العنوان ذكاؤك العاطفي
الكاتب أ. د. سمير يونس
تاريخ النشر السبت 22-نوفمبر-2008
مشاهدات 12
نشر في العدد 1828
نشر في الصفحة 58
السبت 22-نوفمبر-2008
«أنت عاطفي».. كلمة تقال كثيرًا في سياق نقدي عندما تكون بصدد اتخاذ قرار أو عندما تشارك في اتخاذ قرار.
قيلت لكاتب هذا
المقال في مواطن كثيرة، ربما في اجتماع عمل يهدف إلى اتخاذ قرار، أو ربما عند
التفكير بروح الفريق في حل مشكلة ما، أو عند التشاور الأسري، أو في جمع من الأقارب
يمثلون العائلة.
هل قيلت لك هذه
الكلمة - عزيزي القارئ؟ وهل قلتها لغيرك في موقف ما؟ هل العواطف والمشاعر نقيصة
وعيب؟ وإن كانت كذلك، فلماذا أكدها القرآن الكريم وأثبتها في صفات المؤمنين، قال
تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال: 2)، أليس وجل القلوب شعورًا وإحساسًا
وعواطف وانفعالات!!
فإن قيل: إنه
تأثير كلام الله عز وجل ولا علاقة له بالعواطف بين البشر فأعود وأقول: ألم يوجهنا
القرآن الكريم، ورسولنا الرحيم إلى أن نكون عاطفيين؟ ألم يقل الله عز وجل: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم:
21)؟! ألم يحثنا الإسلام على الحب والمودة؟ ألم يؤكد
شرعنا العظيم ضرورة تحقيق التراحم؟
ويقول ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
ولكن في المقابل:
ألم ينكر الله على نوح - عليه السلام - أن يطلب النجاة من الغرق والرحمة لولده
لأنه لم يؤمن؟ قال تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ
ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا
نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا
تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ﴾ (هود: 45- 46).
ألم يتبرأ إبراهيم
- عليه السلام - من أبيه عندما أصر أبوه على الكفر؟ قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ
حَلِيمٌ﴾ (التوبة: 114).
لعل بهذه التوطئة
أكون قد أوضحت أن العواطف ليست كلها خيرًا، وليست كلها شرًا، كما أن الذي
يميز خيرها من شرها أن ننظر: لمن نوجهها؟ فإذا وجهناها لأهل الإيمان والصلاح وذوي
الرحم والأحباب كانت خيرًا، وإذا وجهت لأهل الكفر والمفسدين والأعداء كانت
شرًا.
هل للعواطف حدود
بين البشر؟
ذلكم سؤال مهم؛
لأن الإجابة عنه تحدد لنا ضابطًا آخر لتصنيف العواطف إلى عواطف خير، وعواطف شر، فعاطفة
الإنسان تجاه غيره ممن يتعامل معهم ويعايشهم يجب أن تكون مقننة معتدلة، فلا هي
بالمنعدمة، ولا هي بالجامحة المبالغ فيها، وقد ضبط القرآن الكريم عواطفنا البشرية ونهانا
عن الإفراط فيها تجاه من نحب من البشر، كالأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء، قال تعالى:
﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ
اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ (البقرة: 165).
إذن، فلا ضير أن
تكون عاطفيًا ولكن بضوابط، وقد قدمت بين يدي القارئ هنا كوكبة من النصوص الشرعية
لأنني رأيت كثيرًا من الناس يلتبس عليهم الأمر، إذ يعتقد هؤلاء أن التفكير الجيد
لا يستقيم إلا بغياب العاطفة، ويتصورون أن الإنسان يخطئ إذا أشرك عاطفته عند اتخاذ
قراراته، ويعتقدون أن القرار هنالك غير صائب وسيورطه، وهذا ما دفع العقلانيين إلى
أن يتخذوا من تغييب العاطفة عند التفكير عقيدة لهم!! بيد أن تجارب الحياة أكدت أن
التفكير الخالي من العاطفة لا يؤدي بالضرورة إلى قرارات صحيحة.
إذن فالعاطفة لا
تؤدي إلى اتخاذ قرارات خطأ، بل الإفراط في العاطفة هو الذي يؤثر سلبًا على تفكيرنا
واتخاذنا لقراراتنا، ومن ثم فليس المطلوب مني ومنك - عزيزي القارئ - أن تغيب
عواطفك أو تنحيها تمامًا عند التفكير، أو عند اتخاذك لقراراتك، وإنما المطلوب
الاعتدال في عواطفك عند ذلك، فلا تكن متبلد العواطف، ولا هائج المشاعر والانفعالات،
وتلك هي الفكرة المحورية لما يسمى بـ «الذكاء العاطفي».. فما المقصود به؟
ما الذكاء
العاطفي؟
يعرف «دانيال
جولمان Goleman» الذكاء العاطفي بأنه: «قدرة الفرد على فهم
عواطفه وانفعالاته والسيطرة عليها واستثمارها، بالإضافة إلى قدرته على فهم عواطف
الآخرين وانفعالاتهم، ومن ثم إتقان إدارة عواطفنا، والنجاح في تكوين علاقات طيبة
مع الآخرين.. والذكاء العاطفي يعد مفهومًا عصريًا حديثًا، وله تأثيرات قوية ومهمة
في حياة الإنسان».
الذكاء العام
والذكاءات المتعددة
مضى على التربويين
حين من الدهر لم يكونوا يعرفون سوى نوع واحد من الذكاء هو الذكاء العام، ويعني
لديهم القدرة على التحليل والتركيب والتمييز والحكم والتصور وحسن التكيف مع
المواقف المختلفة.. ثم ظهرت نظرية الذكاءات المتعددة على يد جاردنر، التي رأى فيها
أن الذكاء ليس ذكاءً واحدًا وإنما هو سبعة أنواع من الذكاء، كما قدم تطبيقات نظرية
في كتابه: «العقل اللامدرسي» عام 1983م؛ إذ يرى أن للطلاب عقولًا مختلفة، تحوي
خليطًا من أنواع الذكاءات المختلفة، ومن ثم فهم يختلفون في مهارات قدراتهم وكيفية
تعلمهم.
وفي عام 1995م
أصدر «دانيال جولمان Daniel
Goleman»
كتابه الأول في الذكاء العاطفي، ومنذ ذلك الحين انتشر مصطلح الذكاء العاطفي انتشارًا
واسعًا، وتداولته أكبر الشركات العالمية الكبرى دراسة وتدربًا على القدرات
والمهارات المرتبطة به، وكذلك في سائر المؤسسات التربوية، ثم انتقل المصطلح إلى
عالمنا العربي، وعقدت الندوات وورش العمل والدورات التربوية والتنموية وغدا الذكاء
العاطفي صيحة عصرية اهتم الناس بها كاهتمامهم بصيحات الموضة في الملابس وقصات
الشعر، وغيرها مع فارق التشبيه بالطبع.
ولكن تبقى أسئلة
كثيرة تثار حول الذكاء العاطفي، أهمها: هل يمكن أن تقيس ذكاءك العاطفي؟ وكيف؟ وما
مكونات «عناصر» الذكاء العاطفي؟ وكيف تعمل العاطفة في الجسد؟ وما أهمية الذكاء
العاطفي في حياتنا؟ هذه الأسئلة وغيرها سنجيب عنها في مقالنا القادم إن شاء الله
تعالى.