانبًا من أهم جوانب الحضارات زمن تألقها؛ وهي إذ ذاك تعتمد على عقول أبنائها.. ولذا فإن أوروبا وأمريكا اليوم تريدان أن تكتشفا «الزهرة»، و«المريخ» بعد أن وصلتا إلى «القمر»، واكتشفتا «القطبين»، وأعماق البحار.
والمسلمون أيام ازدهارهم الحضاري كان فيهم «ابن جبير»، و«ابن بطوطة»، و«ابن فرناس»، وغيرهم كثيرون.. جابوا الأرض، واجتازوا البحار والمحيطات، وأوغلوا في مجاهل القارات.
وإذا نظرنا في كتاب الله فإننا نجد فيه دعوة صريحة للاكتشاف، منبثة في ثناياه من بدئه حتى منتهاه.. دعوة للاكتشاف في الأنفس والآفاق: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقنينَ وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات:20-21) ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أنفُسهمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أنّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53).
دعوة للتنقيب في أعماق الأرض واجتياز أقطار السموات: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك:15) ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ﴾ (العنكبوت ٢٠) ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنَّ وَالإِنسِ إِن اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ والْأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَان﴾ (الرحمن:33) ﴿قُل انتظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْض﴾ (يونس: ١٠١).
دعوة للتوغل بعيدًا، بحثًا عن السنن والنواميس التي تسير حركة التاريخ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أَنَا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقَبَ حُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (الرعد:41).
دعوة لكسر القشرة الخارجية للأرض، واكتشاف أسرارها وطاقاتها ومذخوراتها ﴿وأنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ للنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِي عَزيزٌ﴾ (الحديد:25)..
دعوة للكشف عما سخره الله لنا في هذا العالم من نعم وخيرات وتوظيفها لأعمار الدنيا ﴿اللهُ اّلذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لَتَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾ (إبراهيم:32) ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ واَلْقَمَرَ﴾ (النحل: ۱۲)، ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيَّا﴾ (النحل:١٤) ﴿أَلَمْ تَرَ أَنّ اللَّهَ سَخَرَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ﴾ (الحج: ٦٥)، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا منْهُ﴾ (الجاثية ١٣).
حيثما تلفتنا وجدناها دعوة صريحة للاكتشاف؛ إذ أريد للأمة المسلمة أن تؤدي وظيفتها الاستخلافية في العالم المسخر لها والذي انيطت بها مهمة إعماره وترقيته ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ﴾ (البقرة:۳۰) ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ﴾ (الأنعام: ١٦٥)، ﴿جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدهم لتنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس:14)، ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مَنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: ٦١).
إن هذه الأمة لا يمكنها بحال من الأحوال أن تمارس مهمتها العمرانية في العالم الذي استخلفت عليه، وبالوتائر المطلوبة ما لم تلتحم بفيزياء العالم، وتكتشف سننه ونواميسه وطاقاته وتسخرها لوظيفتها تلك.. والقرآن الكريم كله يستجيش كل طاقات الإنسان العقلية والحسية؛ لتحقيق أكبر قدر ممكن من البحث والتنقيب والاكتشاف.
ويوم أن انطفأت شعلة التنقيب والاكتشاف في عقول الآباء والأجداد دخلنا دائرة الانكسار الحضاري، وخرجنا من التاريخ؛ بعد أن كنا بتوقد هذه الشعلة قد ملكنا الدنيا وأصبحنا سادتها.
إن الدنيا والكون القريب لا يسلمان قيادهما إلا للأكثر فاعلية و«شطارة» وعلمًا، وإن ما تنطويان عليه من قوى وطاقات إنما هي سلعة مباحة لمن يعرف كيف يعمل عقله ويمد يديه.. وإلا فهو الخسران المبين ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء:20).
* باحث وأكاديمي عراقي
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل